Sunday 22nd February,200411469العددالأحد 2 ,محرم 1425

     أول صحيفة سعودية تصدرعلى شبكة الانترنت

من أين أتينا؟ من أين أتينا؟
(تحييد) القضية الدينية.. في صراعنا مع الآخر
د. عبدالله بن ناصر الحمود

عندما تقول لرجل متدين في مجتمع يؤسس ولاءاته وبراءاته على أساس عقدي، إنه يجب (تحييد) القضية الدينية وإقصائها عن ميدان صراعنا الدولي المعاصر مع الآخر، ومع الغربي بشكل خاص، فإنك تكاد تقتل ذلك الرجل، أو أنك - فعلاً - تخرجه عن طوره، على أقل تقدير، حتى لا يعلم عقله ما يقول لسانه، ولا ترى بصيرته ما جحظت به عيناه. وهنا نحتاج إلى وقفة تأمل. وهي وقفة قصيرة جداً، بقدر ما هي محدودة المساحة المتاحة لهذه المداخلة. لقد أعلنت القيادة الأمريكية - في زمن مبكر من الصراع المعاصر المفروض على أكثر شعوب العالم - أن جوهر المشكلة هو القضية الدينية، وأن صراع القرن الحادي والعشرين - بالقوة العسكرية - بين المسيحية والإسلام قد بدأ فعلاً. ثم ما لبثت القيادة ذاتها أن تتراجع وتعدّ ما قد قيل زلة قلم أو سبق لسان. فهل أخطأت القيادة الأمريكية؟ يمكن القول بفرضية أنها لابد من أن تكون قد أخطأت في واحد من الحالين: تشخيص لب الصراع، أو التراجع عن ذلك التشخيص.
غيرأن تلك الفرضية - في رأيي - محل نظر. فعلى الرغم من أن القيادة الأمريكية تتكون من بشر يصيبون ويخطئون، إلا أنه قد يكون من السذاجة الاعتقاد بأن أعلى قمة في الهرمية القيادية الأمريكية (والعالمية) يقع في منزلق إستراتيجي من هذا النوع. ربما كانت مغامرة أمريكا في أفغانستان والعراق وما يتلوهما من شعوب العالم خطأً إستراتيجياً، لن تتضح الرؤية بشأنه قبل أعوام قليلة قادمة، لكن اتهام المسلمين وإقحام الدين في عمق الصراع ثم التراجع عن ذلك لا يمكن أن يكون من قبيل الخطأ لأسباب كثيرة جداً، لعل من أهمها كون الإسلام والمسلمين قلب الموضوع وطرفه الأهم، فمن غير المتصور أن تأتي التصريحات بشأن هذا الصراع ارتجالية ودون رؤى إستراتيجية مسبقة، وبخاصة في دولة المؤسسات الأهم والأكبر في العالم، وبشكل أخص في التصريحات الأولى التي كانت تهدف إلى تبيان النظرة الأمريكية وتفسيراتها (المعلنة) لمجريات الأمور. إذاً، ما الذي يمكن أن يكون وراء التصريح ونفيه أو تلطيفه؟ سيبقى الموضوع أيضاً قيد الفرضيات، فالحقيقة المجردة لم تتضح بعد وربما لا تتضح لعقود من الزمن قادمة. لكنني أعتقد أن التصريح قد جاء ليتم نفيه أصلاً، فيتحقق للولايات المتحدة أن تخرج من الصراع الديني - داخل الدولة نفسها - ومع من يسير في فلكها من الدول النصرانية والإسلامية وغيرها، في حين ننشغل نحن في عالمنا الإسلامي بإثبات أن الصراع ديني عقدي في المقام الأول، ونعتقد الضعف في الولايات المتحدة لهروبها من المواجهة واعتمادها على النفي، ونشمّر عن سواعدنا لنجعل علاقاتنا القريبة والبعيدة في هذا الصراع العالمي مؤسسة على مبدأ ديني عقدي، ونحن مقتنعون بذلك. ونؤكد قناعتنا بإصرارنا على استمرار جدلياتنا في موضوعات الولاء والبراء، تلك الجدليات التي ازدهرت الآن فقط لنؤكد للعالمين أن صراعنا (فعلاً) صراع ديني عقدي، قالت بذلك (أمريكا) ذاتها، ثم خافت وتراجعت!! فنفرح بالنصر الفكري ونوغل في أدلجة الصراع فقط لنثبت للعالم تلك الحقيقة التي حاول الغرب تغييبها بمجرد النفي والتراجع!! ولأن أمريكا تعلم - ربما - (انثروبوليجيتنا) و(سسيولوجيتنا) فقد أعلنت ثم تراجعت. وتبقى القضية الأهم اليوم تتمحور حول أهمية إقحام القضية الدينية في صراعنا مع الآخر، أو إبعادها وتحييدها.
لعل القضية معقدة جداً وتحتاج إلى بسط حديث، وعدد من المتخصصين في علوم شتى لبيان مكاسب ومفاسد تحييد قضيتنا الدينية من هذا الواقع المتلاطم، غير أن تحييدها سيحقق من غير شك مصالح ثلاث: الأولى، الاستناد إلى صراع ديني مع الغرب لن يجعل خصوم العالم الإسلامي هم فقط الذين يعتدون عليه منهم، بل سيخسر ولاء وصداقة كل الدول غير الإسلامية، في حين إن تلك الدول ستكون أقرب ولاءً ودعماً للطرف الآخر. الثانية، أن إقحام القضية الدينية في هذا الصراع المفروض على العالم الإسلامي سيكون معول هدم للبنى الداخلية لعدد من دول العالم الإسلامي ذاتها، حيث يتقاسم العيش فيها مسلمون وغير مسلمين. فربما لا يسوغ - في زمن الأزمات خاصة - أن نتسابق إلى خلخلة الكيانات الداخلية لدولنا وشعوبنا. الثالثة، أن الشعوب الإسلامية تنعم بتعدد الثقافات، والاختلافات المذهبية في إطار الإسلام، وفي تأجيج الصراع الايديولوجي مفسدة عظيمة لهذه البنى الداخلية الإسلامية، حيث قد يتحول الصراع إلى صراعات مذهبية داخل المجتمعات الإسلامية نفسها. من هنا قد يكون من الأصلح التفكير ملياً في مدى الجدوى من أدلجة الصراع العالمي المعاصر، وكذلك ربما كان من المهم جداً التريث عند تقويم ما يقوله القياديون الكبار في العالم قبل الحكم عليه بظاهر القول وحسب.

* عميد كلية الدعوة والإعلام بجامعة الإمام


[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][الأرشيف][الجزيرة]
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الىchief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الىadmin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت
Copyright, 1997 - 2002 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved