Wednesday 10th december,2003 11395العدد الاربعاء 16 ,شوال 1424

     أول صحيفة سعودية تصدرعلى شبكة الانترنت

الانكفاء...! الانكفاء...!
إبراهيم عبد الرحمن التركي

«1»
** في مرحلة الدراسة المتوسطة التقط كتاب «التجربة المرة» لمنيف الرَّزار من بين كتبٍ أُعيرت لوالده «حفظه الله».. وقرأَ بضعَ صفحاتٍ منه تركزت على اقتناع «الرزّار» أن «التراث» هو العاملُ الرئيسُ الذي يقف عائقاً أمام تقدّم الأمة..!
** اعتاد على محاورة والدِه في معظم قراءاته.. غير أنه -هذه المرة- لم يحتجْ إلى ذلك.. فقد وجد تهميشاً بالقلم «الرصاص» بخط والده لا يزال يذكرُ كلماته مثلما كتبها: *وهل وُظّف التراثُ توظيفاً صحيحاً لتمكن محاكمتُه بمثل هذا الحكم..؟
** حوار «صامت» بين «توجيهين».. قرأه «ثالث» في فترة «التكوين».. فأثّر فيه.. وأثْراه.. ووعى أن لكل الحقَّ في أن يقول.. دون أن يُصادَر أو يصادِر «بالبناء للمجهول والمعلوم».. فلا تلغى العقول.. ولا تباع.. ولا تؤجّر.. وفي بعض ذلك نأيٌ عن تفجير صراعٍ «عبثيّ» بين «فرقاء» يزعمُ كلٌّ احتكار الحقيقة.. والاستقامة على الطريقة..!
«2»
** في المرحلتين «المتوسطة والثانوية» كنا ندرس «تفسير الجلالين» - في طبعته الأصلية-، ويتوقف بنا «معلّمونا» عند بعض الآراء التي يرون مخالفتها لمذهب «أهل السنة والجماعة» في إثبات الصفات لله سبحانه وتعالى من غير «تكييف ولا تمثيل ولا تشبيه ولا تعطيل».. ولم يطلبوا منا يوماً شطب عبارات «الجلالين» -رحمهما الله-..!
** كان مسلكاً ثقافياً رائداً، فلم يدفعْهم اقتناعُهم بمبدئهم خطوةً مضادة لإلغاء مبدأِ الآخر.. وأثّر فينا «مشايخُنا» فتبعنا «توجيهاتهم» مؤمنين بها، ولم ننع على «السيوطي والحِلّى» شططهما، فكان إثبات الرأي والرأي المضاد وسيط «إضاءة» لا عاملَ انطفاء..!
** مثل هذا قرأناه في شواهد «ابن عقيل» عند شرحه «للألفيّة»، وفي مقررات «البلاغة» و«العروض» و«الأدب».. وفي كتبٍ تراثية أخرى تضمنت بعض الفصول «المتجاوزة».. واحتوتها مكتبة المعهد العلمي، ومكتبة عنيزة العامة، ومكتبة مسجد الرويقي.. والمكتبات التجارية.. فكنا نقرأ ونناقش.. ونستعير ونستعيد.. دون أن تُمزّق صفحات.. أو تطمسَ صحائف.. ولم نخرج منحرفين.. ولم نبدُ غير متوازنين..!
«3»
** قرأنا في المكتبات.. مثلما «المقررات».. «المعلقات» -بكل ما فيها-، وأشعار.. «المنخّل اليشكري».. و«عمر بن أبي ربيعة».. و«بشّار».. و«أبي نواس».. و«الحسين بن الضحاك».. و«مسلم بن الوليد».. و«والبة بن الحباب».. و«مطيع بن إياس» .. و«المتنبي».. و«شوقي».. و«حافظ».. وفيها وفي غيرها من القصائد ما لايجرُؤ «ثقافيّو» اليوم على نشره في صفحاتهم.. كما لا يجرءون على نشر واحدةٍ من «ليالي» «أبي حيان التوحيدي» في «الإمتاع والموانسة»، أو بعض أبواب «الأغاني».. هذا عدا ما نقلته كتب التراث من فكرٍ «معتزلي» أو «صوفيّ» أو «أشعري» أو «خارجي» أو غيرها.. فلم نعادِها.. وإن عرفنا أن لنا طريقاً سواها..!
«4»
** لم يعب «سفيانَ الثوري» أن يرى «أبا نواس» أشعر الناس.. وهو القائل: «دع عنك لومي... » و.. «ألا فاسقني....» و.. «عاج الشقيّ..» و..«وعاشقين التفّ خداهما..» وما لا يسعه حصرٌ في عرضٍ عابر..
** ولم ير «أساتذتُنا» بأساً في أن نقرأ معهم في سن مبكرة:
** ولقد دخلتُ على الفتاةِ الخدَر في اليوم المطيرِ
الكاعب الحسناءِ ترفلُ في الدمقس وفي الحرير..
** ويستشهدون ونردد:
* يا ليتني كنت صبياً مُرضَعا
تحملني الذلفاءُ حولاً أكتعا
إذا بكيتُ قبلّتني أربعا
إذاً ظللتُ الدهر أبكي أجمعا
** ويُعجبون فنطرب:
* ولو أن ليلى الأخيليّة سلّمت
عليّ ودوني جندلٌ وصفائح
لسلمت تسليم البشاشة أوزقا
لها طائرٌ من جانبِ القبر صائحُ
** لم نُحلِّل.. ولم يُعللوا.. ولم نتبرمْ.. ولم يُبرِّروا.. وما كانوا أقل «غيرةً».. وما كُنّا أدنى «تديُّناً»..!
«5»
** يذكر من أيامه الأولى في الإشراف على الصفحات الثقافية بالجزيرة -قبل أقلّ من عشرين عاماً- أنه لم يكن «يشطب» حرفاً.. أو جملة.. أو سطوراً.. من أي موضوع مهما كان «شططه» في مخالفةِ القواعد «الإعلامية» المرعيّة، ويستبدل بذلك «تهميشات» عند «العبارات» أو «الرؤى» المتجاوزة يقرِّر فيها «رأي» المحرّر.. ليضع «القارئ» أمام مسؤوليته في الاطلاع على الصور الفكرية «المتناقضة».. فيختار منها ما يتفقُ مع «نظرتِه» دون أن يكون مجبراً -بحكم نفي الآخر- على «التصديق».. أو «التصفيق»..!
** آلمَه.. وهو يقدم أولى الصفحات التي كُلّف بإعدادها.. أن «هوامشه» و«تعليقاته» قد حُذفت.. ومعها الآراءُ التي «حادتْ» عن «الصِّيغِ» المحدودة.. أو «المؤطرة».. التي يقبلُها «الرقيب»..!
** عرف أن لا مجال لمراجعةِ «المسؤول».. أو «تراجعِه».. فالصِّحافة الرسمية ذاتُ معايير صارمةٍ يُراعى فيها «النظام العام».. و«الثوابت الشرعية».. و«التقاليد المرعيّة»..!
** أدرك حجم «المشكلة».. فثلاثيةُ «النظام».. و«الثوابت».. و«التقاليد».. مفاهيم «هلاميّة».. يراها المتابع بأشكالٍ «مختلفة».. وأحياناً «متضادة».. فما هو «غير مجازٍ» لاصطدامه مع أحد أضلاع «المثلث» في صحيفة ما.. سيكون معقولاً في صحيفة أخرى.. وهكذا في بقية «الوسائط» الإعلامية التي تخضعُ للإشراف الرسمي..!
«6»
** مثلت «الرقابةُ» عنصراً ذا شأن في «المتغيِّرات» الثقافية والاجتماعيّة بعد «حادثة الحرم» قبل ربع قرن، ثم بعد «حرب الخليج الثانية» إثر ذلك «بعقدٍ» من السنوات..!
** لم يعد الرقيب «الرسمي» بثلاثيته العتيدة هو الوحيد في الساحة، فقد ظهر رقيبٌ آخر غير مرئي..لا تُحسُّ «بخطوه».. ولا تشمُّ رائحته.. لكنه يفاجئك فيواجهُك.. ويكاتبك فيحاسبك.. وتتأمله فإذا هو رقيب «شمولي» يقرأُ «الصحيفة».. ويستمعُ إلى «المذياع».. ويتابعُ «الرائي».. ثم يبعث «بفاكس».. أو يتصل بهاتف.. دون أن يقدم «اسمه».. أو يُبرز «رسمه»..فيهزُّ الوسيلة.. ويُقلق «كتّابها» و«مذيعيها» و«مسؤوليها»..!
«7»
** زادت «المحرمات» على «الثالوث» ثلاث مئة، وبات بإمكان مَنْ شاء متى شاء أن يرمي «حجارتَه» دون «رويّة».. فصُنّفت أصوات، وصُودرت أصوات.. وهاجرت أصوات.. وصمتت أصوات.. وآثر الكثيرون السلامة ليجدوا في أسابيع النظافة والشجرة والسفر إلى الخارج والعنوسة وغلاء المهور والمناسبات العامة.. «مهرباً».. أو ربما «مكسباً».. وسادت الثقافة «العامية» بصفحاتها «اليومية».. ومجّلاتها «الشهريّة» المملوءةِ ارتزاقاً.. وتسطيحاً.. وشعراً مكشوفاً، وكان لها دورها في ابتعاد الشباب عن ثقافة «الفصحى» التي تحولت بدورها إلى «تقليد» ممل لا يحملُ موقفاً.. ولا يحتوي على إضافة.. بل زايد بعضُها من أجل «الوجاهة» والاتّجار بالمظاهر كما المشاعر..!
«8»
** استطاع الرقيب الاجتماعي «المستتر» أن يئد «الإبداع» و«التنوير»، واستجاب «المسالمون» و«المستفيدون» فظهرت أنماط جديدة.. وبرزت أسماء بليدة.. وانتشر «النظم»، وهاجرت «الرواية»، وتوارى «المفكرون»..!.
- وفي مثلٍ من مئات الأمثلة.. نشرت «ثقافة الجزيرة» قصة مترجمة لكاتب «تشيكي» لم تتخط بعض ما قاله «أبو العلاء» في «رسالة الغفران» و«المويلحي» في مقاماته.. لكن أحدهم من «أشباه العوام» لم يرضَ «بالتفسير» و«التقدير» فكان أن أزبد وأرعد..وهدّد وتوعّد.. ومكث أشهراً لم يُرح.. ونحنُ معه لم نسترحْ.. يطالب باعتذار فنرفضه.. ويُعيدُ الاتهام وندحضُه.. ورثيْنا «للإِبداع» يسومُه كل مفلس..!
«9»
** من السهل جداً أن تتعامل مع الرقيب الرسمي فبينكما حوار.. ولوائح.. ومسافات للمناورة «إقداماً».. أو «إحجاماً».. أو «احتكاماً» إلى من سن الأنظمة.. فربما كان الاختلاف لا يتجاوز اجتهاداً في التفسير..!
** ولعل من مزايا هذا «الرقيب» مرونتَه في تعديل «لاءاتِه»، أو تخفيضها.. أو إلغائها، ولا شك أن «الهامش» كان متسعاً.. ثم ضاق.. وعاد الآن إلى شيء من الاتساع.. وإن ظل أقل من الطموح..!
** أما الرقيب الآخر فقد امتدتْ يده إلى «الأقلام» و«الكتب» و«الأصوات» و«المقررات»..فكسّر، ومزّق، وصال، وجال، وأضاف، واغتال بمقدرة عجيبة لا يطالُها الراسخون في «العلم» و«الأدب» و«الإعلام» و«الاجتماع» و«التربية» و«الإدارة»..!
* «التعدديّة» أصلٌ وحلّ..!

 

[للاتصال بنا] [الإعلانات] [الاشتراكات] [الأرشيف] [الجزيرة]
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الىadmin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت
Copyright, 1997 - 2002 Al-janirah Corporation. All rights reserved