Friday 27th February,200411474العددالجمعة 7 ,محرم 1425

     أول صحيفة سعودية تصدرعلى شبكة الانترنت

وجوه من التناقض وجوه من التناقض
د.موسى بن عيسى العويس/الإدارة العامة للتربية والتعليم بمنطقة الرياض

كثيرة هي الحكم والأمثال التي يوظفها الناس في شتى الأحوال والمواقف، منها الفصيح، ومنها العامي. لكن لم يدر في تفكيري تناول مثل عابر، تفوّه به أحد العوام في أحد المنتديات التي تناولت سير بعض العلماء الراحلين في هذه البلاد، ومن سار على نهجهم، وماهم عليه من ورع، وزهد، وتقشف، ليقول هذا الرجل بعفوية ( لايجتمع دنيا ودين )، قاصداً إعراض العلماء الربانيين عن مغريات الحياة ولذائذها،واقتصارهم منها على ما يسد رمق العيش، ويقيم أود الحياة، موحياً إلى تعارض هاتين النزعتين في وجدان الإنسان إلا لدى البعض منهم، وقليلٌ ماهم في هذا الزمن. وطبيعي في مثل هذه الموضوعات أن تتسع دائرة الطرح والمناقشة، لتشمل المقارنة بين الرموز الماضية والحاضرة بين العلماء، وانسياق بعض العلماء - ليس على المستوى المحلي فحسب - وراء زخرف الحياة للأسف، واستغلال نفوذهم الاجتماعي، وانتهاز عواطف الناس الدينية تجاه مسارب الخير، أو ماهو مظنة ذلك، فانشغل هؤلاء عن طلب العلم ونشره، وتوجيه المجتمع وإرشاده، لذا كان من الطبيعي أن ينصرف الناس عنهم حين صرفوا حياتهم إلى غير الطريق الصحيح الذي عبّده أسلافهم، فجدّت على الساحة ظواهر الانحراف، وبدأت أطياف المجتمع تتلاوم أمام القيادات السياسية في أسباب بروزها، تعزوها لنفسها تارة، وتتهم الزمان بها أحيانا، هكذا نحن:


نعيب زماننا والعيب فينا
وما لزماننا عيبٌ سوانا
ونتهم الزمان ونزدريه
ولونطق الزمان بها هجانا

لكني أقول: ما أشد خطورة هذه الفئات الممتطية صهوة الدين في كل زمان ومكان،حين تتغلغل أفكارها في المجتمع، وتتحكم في مفاصله، وليست ببعيدة عن الأذهان -مع فارق المقارنة - الانقلابات الاجتماعية بأوروبا في القرون الوسطى، حين شعروا بانتهاز رجال الدين عواطف الآخرين، وجيروها لمطامعهم الذاتية، واتجاهاتهم السياسية المبطنة، وظلت تلك الزعامات بلباسها الخادع مهيمنة، حتى كشفت الأيام قناعها، فتنادوا للخلاص من زيفها، وتحقق لهم ما أرادوا، فهل تعي الشعوب الإسلامية التجارب، وتستفيد منها، وتقبس من مناهج بعض علماء هذا البلد الأمين ما يسدد طريقها؟.
هذا المدخل المبني على ذلك المثل العابر، ينتقل بالكاتب إلى موضوع آخر يمت إلى سابقه بصلة قوية. وكم هي تلك الظواهر المختلفة، أو المناظر المزدوجة التي يلتقطها الإنسان، ليشكل منها خاطرة أو أكثر.
وما الزمان في مسيره، والحياة بتقلباتها، والحوادث في بروزها، سوى مرآة نرى فيها ذواتنا وذوات الآخرين على الحقيقة، بفضائلها ونقائصها، ونحاول جاهدين تقويم ماقد يُرى فيها من أعوجاج.
وأكثر ما يسر الإنسان انتشار الوعي في كل شأن من شؤون حياة مجتمعه الصغير والكبير، وأشد مايسوؤه فقد أسس بنائه الاجتماعي، أو الديني، والخلقي.
شيئان لايجتمعان للإنسان في حياته: الترف المادي، وفضائل الأخلاق، ولا تأسى على الأول إن ظفرت بسواه، فالظواهر تفنى وتزول، والقيم تسود وتتأصل :


صلاح أمرك للأخلاق مرجعه
فقوّم النفس بالأخلاق تستقم
والنفس من خيرها في خير عافية
والنفس من شرها في مرتعٍ وخم
تطغى إذا مكنت من لذةٍ وهوى
طغي الجياد إذا عضّت على الشّكم
كم ضللتك،ومن تحجب بصيرته
إن يلق صابا يرد، أو علقما يسمِ

وشيئان لايتوافران في مجتمع ما: تقدم حضاري، وترابط عائلي، ومتى ظفرت بالثانية انقادت لك الأخرى.
عبارات قد يكون فيها من التعميم المرفوض الشيء الكثير، لكنها سمة غالبة لاينازعنا أحد في برزها واستفحالها، بل وخطرها، إن نحن لم نلتفت لها، وحسبها حينئذٍ أن تكون مستحقة للوقوف والطرح، متى أردنا الجمع بين هذه النقائض التي أملاها الواقع، وفرضها على قيمنا التي ورثناها.
نلهث دوماً وراء المادة، ونسعى جاهدين لتلقف ما تلفظ به الحضارة الوافدة، محاولين أن نحظى بقصب السبق من دون الالتفات إلى الأثر الديني والاجتماعي والقيمي، فتلاشت إثر ذلك - من دهماء الناس بما فيهم زعماء الإصلاح - بعض ظواهر الإيثار، والرحمة، والمحبة، والتراحم، والتسامح، والصدق.
الناس لايختلفون كثيراً أن المجتمعات كانت أكثر بساطة في المعيشة، وأقل رقياً بالحضارة، لكنهم كانوا أقوم أخلاقاً في المعاملة، وأنعم سعادة بالحياة، ولما تقدمت بهم الحضارة، وارتقت بهم الحياة ضعف ذلك كله في وجدانهم، وباتوا في جدل مع الزمن.
وما أجمل الأزمان، وما أرحب المكان، وماأعظم الحياة، لولا أننا شوهناها بأطماعنا. والطمع، كما يقال داء الإنسانية الأكبر، أفراداً، وشعوباً، وزعامات. والتحرر المطلق جميل في أهواء النفس، لكنه خطير في أحكام العقل.


[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][الأرشيف][الجزيرة]
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الىchief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الىadmin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت
Copyright, 1997 - 2002 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved