Saturday 17th January,200411433العددالسبت 25 ,ذو القعدة 1424

     أول صحيفة سعودية تصدرعلى شبكة الانترنت

تنظيم «المكاتب» وسلطة البيروقراطية.. تنظيم «المكاتب» وسلطة البيروقراطية..
د. عبد العزيز السماري

يصب البعض جام غضبهم على «البيروقراطية» عندما يواجهون تعقيداً أو إجراءات «مطولة»، ويستخدم آخرون المصطلح لمهاجمة «الروتين» وظاهرة التكرار في حياتهم العملية، كما يتكل عليها البعض الآخر عندما يريد مهاجمة موقف ما متبلد، بينما البيروقراطية كما عرفها الشخص الذي ابتكر المصطلح وهو العالم الألماني ماكس ويبر الذي عاش بين 1864-1920، هي «تنظيم حكم المكاتب»، أي أن مكتباً صغيراً «في السلطة أو الإدارة» يتبع مكتباً أعلى منه، والمكتب الأعلى منه يتبع مكتب أعلى آخر، وهكذا، فالبيروقراطية هي «المكاتب» التي تستخدمها مؤسسات الدولة لتسيير الشؤون العامة، ويشغلها موظفون يتوقع منهم ممارسة أدوارهم ومسؤولياتهم من مكاتبهم، ومع مرور الأيام يصبحون أكثر الأشخاص معرفة بتسيير الأمور، مما يمنحهم مزيداً من العمر والقوة في تلك المكاتب.
وفي زمن المجتمعات القديمة، كان «الوالي» يركب فرسه ومعه الجند والسيوف لفرض الأوامر التي يريدها، ومع تطور المجتمعات صار لديه أشخاص متعلمون، يكتبون له الأوامر التي عادة تصبح قانونا بسبب قوة سلطته الداعمة لها، وتطورت هذه الحالة مع مرور السنين لتصبح ما هي عليه البيروقراطية أو الخدمة المدنية في هذا العصر، فالإدارة التنفيذية تبعث بأومرها من خلال المكاتب ولا حاجة للسلطان أن يذهب بفرسه وسيفه لفرض الأوامر، ومهما كان في الوالي أو السلطان من خصال صادقة ونوايا حميدة، إلا أن سلطة المكاتب الإدارية واتساع نفوذها تحدد المعلومات والأسلوب لأي مشكلة أو أزمة استطاعت النفاذ من أبواب تلك المكاتب المحكمة إلى أعلى، ومع اتساع شبكة المكاتب ونفوذها، تقل درجات الاتصال مع قرار السلطة، ويبدأ ظهور قوى مستفيدة داخل جدرانها، تملك قدرات لتعطيل قرارات قادمة من اعلى، ومتمكنة من تمرير ما يتوافق مع مصالحها الذاتية..، وقد تصل قوة «التنظيم» إلى قوة مؤثرة على مسارات الخطط التنموية والمشاريع الوطنية، ولكنها تتميز باختفائها تماماً تحت «طاقية» الإخفاء في ظل «الرسمية»..، ولا يشعر بقوة تأثيرها إلا الذين لا يتمتعون بحصانة من سلطاتها «الخفية».
وقد وصف «ويبر» البيروقراطية على انها الأسلوب المنطقي الفعال لتحقيق أهداف المنظمات في الدول الصناعية إلا أنه شبهها بالقفص الحديدي الذي يكبر مع تطور المجتمع الحديث وقد يصل الأمر لدرجة لا يتحملها الإنسان، وذلك عندما يصبح المرء ضحية «لروتين» الماكنة المكتبية، وهذا يعني أن إنسان العصر قد يقع ضحية للبيروقراطية، ويشعر بالغربة عن بيئته الاجتماعية، فالمزارع الذي كان يزرع أرضه بصورة بدائية وطبيعية أصبح الآن بحاجة إلى أن يملأ الاستمارات للحصول على رخصة من هذه الدائرة ورخصة من تلك الوزارة، وأن عليه أن يخصص أوقاتاً كثيرة لعملية «تخليص الأوراق» من المكاتب الحكومية، بمعنى آخر فإن المزارع، أو العامل أو الموظف لم يعد يسيطر على بيئته، وإنما عليه أن يخضع لتلك الآلية المكتبية والمسماة بالبيروقراطية، التي هي سمة ملازمة للعصر الحديث.. ربما لأنها شر لابد منه..
