Saturday 6th december,2003 11391العدد السبت 12 ,شوال 1424

     أول صحيفة سعودية تصدرعلى شبكة الانترنت

التطرف.. ظاهرة كونية التطرف.. ظاهرة كونية
د.عبدالعزيز السماري

حتماً هناك تفاصيل وخلفيات غير واضحة في صور ومشاهد الرعب التي نشاهدها بين الفينة والأخرى وهناك ظروف لا يمكن تصورها بدون الخوض في كهوف الإرهاب والتطرف بشجاعة، فأساليب التفجير والانتحار التي حدثت من شباب في مقتبل العمر لا يمكن تمريرها على أنها طيف شيطان عابر، أو نزوة مراهقة ملعونة، كذلك.. لابد ان ندرك بعقلانية أن التطرف ظاهرة كونية لم تختف منذ قتل قابيل أخاه هابيل، ومنذ عبرت قبائل العبرانيين صحراء سيناء من أجل مهمة محددة، ألا وهي قتل وتهجير سكان أرض ما بين النهرين بعد ان وهبها (يهووه) لشعبه المختار حسب ما ورد في (التوراة) المتداولة، ومنذ ضربت قريش الحصار الاقتصادي على بني هاشم في محاولة لقمع رسالة الإسلام التي جاءت بحرية العباد وتحطيم الأصنام، وتحقيق المساواة والعدالة بين كبار قريش، ومستضعفيها... ومنذ قدم الثوار العصاة إلى المدينة، ثم بدأ عصر الفتن والاضطرابات ومنذ توالي موجات الخروج الدموي على دولة بني أمية ودولة بني عباس، بحثاً عن تلك الجذور المثالية التي تركتها رسالة الإسلام في نفوسهم، ومنذ قاد المنشق علي بن محمد (الزنج) إلى قلب الخلافة العباسية وسلطتها المركزية، ومنذ بلغ التطرف والشقاق ذروته عندما خرج المارق حمدان بن قرمط من الأهواز، كافراً بدين الإسلام وبقيم العروبة، ومعلناً بدء تمرد الأعراب والموالي والقبائل على خليفة المسلمين وكسره لقيد الطاعة.
إن التطرف وثقافة القتال والتدمير بذرة كامنة في مختلف الثقافات، لها رموزها وخطاباتها وشعاراتها، التي تنحسر في حالة الرفاهية والأوضاع الاقتصادية المستقرة، وتستيقظ شياطينها إذا دب اليأس بين الجماهير البائسة، عندها يجد رموز «الشر» مبتغاهم، فيغسلون بمياه دافئة عقول البؤساء من العامة، ثم يكفنونها برسائل الموت والانتحار، ويبعثونها على قافلة الشيطان العابر إلى الجحيم.. قد نعرف الكثير عن تلك الرموز التي مرقت، وعن أفكارها وفلسفتها في الثورة والقتل والتمرد والخروج، ولكن الذي ربما لم تصل إلينا تفاصيله وأخباره بقدر كافٍ، هو حال الجماعات التي قررت بمحض إرادتها ان تمشي وراء هذا (المارق).. وذلك (المنشق).. مما يصعب على وجه اليقين إدراك الأسباب التي قادت أجيالاً صامتة إلى تفجير واقع يبدو على ظاهره أنه كان في أمن واستقرار، ولكن سيكون أيضاً من الصعب جداً فهمها على أنها جماهير زاغت عن صراط (الحق)، قد يكون ذلك أحد وجوهها، ولكنه يبدو ان هناك وجوهاً أخرى أظهرتها على السطح هيمنة طبائع اليأس والقنوط والبؤس في أحوالهم الاجتماعية بعد فشل أدوات (الصبر)، و(العفة)، و(الكفاف) و(الرجاء) في تثبيط جموح سلوك الطغيان والتمرد والانشقاق عن جادة (الحق).
فلم يكن حمدان بن قرمط إلا أحد أولئك الذين أرادوا تفتيت دولة بني عباس، لذا أسس مبادئ تقنع وتبرر للفلاحين والفقراء والبؤساء في الأهواز والعراق التمرد على مجتمع دولة بني عباس، ولم يكن (دافيد كوروش) إلا أحد أولئك الذين نصبوا العداء لسياسات الحكومة الفيدرالية الأمريكية، ولم تكن تلك المليشيات التي يصعب حصرها في أرياف الجنوب الأمريكي، إلا مارقين يرفعون شعار دعوة تمزيق الحلم الوحدوي لأمريكا، ولكن بقوى.. عتادها (المزارعون) الذين فقدوا حقولهم بسبب شركات الإقطاع الزراعية العملاقة، وعمال المناجم الذين سُرحوا من أعمالهم بسبب انتهاء المشروع أو لازدياد عرض الطبقة العاملة.. أو من الذين أتعبتهم رحلة البحث عن مأمن في العيش، وعن مرفق مجاني للعلاج، وعن مستقبل أكثر وضوحاً للأبناء.
ولم تكن المليشيات التي تعد بالمئات في الولايات المتحدة، التي منها ميليشيا ميتشيجان التي ينتمي إليها تيموثي ماكفاي منفذ انفجار اكلاهوما الشهير عام 1995م إلا دليل مادي على أن (أفكار) التطرف لايمكن ان تنتهي حتى في أكبر اقتصاد عالمي على وجه الأرض، إذا تهيأت له ظروف مادية (ينمو) فيها، ومع ذلك لم (تعلن) الحكومة الفيدرالية حالة استنفار ضد ميليشيات الفكر المتطرف، لكنها وضعت الخطط الاقتصادية التي تقلل من شعبية ثقافة التطرف والتمرد على المؤسسة الرسمية.
في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، كان التاريخ على موعد مع (زعيم) استطاع بنجاح قراءة أزمة التمرد في مجتمعه، حيث لم تستطع بعض الحكومات المحلية في بعض البلدان المجاورة تجاوز أزماتها الاجتماعية.
في ألمانيا.. قاد بسمارك حركة الإصلاح بشجاعة ضد القوى الاجتماعية المتمردة، وأصدر القوانين التي تؤدي إلى التخفيف من مساوئ الرأسمالية ووحشيتها، ومن اتساع الهوة بين دفتي الغنى والفقر، وذلك عن طريق التأمين الاجتماعي ضد البطالة والمرض والشيخوخة، وعن طريق تملك الدولة للمنافع العامة مثل السكك الحديدية، ومن خلال سن القيود واللوائح العامة، وتدخل الدولة لبناء عدد من مشاريع البنية الأساسية، وتملكها أولاً.. ثم بيعها بعد ذلك للرأسماليين، ومن خلال السيطرة على العديد من قطاعات ومراحل الانتاج وتملكها كقطاع للدولة.. لقد استطاع بسمارك بتلك الخطوات ان يزعزع علاقات الانتاج الاقطاعية ممهداً لإنهائها التام عام 1918، وان يطور من قوى الانتاج إلى ان تصدرت ألمانيا قائمة الدول الصناعية في العالم.
وفي اليابان أخذت حكومة الميجي بدءا من عام 1868 على عاتقها إنهاء الاقطاع التقليدي والعمل على تنقية المجتمع من آثاره السلبية، عبر توجيه رأس المال بالصورة الأمثل، التي مكنت الدولة من توجيه أنشطتها الاقتصادية نحو التحول التدريجي إلى الصناعة، فقد تحالفت الدولة مع بيوت المال الثرية، التي تنامت بدورها بفضل جهود الدولة لحماية رأس المال وتهيئة ظروف النمو له، ليقود التحالف الوليد خطة تمويل التصنيع التي بدأتها الحكومة فيما سمي بالقطاع العام الصناعي، الذي سلمته الدولة فيما بعد للشركات التي تسيطر عليها تلك البيوت المالية، مقابل تسهيلات في عملية البيع والسداد، ولكن ظلت الصناعات الاستراتيجية مملوكة لاقتصاد الدولة.
وربما تفسر تلك الرؤية العقلانية لألمانيا واليابان وكثير من دول أوروبا الغربية أسباب تبوئهم مراكز القيادة في سلم الحضارة الإنسانية في العصر الحديث.
وإذا شئنا اقتلاع جذور الإرهاب، فلابد ان نتعلم من التاريخ أن التطرف ظاهرة موجودة في كل المجتمعات، وأن الفكر أداة يطوعها الإنسان كيفما شاء، وإن استئصال أفكاره يعتبر ضرباً من الخيال، وعلينا أن نلجأ أولاً للعلم ومناهجه وأساليبه في الدراسة والبحث، حيث ان حصر المعلومات ثم تحليل نتائجها هي أكثر الوسائل جدوى للاقتراب بدقة أكثر من فهم ظواهر الواقع المختلفة، ثم التعبير عنها بدقة بعيدة عما قد يمارسه البشر أحياناً في (دردشة حرة) لا تتوخى الدقة، أو من تشويه متعمد لحقائق الواقع في بعض الأحيان، أو من تفسيرات ذاتية، تنبع من الرغبات والأهداف والمصالح في أحيان أخرى. فالقرارات العظيمة هي تلك التي تصدر بعد دراسة دقيقة للواقع، وتضع النقاط على حروف التمرد في المجتمع، والحرب الناجحة مع ظواهر الإرهاب والتطرف ومع نزعة تمرد المراهقين وأهداف المارقين هي في كسب المعركة في أوساط الشباب (الفاقد) للأمل، والخاسر لأدنى احتياجاته الدنيوية..

 

[للاتصال بنا] [الإعلانات] [الاشتراكات] [الأرشيف] [الجزيرة]
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الىadmin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت
Copyright, 1997 - 2002 Al-janirah Corporation. All rights reserved