Tuesday 6th January,200411422العددالثلاثاء 14 ,ذو القعدة 1424

     أول صحيفة سعودية تصدرعلى شبكة الانترنت

لا تلوموا (صدام) ولوموا أنفسكم لا تلوموا (صدام) ولوموا أنفسكم
د.حسن بن فهد الهويمل

وصيد (صدام) كما تصاد الجرذان المؤذية، ووصل كل الأطراف إلى مشارف القضايا، وأصبح كل شيء في ذروة تعقيده، واستحالة تصوره.
فالشعب العراقي تنفس الصعداء، لأن العفريت الذي انفلت من قمقمه عاد إلى قبضة قوية لن يفلت منها. وعلى ضوء الخلفيات الذهنية لم يكن أحد يتصور النهاية البشعة والمهينة، وإن كانت تجارب الأمة مع ثورييها تشي بمثل هذه المصائر المؤلمة، فالزعامات الثورية لا تغرس عروقها الظالمة إلا على الجماجم والأشلاء، مختصرة الوطن في شخص المغتصب، مكرساً إعلامها شخصنة المؤسسات، غير ملتفت إلى تشخيص الأدواء.
والذين انهالوا على (صدام) بأقذع الكلام وأسفِّه، يفوتون على راهنهم فرصة التأمل (لما بعد صدام)، لقد انتهى شر نهاية، وطويت صفحته بما فيها من بشاعة وقبح، وسيظل وثيقة إدانة لسياقه وأنساقه التي عاشها، وإن تمت كل تجاوزاته تحت سمع المخابرات الغربية وبصرها. ويوم أن كان يقاتل عنهم بالإنابة، كان الدعم ينهال عليه من كل جانب، ولما أن فرغ من دوره على مسرح الدمى، لم يحتمل الاقصاء، فعاد يكسر في خلفيات المسرح وفي الدمى، قبل أن تنتهي فصول المسرحية، الأمر الذي جعل اللاعب الغربي يأطره على رغبته أطراً ويصوغ خطابه على ضوء المستجدات، ناسياً ما سلف، دون أن يتغير شيء من المقاصد، ومصيبة الأمة ليست فيما حصل، وإنما هو في فهم ما حصل على غير حقيقته، وتصديق الرأي العام للمتغير الأدائي.
و(صدام) الضجة لم يكن عدوَّاً للغرب بقدر ما هو عدوٌّ لأمته ومصالحها، لقد كان مخلب القط في كل حروبه الخليجية، وحين تبين له أنه ألعوبة غبية، وأن ليس له مما فعل إلا العار والخسار، ولما لم يقبض ثمناً لأدواره الجارحة للكرامة العربية، ثارت ثائرته، واختلطت عنده الألوان، وتداخلت الأطياف والرؤى، ووجد نفسه كما (الثور الأسباني) في الحلبة، يمعن المصارع في تهييجه، حتى يثخنه، وحتى تخور قواه ويسقط، ثم يسحب من ذيله، وكل الفرق بين الاثنين أن (صداماً) سحب من شعر رأسه ولحيته، فيما سحب الثور المصارع من ذيله، لقد وقف على مفترق الطرق يتنازعه:- الخنوع لتبعات اللعبة، أو مواجهة قدره.
ومنذ أن دحرته القوة العالمية في الكويت، لم يكن يتصرف بعقل، ولم يبد على حقيقته إلا حين نسل من حفرته أشعث أغبر، لقد ظهرت الحقيقة التي أخفاها وراء حجب من الأقنعة. وأمريكا التي تتقن فنون الحرب، وتملك آلياته، تتقن كذلك متطلبات الحرب النفسية والإعلامية، لقد أحكمت التمثيل والإخراج لخطوات القبض عليه، ولم تمسه بقدر ما مست كرامة الأمة العربية.
وحيث أجمع المتابعون للقطات القبض عليه على أنها مصنوعة بإتقان، لإهانة الكرامة العربية، وتعميق أثر الحرب النفسية، فإننا نود لو أن القابضين عليه احترموا مشاعر العرب، واكتفوا بالعرض المقتضب، لتأكيد الخبر، لا لتعميق الإهانة. وإذا كانت أمريكا قد حققت نصرا بهذا القبض، فإنها دخلت نفقا مظلما، قد لا يكون المستقبل أحسن حالا من الماضي. والذين يغامرون في مواجهتها في مواقع عدة من العالم، بدؤوا يتجهون لمواجهتها في العراق، ومتى تحول العراق إلى ساحة لتصفية الحسابات فستظل أمريكا تدفع بمزيد من الجنود والعتاد حتى إذا لم تستطع حسم الموقف لصالحها سلمت السلطة لمن يعيد العراق إلى سالف عهده المظلم.
والقواصم أنها شرعنت لنفسها الغزو، وأعلنت من جانبها أنها محتلة، وليست باحثة عن أسلحة، ولا محاربة لإرهاب، ولا جالبة الحرية. وكم هو الفرق بين الاحتلال والمواجهة لهدف معلن.
لقد كانت تتقلب في حيثياتها، وتنوع مبررات حربها، وكلما أسقط في يدها، التمست حجة أوهى من بيت العنكبوت، ولن نمضي معها في تقلبها، فذلك قول متداول يعرفه القاصي والداني، وإنما نريد أن نلوم الساسة والمفكرين والكتّاب العرب الذين تلهيهم الدعاوى الكاذبة فيشتغلون فيها عما أوجبه الحق عليهم، وكأنهم فقهاء (بيزنطة).
والقبض على (صدام) وأسلوب العرض المؤذي أضاف إلى آلام الأمة آلاماً، ولم يحملها على تغيير ما في نفسها، وقد يؤدي ذلك إلى قلب الموازين. (صدام)، فرد صنعته القبلية أو الحزبية أو (اللعب الكونية)، ودعمه الإعلام الكاذب، وتسترت عليه القوى العالمية لمقاصد بعيدة لا يعلمها إلا الراسخون في علم السياسة. (صدام) شفرة محكمة الصنع إذا تمكن التاريخ من تفكيكها فإن الإدانة ستمتد إلى كل من يستطيع القول ثم لم يقل، ولكل من يستطيع الفعل ثم لم يفعل، ولكل من يستطيع الاعتزال ثم لم يعتزل.
وإذا كان (صدام) على رأس المؤسسة القبلية والحزبية (الدكتاتورية)، فإن آخرين خارج المؤسسة دعموا أو باركوا أو صمتوا، وهم شركاء في الخطيئة.
وإذا كنا مع الذين يحاربون أعداء الإنسانية، ويرفضون الظلم، فإننا لن نقع في رذيلة النظر بأكثر من عين، والكيل بأكثر من مكيال. سياسيون وإعلاميون ساندوا النظام المنحل، وباركوا خطواته، وأغمضوا عن جرائمه، وفي مقدمتهم دول الحضارة و(الديمقراطية)، وحين وقع في المصيدة، انحلت عقد ألسنتهم، وانطلقت تسلق ذات الرئيس، وكأنه وحده الذي حارب واحتل وقتل وعذب وشرد وسجن، وما هو في حقيقة الأمر إلا حلقة صدئة في سلسلة طويلة من الخطائين: جماعات وأفراداً. ولسنا هنا ندافع عن هذا المجرم الذي تولى كبر الجرائم، ولكننا نود ألا يكون وحده المشجب الذي تعلق عليه كل الجرائم، ثم لا نجد حرجاً من إعادة الفعل وصناعة الأصنام.
وإذ نرى محاسبته حساباً عسيراً، وأخذه أخذ عزة واقتدار، نود ألا يكون ذلك (بيد عمرو)، فأمريكا ليست على الأمة العربية والإسلامية بوكيلة، لا يحق الحق إلا هي، ولا ينصف المظلوم إلا هي، ولا يجلب العدل والمساواة إلا هي، ولا يصدر (الديمقراطية) إلا هي. ومن العار أن نستورد الحرية والعدالة والمساواة كما نستورد السيارة والثلاجة والتلفاز، ومن العار أن نردد كالببغاء ما تقوله وسائل الإعلام الغربي، فإذا تحدثوا عن الإرهاب التقطنا الخيط منهم، وقلنا مثل قولهم، وإذا ادعوا أنهم يذرفون الدمع على ما تعانيه الشعوب من ظلم وجهل وتخلف بادرناهم وسرنا وراءهم كالقطيع، وإذا حددوا مصادر الإرهاب أسرعنا إلى التنازلات.