وبما أن المجتمع العصري لا يستطيع التحرك دون بيروقراطية، فإن الأشخاص المسيطرين على «المكاتب» يحصلون على سلطات واسعة قد يستخدمها بعضهم لمصالحهم الشخصية أو لتعطيل أو تأخير مصالح الناس، وتلك السلطات يكتسبونها من خلال سن قوانين وتنظيمات من داخل «مكاتبهم» شديدة التعقيد للتحكم وإدارة شؤون المجتمع في القرية أو المدينة، والبيروقراطي غالباً ما يفتقد لآليات العمل الميداني، ولمعرفة ما يريده المواطنون، ولعل ذلك بسبب عدم حاجة ذلك التنظيم لأصواتهم، فالحكم للمكتب وليس للمجتمع، وبسبب نهج إدارة الأزمات أو القضايا الطارئة من بعد، فإن «المكتب» يتلقي الشكاوي وطلبات الاستثناءات من تلك الإجراءات الروتينية أو الشديدة التعقيد، وبهذا الإسلوب يحكم تنظيم «المكاتب» المجتمع، وتنشأ علاقات اجتماعية من اجل تيسير صعوبة إجراءات المكاتب، وينتظر «البيروقراطي» من المستفيد من استثناءاته مقابلاً نفعياً إذا كان ذا مكانة سلطوية في تنظيم بيروقراطي آخر، وفي أحيان اخرى، ومن اجل تغطية قصور أدائه الوظيفي نظراً لإدارته للشؤون العامة من بعد، وفقدانه لقدرة العمل الميداني يحاول تنفيذ الإجراءات والشروط من خلال ربط تنفيذها بخدمات حيوية اخرى مثل: إذا لم تنفذ هذا الإجراء فلن تحصل على الخدمات، ونظراً لعدم وجود آليات ميدانية للإشراف ولتسهيل تنفيذ الإجراءات المطلوبة، ينتهي الأمر عادة بإثبات تنفيذه بإصدار ورقي يختم عليه ويوقعه مديرو المكاتب في الهيئة.. ثم يحفظ في «مكتب» مخصص لذلك..
والبيروقراطية تتطور مع تراكم السنين إلى حالة من التبلد الإداري والاستعراض السلطوي، مما يجعلها عائقاً للتقدم وعاملا للفساد الإداري، وهي تعتمد في سلطتها إلى تضخم في القرارات غير القابلة للتنفيذ، وفقر شديد للمعلومات الدقيقة والميدانية.
ولا يكترث عادة البيروقراطي «المزمن» إلى أي نقد يوجه لسوء إدارته وفساد تنظيمها أو إلى المساوئ التي ظهرت بسبب تنظيماته وآلياته الشديدة التعقيد، فهو غير مضطر إلى الإجابة، ولا يجبره النظام بالرد على التساؤلات المشروعة، ولكن إذا تلقى تساؤلاً عن النقد الموجه له من المكتب الاعلى منه، فإنه ينتفض بحثاً عن إجابة مقنعة.
والمؤكد أن البيروقراطية داء لابد منه، ولكن يتطلب الجهد المتواصل للتخلص من مساوئها، والحد من استغلالها «مع الابقاء على المستوى الادنى منها» لحاجة الحياة العصرية اليها، والعلوم وفنون الإدارة الحديثة تطورت كثيراً، ويوجد في البلاد المتقدمة آليات لدراسة الأنظمة والإجراءات الإدارية، ولكن تلك العلوم المتطورة إذا استوردت إلى التنظيم البيروقراطي «القديم» تصاب بدائه العضال، فتهرم وتفقد مرونتها في القفص الحديدي للبيروقراطية، والعلة بالتأكيد ليست عجزاً في «العلم» الحديث، ولكن في المناخ العام لذلك التنظيم، فهو مع مرور الزمن يصبح هو المرجعية الوحيد المؤثرة للمعلومات ولكيفية التطوير.
ولو كانت مرجعيته قوة مصدرها المجتمع، واعية وقادرة على دفعه إلى حيث التطور والتغيير من اجل الأفضل، لعادت الحياة الطبيعية في داخل الكهوف الإدارية، ولخرج من قلعته إلى الميدان وإلى الناس..، لتحري منفعة وقناعة المستفيدين من خدماته وللبحث عن أصواتهم و«رضاهم»، وإلا سيفقد مكتبه بسبب عدم اكتراثه لمنافعهم، ولن يتم الوصول إلى هدف الحد من نفوذها وطغيانها وفسادها إلا بمنح الجمهور الكلمة في تحديد ممثليه، ويعتبر انتخاب ممثلين من المجتمع في المجالس البلدية أحد أهم الأولويات للتقليص من نفوذ «المكتب» في إدارة الخدمات البلدية في القرية أو المدينة.
وقد تشهد المكاتب المدنية طفرة في «جينها» البروقراطي المتوارث، عندما يدرك العضو أن مستقبله العملي يعتمد على ثقة الناس فيما يقدمه لهم من خدمات، والمجالس البلدية عليها أن تتحمل مسؤولية الاهتمام بإيجاد الحلول في أزمات التعليم والصحة والبيئة والخدمات العامة، وعليها ان تجد الحل الناجع للخلاص من مهارة الروتين غير المنتج التي يجيد البعض ممارستها داخل جدران مكاتبهم ببراعة.


[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][الأرشيف][الجزيرة]
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الىchief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الىadmin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت
Copyright, 1997 - 2002 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved