Wednesday 10th december,2003 11395العدد الاربعاء 16 ,شوال 1424

     أول صحيفة سعودية تصدرعلى شبكة الانترنت

17-2-1391هـ الموافق 13-4-1971م العدد 338 17-2-1391هـ الموافق 13-4-1971م العدد 338
قصة قصيرة
فريسة العناد

الوقت ربيع والازهار تتمايل في خيلاء وكبر، والاطيار تغرد فرحة بأيامها الحلوة الجميلة، وزقزقة العصافير تشدو على تينك الزنبقتين.
استيقظت الفتاة من مرقدها ووقفت على الشرفة تنظر إلى هذه المخلوقات، ونسيمات الصباح تحمل إلى أنفها رائحة البنفسج، وفجأة يظهر أبوها الشيخ ليحييها تحية الصباح فهرولت لتقبل يد والدها كالمعتاد. عاشت هذه الصبية مدللة منعمة في كنف والدها الذي يضع قصارى جهده ليشعرها بحنانه وحنان والدتها التي توفيت وهي لم تتجاوز العاشرة من عمرها.
كانت الفتاة في أحسن حال وأبهى جمال، حيث تقف أمام مرآتها كل يوم وتنظر إلى نفسها في خيلاء.. انها ابنة الثامنة عشرة، وتنظر إلى ملابسها الزاهية، وقدها الممشوق.
وكانت ذات ليلة تقف هذه الوقفة أمام المرآة لا لتنظر إلى جمالها.. بل لأنها مدعوة إلى حفلة زفاف لاحدى قريناتها.
انها مزهوة فرحة إلى أن حان الوقت لتذهب إلى ذلك الحفل، جلست في ساحة الحفل على أحد الكراسي بجانب احدى صديقاتها وكانت تنظر إلى قريناتها الذاهبات والآيبات مبتسمة ابتسامة الزهور لضوء الفجر، ثم تعود للحديث مع جارتها التي أخذت تقص عليها أقصوصات الافراح والمسرات الى أن وصلت إلى قصة زواجها وكيف كانت سعادتها في منزل الزوج وكيف كانت ترفرف حمامات الانس والمحبة على ذلك العش الجميل الهادئ.
انتهى الحفل حيث دقت الساعة الثانية والنصف بعد منتصف الليل.. وذهبت فتاتنا إلى منزلها لتريح جسمها من عناء السهر وعينيها من عناء الاضواء.. وبعد أن وضعت رأسها الى الوسادة لتنام.. ولكن هيهات أن يصل الى عينيها النوم.. انها شابة ألا تصلح أن تكون زوجة مثل قريناتها اللواتي تزوجن؟ لماذا لم تكن ربة منزل وأماً لأطفال؟
ألم يأت الزوج؟ ألم تصل اللحظة؟ ألم يشأ الله؟
هذا ما نسجه خيالها المرهف لصدى الكلمات التي سمعتها ولاعادة المناظر أمام عينيها ودام الحال هكذا حتى أوشك الفجر أن يلامس ستائر غرفتها.
ولكنها أشفقت على نفسها وتحاملت على أن تنام، لتترك خيالات الافكار إلى وادي النسيان.. وبعد ساعتين.. واذا بالباب يطرق طرقا خفيفا وتنهض لترى الخادمة واقفة تحييها تحية الصباح وتقول: ان والدك ينتظر لتناول وجبة الافطار.. وأخذ الحديث يدور والشابة بقرب والدها الشيخ.. فسألها.. كيف يا ابنتي كانت الحفلة؟ أجابت الفتاة في شيء من الحياء.. انها ليلة جميلة يا أبت.. وما أن انتهت حتى فاجأها بتنهيدة عميقة وقال: انني أنتظر لك بعون الله ليلة أجمل منها.. ولكن آه.. لم يصل الزوج بعد الذي أريده.. والذي طالما أفكر فيه.. سبق وطلبك شاب من متوسطي الحال ولكن رأيت أن حالته لا تحقق ما أتمناه من فخر وتباه.. ولحظات تسكن فيها الكلمات.. ولم تستطع الابنة الغالية الا أن تنهض حامدة الله على نعمائه.
مضت السنوات ولم يطرق الباب طارق يطلب يد ابنة هذا الشيخ حتى تجاوزت الخامسة والعشرين من عمرها وهي في دوامة لا تنقطع من التفكير في قريناتها اللواتي في سنها واللواتي أصغر منها، قد تزوجن وكل واحدة منهن تروي قصة حياتها بكل اعتزاز وفخر وأخذ هذا التفكير منها كل لحظة من حياتها ودقيقة، وهي منعزلة واجمة، حيث انقلب ذلك الملاك الباسم الى عبوس خامل، حتى تحولت تلك الابتسامة النضرة من ربيعها الى خريف يحمل معه البؤس والحرمان، وفجأة يظهر الشحوب على محياها الهادئ ليخفي معه احمرار الشفتين الى اصفرار كئيب، وسرى التعب إلى جسدها وظهر الهزال بمظهره الاليم، وأخذ خبر الشيخ ينتشر بين أفراد العشيرة والبلدة متضمنا بأنه لا يريد لحسنائه الا زوجا من عائلة لغتها الارقام وحديثها العقارات والاملاك، وعرف عنه هذا المبدأ لذلك تركه كل من يريد التقرب له وانقطع بذلك كل نصيب عن حسنائه.وفي احدى الليالي المظلمة في وجه هذه الفتاة أحست بألم يداخل سائر جسمها، وتحملت بالصبر حتى أشرقت الشمس لتطلب إلى والدها احضار الطبيب.. واستمر الحال كذلك وصحتها في حالة من التقهقر، ووالدها في حيرة من أمره، لم يدع دواء الا اشتراه ولم يترك طبيبا الا أحضره، ولكن هيهات.. الألم يزداد والعلة لم تكن معروفة، وأخذ شبح الموت يرسل ظلاله على ذلك الوجه الذي لم يظهر منه الا العينان الغائرتان اللتان تحدقان في اللاشيء وشيخنا الجليل قابع بقرب ابنته يرفع يده ضارعا إلى الله أن يرفع ما حل بابنته والدموع تنهمر من عينيه حتى فاضت سرائره وتنهد قائلا.. ابنتي.. ابنتي انني ظلمتك.. أرجو المعذرة.. أرجو الصفح.. وجاء الجواب من بين الشفتين الجافتين المرسومتين على وجه عروس الموت.. أبت الغالي.. ان الموت علينا حق.. فلا تحزن.. ولكن تذكر أن ابنتك ذهبت مع تيار المادة الفانية، فريسة للخيلاء المنتحر على صخرة الابد.. فلا تيأس.. اني راحلة اني راحلة.. وفجأة تحولت حدقتا عينيها وأسلمت الروح.

الشريف حسين غالب الشقراني/ المدينة المنورة - إدارة التعليم

 

[للاتصال بنا] [الإعلانات] [الاشتراكات] [الأرشيف] [الجزيرة]
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الىadmin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت
Copyright, 1997 - 2002 Al-janirah Corporation. All rights reserved