ومع ضجة الفرح والشماتة والاستياء والامتعاض بعد القبض على الرئيس فإن الخبيرين الضالعين في صنع الدمى وإحكام اللعب يتخوفون من (محاكمة) صدام على مشهد من الرأي العام، ذلك أنه لن يعترف، ولن يعتذر، وإنما سيمارس الإسقاط والتخلي، ومن ثم فقد يزج بدول ساندت وبأشخاص باركوا، فالمؤكد أنه ليس الضالع الوحيد في اللعب الكونية، وليس هو الطاغية الأوحد، ولا الغبي الأوحد. وحين تتاح له فرصة الدفاع عن نفسه فإنه سيقول الواقع، والواقع لا يشرف الجميع. ثم إنه سيخفف من حدة المساءلة باستدعاء لاعبين كباراً، مارسوا معه الدعم أو غض النظر ردحاً من الزمن، دعموه بالقوة وبالمعلومات وبالدعاية، حتى إذا استهلك كل الأقنعة، وغرد خارج السرب امتدت أيديهم إليه، ولو أنه حين استخفوه أطاعهم لظل زعيماً مدعوماً، وهو حين لم يطع لم يكن مدفوعاً بالوطنية ولا بالإنسانية ولا بالعقل، وإنما تداخلت عنده الخيارات، حتى لم يستطع في اللحظات الحرجة من التمييز بين المنجي والمهلك.
وحين يقدم للمحاكمة فمن المدعي؟ أمريكا المحتلة، أم الشعب العراقي المهمش، أم دول الجوار المتأذية.
وهل أمريكا محقة بحربها، مقتصدة في مواجهتها؟ وحين لا تكون محقة ولا مقتصدة، فبما تواجه صدام؟ إن واجهته بسلاح الدمار الشامل فحجتها واهية، وإن واجهته بوصفه مجرم حرب، فهي لم تخول دولياً بطرح الدعوى، وكم من مجرمي حرب يسرحون ويمرحون، وإن واجهته بأنها محررة لشعبه ومقيمة للحرية، فهي قد أعلنت أنها محتلة والاحتلال نقيض الحرية. أحسب أننا بحاجة إلى أرضية قانونية شرعية تقنع الرأي العام العالمي الذي لم يعد ألعوبة للدعاية المشكوفة.
(صدام حسين) طاغية، ودموي، ودكتاتوري، أذل شعبه، وأضر بجيرانه وأهان أمته وفرق كلمتها، وحقه أن يلاقي كل جزاءات ذوي الحرابة من قتل أو صلب أو تقطيع أيد وأرجل من خلاف أو نفي من الأرض، غير أن الإشكالية ليست في نوع العقوبة، ولا في المحاكمة السرية أو العلنية، ولا فيمن يتولى ذلك، الإشكالية في نتائج حرب غير مشروعة، واحتلال أرض حرة، وإسقاط حكومة، وإلغاء وزارات، وإحداث فراغ دستوري، وإتاحة الفرصة لقيام كيانات قبلية وطائفية وعرقية، ومقاومة عنيفة لا يعرف مصدرها ولا هدفها ولا مداها، كل ذلك تجاوز بفداحته فعل الطاغية وحدث اعتقاله ومحاكمته.
وحين لا نرحب بمزيد من الفضائح، وحين نغلب جانب رفع الأقلام، وطي الصحف، ونسيان الماضي ومآسيه، ورفع كل الملفات المتمثلة بالخيانات والمواطآت، استعداداً للنظر إلى المستقبل، والأخذ بالحلول المرحلية، فإننا ننظر إلى وضع أليم تعيشه الأمة العربية، ولن يتأتي ذلك إلا بتضافر الجهود العالمية والعربية لحل إشكالية العراق، وأحسبها تتمثل بالخطوات التالية:
- حصر الوجود الأمريكي في أضيق نطاق، وعلى شكل قاعدة عسكرية مؤقتة تمثل صمام أمان بعد الفراغ الدستوري، وتحول دون استبداد أي طائفة بالسلطة أو قيام حرب أهلية تصفى فيها حسابات وثارات.
- تسليم جميع الملفات لهيئة الأمم المتحدة ولجامعة الدول العربية.
- تشكيل أمن داخلي، وتسليم أمن كل منطقة للأغلبية السكانية فيها، وتحميلها مسؤولية استتباب الأمن.
- البدء في الإجراءات الدستورية والقضائية والتنفيذية، ومباشرة وضع دستور وآلية انتقال السلطة، وتوزيع المناصب والحقائب الوزارية: إقليمياً وطائفياً وقبلياً، حتى إذا وعت الأمة مسؤوليتها، وذاقت طعم الحرية، أجريت انتخابات حرة، تحت رقابة مشددة: محلياً وعربياً ودولياً.
- وقبل كل ذلك تعليق كل المشاكل، وإيقاف المحاكمات، وتأجيل كل الديون، وفك الاختناقات الاقتصادية، وتخفيف حدة الفقر والبطالة، وإعادة القدر الكافي من البنية التحتية، وذلك من خلال ممارسة إنسانية تنسي الشعب العراقي ويلاته ومصائبه.
فأحداث العراق تنتقل من سيئ إلى أسوأ، وليس من المصلحة نشر الغسيل، إن هناك جريحاً ينزف ومجرماً في السلاسل، فهل ندع الجريح، ونشتغل مع المجرم؟ لقد وقعت الزعامة العراقية في أخطاء فادحة، لها ما بعدها، وليس من السهل حسم ذيولها، فحربها الحدودية مع إيران عمل سيئ.
واحتلالها للكويت وانصياع دول عربية مع العراق شكلت كارثة الكوارث، ولكن الأسوأ من ذلك العناد الغبي ثم التسليم المهين.
واحتلال العراق من قبل القوات الأمريكية كارثة عالمية، لقد هيأ الفرصة لحرب أهلية دموية لن تزيد الشعب العراقي إلا ارتكاساً في حمأة الفتن العمياء التي تجعلهم يترحمون على (صدام حسين). ذلك أن صداماً لا يبطش بطش الجبارين إلا فيمن يعترض سبيله، أما فتنة الاحتلال والفراغ الدستوري فإنها ستمتد إلى المقيم والظاعن والساعي إلى الفتنة والهارب منها.
والقبض على (صدام) سيؤدي هو الآخر إلى مزيد من المتاعب لأمريكا، لأنها تمارس أعمالها القمعية في جو من الاستياء المحلي والعربي والإسلامي والعالمي، ومهما سايرتها الأنظمة العالمية وجاملتها مداهنة أو مداراة أو تقية فإن الشعوب بما فيها الشعب الأمريكي لها تحفظات وتساؤلات، لا يمكن غض النظر عنها.
إن إنهاء حكم (صدام) الحزبي القبلي الجائر ضرورة، وإنقاذ الشعب العراقي ضرورة، ولكن الإجراء لم يكن هو الخيار الأفضل. ومع أنني متأكد من أن أحداً داخلياً أو خارجياً لن يستطيع إسقاط النظام، ولولا مغامرة أمريكا وخروجها على الشرعية لظل كما هو زعيماً أوحد لا ينازع، فإنني كنت أتمنى من المعارضة العراقية عدم تحريض أمريكا على المواجهة العسكرية، وكان بالإمكان تشديد الوطأة عليه، وجمع كلمة الأمة العربية، لتضييق الخناق، حتى يذعن كما أذعن غيره.
ومع تهافت الزعامات المطاردة من قبضة أمريكا إلا أن الخصم الألد لأمريكا ليس حصراً في الخمسين رجلاً تطاردهم، الأعداء المتربصون من يسربون السلاح والمقاتلين ومن يفخخون السيارات ويفضلون الموت على الحياة، ومن هانت نفسه عليه فلن تثنيه ترسانات، ولن تقصيه مخابرات. وأمريكا التي تحتفل بالقبض على (صدام) لم يدر بخلدها أن المقاومة لو وجدت (صداماً)، لقتلته، المقاومة تصفية لحسابات وثارات، وعلى أمريكا أن تعيد حساباتها، فالطريق شاق والخروج من المأزق صعب.


[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][الأرشيف][الجزيرة]
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الىchief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الىadmin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت
Copyright, 1997 - 2002 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved