Sunday 22nd February,200411469العددالأحد 2 ,محرم 1425

     أول صحيفة سعودية تصدرعلى شبكة الانترنت

شيء من شيء من
نموذج لتخلفنا في قراءة الواقع!
محمد بن عبداللطيف آل الشيخ

الأستاذ عبد العزيز العسكر عضو في نادي أبها الأدبي كما عرف بنفسه، نشر مقالاً في صفحة (عزيزتي الجزيرة) محتجا فيه على مقال لي كان عنوانه (لأنك كالعنز تبحث عن المدية) كنتُ أتحدث فيه عن خطر (العولمة)، ومدى فهمنا لها، وهل نحنُ مهيأون لاستقبالها، وكيف سنتعامل مع مخاطرها، وأنا بالمناسبة يهمني النقد واحتفل به، ولا سيما أن سماع الرأي الآخر هو من أهم ما تحتاج إليه بيئتنا الثقافية، كي لا نكون كمن يتحدث في صحراء قاحلة يحفها الصمتُ من كل جانب.
الأخ العسكر استهل مقاله بالقول: (ليس في أمثال العرب الفصيحة والعامية مثل تلك الصياغة: لا تك كالعنز تبحث عن المُدية) كذا!. وهو هنا يشير إلى أنني متقول!. وليت أديبنا الفصيح، عضو نادي أبها الأدبي، قبل أن يُشكك في أمانة نقل الآخرين عاد إلى (لسان العرب لابن منظور) وقرأ تحت مادة (عنز) ما نصه: (ومن أمثالهم في هذا: لا تكُ كالعَنْز تَبْحثُ عن المُدْيةِ، يضرب مثلا للجاني على نفسه جناية يكون فيها هلاكه)، ليتأكد من أن زعمه بأنني (فبركتُ) هذا المثال هو من باب (التجني) الذي كان من الأولى أن يربأ بنفسه عنه، طالما أنه أديب (أريب)، حتى لا نقول: (طبيب يداوي الناس وهو عليل)!
ثم انتقل في مقاله للحديث عن أخطائي اللغوية، وهو أمر لا يعنيني كثيراً. فقضايا اللغة لا تهمني، بقدر ما يجب أن تهم المصحح في الجريدة، ولو أنه قرأ مقالاتي قبل تصحيحها فلربما أصيبَ بسكتة قلبية من كثرة الأخطاء اللغوية!
أما السبب الرئيس الذي جعلني أرد على هذا المقال، فلأنني وجدته بما يحمله من محتوى، يُعتبر مثالا نموذجيا يدلُ دلالة عميقة على انحدار وعي (المتلقي) السعودي وأولياته الحضارية، وعجزه عن تصور وفهم كثير من الظواهر خارج منظومته الثقافية وإطاره الجغرافي، فهو في أحسن حالاته مجرد (ظاهرة لغوية) يعتني باللغة، أكثر مما تحمله هذه اللغة، والعسكر هنا ليسَ في تقديري حالة خاصة، وإنما هو يمثلُ حالة نمطية ثقافية شائعة، جديرٌ بنا أن نتوقف عندها، ونبحث في أسبابها.
فمثلا يقول في رسالته محتجاً على دعوتي للتعامل مع قضايا (العولمة) بموضوعية، ما نصه: (وهل أصبحنا من (الضعف) والهزيمة بحيث نرى أن الطريق الوحيد الذي يجبُ أن نسلكه لكي نبقى هو التقليد الأعمى(!!) والانسياق وراء غيرنا في كل شيء، وأخذ ما عندهم بغثه وسمينه؛ فنكون كالدمية في يد الطفل (!!)، وكالدابة أمام الراعي(!!..)..) وغني عن القول: إن أديبنا جاهل في (العولمة)، فضلا عن اقتصادياتها، لذلك ظن عن سذاجة أن مواكبة العولمة، تعني مجرد التقليد الأعمى!.. أقول: ليتنا نملك - يا سيدي - حتى القدرة على (التقليد) وليكن أعمى وأصم وأبكم!.. فهل وصلت اليابان إلى ما وصلت إليه إلا بالتقليد أولاً؟
الأمر الآخر، الذي ينتظم في سياق التخلف، أن رده لا يتكئ على متكآت علمية وواقعية وموضوعية، وإنما على عواطف جياشة، ومعلبات قولية، وعُملة ليس ثمة من يقبلها إلا الديماغوجيون.
سيدي: نعم، فنحن للأسف (الأضعف)، واعترافك من عدمه لن يُغير من واقعنا المهترئ شيئاً، أتدري لماذا؟.. لأننا أمة تستهلك مما ينتجه الآخرون، وتأكل مما هم يزرعون، وتتفيأ ظلال ما يصنعون، وتعيش عالة على ما يخترعون، من المراكب التي نقطع بها فيافينا، والثياب التي نلف بها أجسادنا، والمكيف الذي نتقي به حر القيظ وبرد الشتاء، وحتى المطبعة والأحبار التي نطبعُ بها كتاب الله الكريم.. ونحن - لذلك - لا نملك القدرة على مواجهتهم، ولا التمرد على ما يفرضون علينا، إلا إذا قررنا أن نعود إلى ثقافة (حطني تلقاني يا خلف جداني)، وننكص إلى اقتصاد الرعي والاعتماد على التمر واللبن و(الإقط)، والسؤال: هل لدى (عالمنا النحرير) استعداد للتخلي عن كل هذه المكتسبات الحضارية والعودة إلى الماضي، إلى القهقرى، وإلى بيوت الوبر والمدر؟
وهم عندما يطرحون (العولمة) التي ستلغي أي معنى (للخصوصية) فلديهم كل الأسباب والقوة والأدوات لفرضها علينا شاء من شاء وأبى من أبى، وفي المقابل ليس لدينا إلا تلك المقولات العنترية التي تتدرعُ بها، والتي هي أقل من أن تقتل ذبابة للأسف، فضلا عن أن تقف أمام العولمة، فماذا نحن صانعون؟
وبالمناسبة، فإن هذه الأقوال التي تتمترس خلفها، أو شبيهة لها، كان قد قالها (أساطين) طالبان، واعتبروها طرحاً منطقياً وموضوعيا كافياً وشافياً أمام التحدي الذي كان يزحفُ إليهم من الخارج، فكانت النتيجة هي فصل الخطاب! فهل قرأ أديبنا الحبيب الأريب اللبيب تجربة طالبان كما ينبغي؟.. أشك في ذلك.


[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][الأرشيف][الجزيرة]
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الىchief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الىadmin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت
Copyright, 1997 - 2002 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved