Saturday 3rd January,200411419العددالسبت 11 ,ذو القعدة 1424

     أول صحيفة سعودية تصدرعلى شبكة الانترنت

من أين أتينا؟ من أين أتينا؟
مهنة المتاعب.. معرفة الواجب أم أداؤه؟
د. عبدالله بن ناصر الحمود*

يروي قدماء أساتذة الإعلام أن مهنة الصحافة تعد مهنة المتاعب الأولى من دون المهن الشاقة الكثيرة التي يؤديها الإنسان. والصحافة - هنا - مفهوم شامل يحتضن كل وسائل الإعلام، كما هو معلوم لدى أهل المجال من العرب، والعجم الذين يطلقون كلمة (Journalism) لتعني الإعلام عامة والصحافة بوجه خاص. وأذكر أن (متأعلما) من طلاب المستويات الأولى في أحد أقسام الإعلام قال لي مرة: صحيح.. أعتقد أن الصحافة هي فعلاً مهنة المتاعب، وراح يبرر ما ذهب إليه، حتى أتى على أكثر من عشرين دليلاً. وكان جل ما ذكره الطالب يتمحور حول مهنية العمل الإعلامي بشقيه (الشكل والمحتوى). وقد أعجبني جداً أن طالبا في المراحل الأولى لتعليمه المتخصص يمكن أن يُقبل على هذا التخصص (ذي المتاعب) بل ويتطلع لأن يمتهن هذه المهنة المتعبة بعد تخرجه. لكن قدماء أساتذة الإعلام، أشاروا، أيضاً، إلى أن لدى أصحاب مهنة الإعلام رسالة نبيلة يقدمونها للناس قوامها الكلمة والصورة. وفي مقابل هذه الرسالة تضمحل كل المتاعب وتتلاشى آثارها ليبقى بريق العمل والجد والإخلاص والتضحية بالجهد والوقت من أجل المصلحة العليا التي ينشدها المجتمع الإنساني. ورغم الفارق الزمني الذي يتجاوز الخمسة عشر عاما بين مداخلة الطالب المذكورة وكتابة هذا المقال، إلا أن هذه الواقعة قد عادت إلى ذاكرتي عندما جد الجد في العالم المعاصر ليتجلى العمل الإعلامي المرئي والمسموع والمقروء بضرورة المساهمة الفاعلة في حمل أعظم أمانة يجب أن تؤدى للناس: حفظ التوازن بين الفعل العقلي والتبنّي العاطفي لقضايا مجتمعنا السعودي، والحفاظ على مكتسباته النبيلة، وواقعه المشرق، ونقله إلى مستقبل أكثر إشراقاً.
تلك معادلة من أصعب المعادلات على مؤسسات التربية والتعليم والثقافة، وهي ثقل ينوء به الإعلام، لأنه كل ما سبق، فهو تربية، وتعليم، وثقافة. وهو - أيضاً - غير ذلك وأشمل منه. إذاً، يمكن القول إن على مؤسسات الإعلام أن تؤمن إيماناً عميقا بأن قدرها أن تكون موطن المتاعب، وأن العاملين فيها هم مجموعة ممن يَتعَبون ويُتعَبون، ولكنهم أيضا يُتعبون غيرهم ممن هم خارج المؤسسة الإعلامية كلما لاح في الأفق رسالة يرى الآخرون أن الإعلام أولى بها لكنه لم يؤدها، أو أنه قام بممارسة يرى الآخرون أن غير الإعلام أولى بها. فالإعلام - بذلك - بين مقصلتين: الكفاية في كل ما يمكن القيام به، والترفع عن مزاحمة الآخرين مهماتهم ووظائفهم المجتمعية. وذروة إتعاب الإعلاميين أنهم لن يتمكنوا من الفصل الدقيق بين رسالتهم في الكفاية الإعلامية، واكتفائهم بالرسالة التي لا يزاحمون فيها مؤسسات أخرى في المجتمع، ليس لعدم قدرتهم على عملية الفصل، ولكن لأن مقاييس الفصل غير مستقرة عند غير الإعلاميين عادة، بل هي متحركة ومتغيرة بحسب الأحوال والأزمنة، وما يجمع بينهما من مستجدات محلية وعالمية.
ربما أُتينا من اختلافنا حول دور مؤسساتنا الإعلامية في المجتمع: فكرا ومنهجاً وممارسة. فأتعب الناس الإعلاميين بكثرة النقد، وتضييق المجال، واحتكار المعرفة والمعلومة، وسطان الرقابة. في حين أتعب الإعلاميون الآخرين بضعف ما في الكفاية المهنية، ونقص في المساهمة في تحقيق الأهداف المجتمعية العليا، وإصرار على العمل وفق منظومة وظيفية وإنتاجية متقادمة. وربما أتينا أكثر من خلال تقاذف مسؤولية توفير البيئة الملائمة للعمل الإعلامي الاحترافي، وسيبقى الإعلام أكثر إتعاباً ما بقيت بوابة التقاذف تلك مُشرعة والشُّقة واسعة دون أن تُرتق.

* عميد كلية الدعوة والإعلام بجامعة الإمام


[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][الأرشيف][الجزيرة]
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الىchief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الىadmin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت
Copyright, 1997 - 2002 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved