Saturday 14th February,200411461العددالسبت 23 ,ذو الحجة 1424

     أول صحيفة سعودية تصدرعلى شبكة الانترنت

(العرَاف) الأمريكي ودور (المنقذ) الحضاري (العرَاف) الأمريكي ودور (المنقذ) الحضاري
عبدالعزيز السماري

تتكرر المواقف والأحداث في ثقافتنا, وتعيد نفسها بنفس المضمون, لكن من خلال أنماط مختلفة, ربما لأننا نعيش خارج التاريخ, أو ربما لأن عقارب ساعاتنا لا علاقة لها بالمنظومة الشمسية, وإنما بأزمان يحددها ذلك العرَاف الساكن في عقولنا منذ قرون. فنحن نعيش منذ زمن غير قصير حالة من الانفصام عن الواقع, وفي عالمين منفصلين بعازل صنعناه بأيدينا, وإذا كان المريض المصاب بداء الانفصام يعاني من شدة ضجيج هلوسة سمعية, فإننا نعيش كأمة على خطوط موجة صوتية مختلفة, يصدر منها نغمات ومفاهيم لم نعد نكترث من عادة ترديدها على أسماعنا في صور متكررة, وهكذا نمضي من دورة تاريخية على الهامش إلى أخرى, ومهما اختلفت معاني ما يصدر من تلك الأصوات إلا أن الوضع العام في صورته المتخلفة لا يتبدل, فهو ثابت لكن أشكاله تختلف. لكن إذا أمعنت النظر فيه من الداخل, فإذا به ذلك المضمون الذي يعيده العراف على أسماعنا كلما دب اليأس في نفوسنا.
فهناك حيز كبير من الثقافة الموروثة يتولى ببراعة إعادة حقن المجتمع بإيمان يبشر بظهور المنقذ أو المهدي الذي سيعيد للتاريخ الإسلامي والعربي هيبته,أو بظهور ذلك الفارس الملثم . جابر عثرات الكرام, الذي يحمل راية النصر القادم لا محالة من الصحراء العربية ليعيد للامة مجدها وكرامتها وعدالة قضاياها..
كذلك تهيمن فكرة (الولي) وكراماته العجيبة في بعض المجتمعات الشرقية.. ويكشف الإيمان الشديد بها عن تصور فكري واجتماعي يحكم علاقة الإنسان بالمطلق من ناحية. ومن ناحية أخرى بذلك الواقع الذي يؤمن بقدراته الخارقة على إحداث التغيير المنتظر في المجتمع, وبذلك تصبح للولي قيمة كبرى بعد وفاته، ويتحول قبره إلى ضريح يؤمه الزائرون، يتبركون بالمكان، وينتظرون منه حتى بعد مماته تحقيق المعجزة المنتظرة, ليتحول المكان من حواليه الى مركز له قيمة وقدسية ومكانة اجتماعية وفكرية وثقافية. ومع أن الهزيمة واليأس صارت بمثابة الروح في الجسد العربي إلا أننا لم ندرك أن جابراً هذا لم يكن إلا شعاراً مخدراً لآمال الفقراء و المستضعفين في القرون الوسطى,وأن ذلك (الولي) لم يكن إلا سراباً يجري خلفه الخاسرون في الصحراء العربية.
ولم يتوقف تأثير هذه الأحلام غير الواقعية عند ذلك, فلم تسلم الثقافة العربية من طيف الوهم العابر من أعماق الماضي, فحالة الانتظار لقدوم الفارس مستمرة في أطروحة المثقف العربي, لكن الاختلاف كان في قدرة الثقافة العربية الفائقة على أنسنة المصدر, فبدلاً من انتظاره من المستقبل المجهول أو من القبور, أضحى البعض في حالة انتظار لمجيئه من البوابة الغربية, انتظار مسكون بالذل والهزيمة الذاتية لخروج الرجل الأبيض في يوم ما ممتطئاً فرسه، معلناً قدومه من وراء البحار البعيدة, يحمل بين يديه الحلول الجاهزة لحقوق الإنسان والمدنية والإصلاح بمفاهيمه الحضارية الحديثة, ويبشر بالخلاص من كابوس التخلف الحضاري العربي.
ألم تحمل بيانات الإدارة الأمريكية وعوداً بالاستثمار بملايين الدولارات لتصدير الديموقراطية إلى الأرض العربية؟
لكن ما حدث مؤخراً من أحداث على أحد أطراف المسرح السياسي العربي أظهر للجميع أن تلك الوعود لم تكن إلا أحد فصول مسرحية (المنقذ) المنتظر, و لكن من (عرَاف) أبيض؛ فالتغيير في مواقف ليبيا السياسية مؤخراً برهن أن ذلك (الفارس) المنتظر من بوابة الغرب لم يكن إلا وهماً كاذباً, وقدرية سياسية تحاكي مضامينها نفس دلالات ذلك الموروث المطلق، كشفتها قرارت عكسية في المشهد الليبي. وهو ما دلل بوضوح أن خطوات الإصلاح بالمفهوم الغربي لها أجندتها وأولوياتها, والاحتفاء الغربي بالتوجه السياسي الجديد في هذا البلد العربي كشف بوضوح أن مصالح الغرب السياسية والاقتصادية تأتي فقط أولاً وأخيراً, فالبلد العربي الشقيق أصبح بين ليلة وضحاها دولة غير معادية ومسالمة تماماً بعد أن كانت قبل (القرار) بالتخلي عن أسلحة الدمار الشامل بفترة زمنية قصيرة أحد ممولي الإرهاب الدولي, وفي الدرك الأسفل في سجلات حقوق الإنسان.
ولم يبق على ليبيا إلا الاعتراف بإسرائيل لتدخل جنة الغرب الموعودة من أوسع أبوابها, لكنها لسوء حظ أهل الشأن العام محدودة العضوية, فهي تقبل (نسبة) قليلة منهم، وبعد استيفاء شروط محددة أهمها الثراء و إلغاء العراقيل (الوطنية), ثم تأمين حركة انتقال الأموال العربية إلى البنوك الغربية. وقد ظهر للجميع أن الأسهل في تلبية ضغوط الإصلاح الخارجية هو تلبية المطالب الخارجية في قضايا الصراع العربي الإسرائيلي, وقضايا نزع أسلحة الدمار الشامل وغير ذلك من القضايا الخارجية. ويعتقد البعض أن تكلفة هذه الترضية لأمريكا أقل عبئاً من تكلفة الإصلاح الداخلي بمراحل.
ولعل ما حدث من انقلاب في لغة الخطاب السياسي الغربي تجاه ليبيا بمثابة البرهان القاطع على أن أجندة الإصلاح الغربية والمطالب بتحقيق الديموقراطية وحقوق الإنسان ليست إلا غطاء جميل لمخلب حيوان مفترس, لا يتحرك في ناحية الشرق العربي إلا لإشباع غرائزه البدائية, وان الوصفات الأمريكية التي لا نتوقف عن سماعها في البيانات الأمريكية لمعالجة أسباب التوتر في الشرق العربي تواجه أسئلة وإشكاليات متعددة بعد ما حدث، أهمها إشكالية النوايا، وما إذا كان ما يطالب به السيد الأمريكي هو بالفعل الإصلاح حقاً أم الهيمنة على القرارات السياسية و الاقتصادية, وفرض السلام على طريقته, لاسيما وهو يحتفل في هذه الأيام بنصره العسكري على الأراضي العربية.
ومن كان يعتقد ان قدوم ذلك الفارس الملثم أو جابر عثرات الكرام الغربي هو الأمل المنتظر الذي سيخرج العرب من تخلفهم الحضاري, فإنه بالتأكيد مخطئ في حساباته, وعليه بعد الآن أن يتوقف عن سماع أصوات (العرَاف) الأمريكي في لحظات انفصامه عن الواقع، وأن يعود بشجاعة إلى مواجهة مشكلاته الحياتية بعد أن يبدد باقتناع أوهام ذلك الحلم الكاذب. فالغرب لا يأتي إلى أراضينا إلا من اجل مصالحه (الذاتية), ولن يتردد على الإطلاق في الانقلاب المفاجئ على جميع مبادئه المعلنة إذا نال من تحت (الطاولة) ما يفتش عنه, وعلى الإنسان العربي أن يتوقف للأبد عن البحث عن مستقبله عند العرَافين أو عند (الأجنبي), وان يواجه ذاته, ثم يبدأ عملية التغيير أولاً بإصلاحها ثم التواصل مع واقعه بإيجابية.
(إن الله لا يغير ما بقوم حتي يغيروا ما بأنفسهم).


[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][الأرشيف][الجزيرة]
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الىchief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الىadmin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت
Copyright, 1997 - 2002 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved