Tuesday 9th March,200411485العددالثلاثاء 18 ,محرم 1425

     أول صحيفة سعودية تصدرعلى شبكة الانترنت

27-5-1391هـ الموافق 20-7-1971م العدد 352 27-5-1391هـ الموافق 20-7-1971م العدد 352
الملك عبدالعزيز :
(الحجاز ديرة النجدي.. ونجد ديرة الحجازي)

إن عجلة التاريخ لم تقف في يوم من الأيام، ولكنها قد تُسرع بأُمَّة فتسبق الخيال والأحلام، وقد تتباطأ بأخرى فلا تُدرك من أمانيها حتى ما كان منها على قاب قوسين أو أدنى. فإذا ما أراد الله لأُمَّة النجاح هيَّأَ لها من أمرها رشداً يُجنِّبها المشاكل والعثرات، وإذا ما أراد لها الفشل بعث فيها أنانيةً عمياءَ صماءَ تسدُّ الطريق في وجه مسيرتها، فتقف على قارعته هدفاً لكل طمَّاع مستغلّ.
ونحن إذا ما أردنا أن نبحث عن الأمم الرشيدة في التاريخ نجد أن أيَّة أُمَّة لا يكمل رشادُها إلاَّ بعد أن يتوشَّح بين أفرادها وجماعاتها إخاء يجعلها كالبنيان المرصوص يشدُّ بعضه بعضاً، ولا يتحقق مثل هذا الإخاء إلاَّ إذا كثر الذين يُحبُّون للمجتمع ما يُحبُّون لأنفهسم، ولا يُحبُّ الناس لمجتمعهم ما يُحبُّون لأنفسهم إلاَّ إذا بلغوا مستوى السواسية، وعرف كلُّ فرد في الأُمَّة أن غيرَه في عونه ما دام هو في عون غيره. وإن في تاريخ الشعوب مثلاً يُوضِّح ما آلت إليه مقدرات أُمَم فقدت السيطرة على الذاتية، وإن فيه مثلاً يُبدي أثر التعاون في بناء الأمجاد، وإن من ألمع المثل في التاريخ جهاد المصلحين الذين منحهم الله القوة على دفع عجلة التاريخ، والقدرة على الاستفادة من تجارب الأجيال، والحكمة في حل المشاكل وتخطِّي العقبات، وما بذلوه في بعث التعاون الجماعي لتسير الأُمَّة جميعها بلا توقُّف مع مواكب الأمم الصاعدة. فالتطور أمرٌ لا بدَّ منه، فمن الحزم رعاية حماس الأُمَّة التي لا تُريد لحياتها التخلُّف والجمود، وتوجيه نشاطها نحو الصالح المُجْدِي، ولا يُمكن وقاية الحماس من التطرُّف والجموح إلاَّ بإعداد الجهد الجماعي لمسايرة الجديد الذي تتمخَّض عنه معارف الأمم وتجاربها.
وها هنا تظهر عبقرية الأفذاذ، فإعداد الجهد الجماعي لمسايرة التطور ليس من السهولة كما يظنُّه الكثيرون؛ فالأُمَّة كالأُسْرة إذا لم يُدرَّب أفرادها على تحمُّل المسؤوليات ومواجهة المشاكل، وإذا لم يَذُقْ أعضاؤها من تجارب الحياة حُلْوَها ومُرَّها، سيأتي اليوم الذي تكون فيه متناثرةً تناثرَ الهشيم في مهبِّ الرياح، مائعةً ميوعةَ الغرِّ الساذج الذي فاجأَتْهُ المسؤولية بمشاكلها، وأحاط به المُتربِّصون بكل تائه في مسالك الحياة؛ لذلك نجد الأُمَم الساذجة والأُمَم المحرومة صيداً سهلاً للمبادئ الهدَّامة، ومرتعاً خصباً للمُضلِّلين باسم الحضارة والتَّمَدْيُن. فلمَّا لم تجد الشيوعية المعاصرة في روسيا القيصرية الحصانة التي وجدتها في ألمانيا التهمَتْها. ولو لم تَكُن اليابان على مستوًى ثقافي، ولو لم تمر بالشعب الياباني تجارب الحياة السياسية والصناعية لَمَا استطاعت اليابان أن تُعيد بناء اقتصادها وصناعتها، وأن تُثبت وجودها السياسي بعد ربع قرن من هزيمتها القاصمة.
لقد تجمَّعت كلُّ هذه الخواطر أمامي عندما أخذ الدكتور عبدالرحمن الأنصاري يُحدِّثني عن الآثار التي جُمعت في متحف جامعة الرياض، وعندما زُرْتُ إدارة الجامعة وشاهدتُ أساتذة الجامعة - الدكاترة السعوديين؛ نجديين وحجازيين- وقد تألَّفت قلوبهم، وتساند جهدهم لأداء الواجب الكبير الذي أُلقي على عواتقهم؛ الدكتور رضا عبيد، والدكتور عبدالله الوهيبي، والدكتور عبدالرحمن الأنصاري، والدكتور الشعفي، وغيرهم من الدكاترة الذين زاد عددهم على الأربعين دكتوراً.
إنهم ولا شكَّ أنموذج رائع للكفاءات التي أخذَتْ مكانها، وللكفاءات التي ما زالت مُتطلِّعة لأداء واجبها، لا تعتمد على غير مؤهلاتها؛ لأنها تعلم أن ليس من خلق الوحدة التي نعضُّ عليها بالنواجذ طبقية أو ذاتية، فهذه المملكة لم تنهض متوحِّدة إلا بفضل السواسية التي شرعها المصلح الأعظم محمد صلى الله عليه وسلم، والتي اتَّخذها مؤسِّس هذه الدولة العاهل المُوفَّق جلالة الملك عبدالعزيز -رحمه الله- المثل الأعلى لسياسته الرشيدة.
إنَّني ما زلتُ أذكرُ ربيع 1360 و1361هـ الذي نَعِمَتْ فيه نجد بخصب نادر المثيل، فلم يطب للقائد والأب أن يتمتَّع بعبير الزهور التي ملأَتْ صحارى (الخفس) و(الخرج) دون أبنائه في الحجاز وفي غير الحجاز، فدعا وفوداً كنتُ واحداً من وفد المدينة المنورة، وما زلت أذكر ذلك المشهد الرائع الذي لهجت به الألسنة في كل مدينة من مدن المملكة، فلقد كان جلالته مع بعض حاشيته على جانب روضة من رياض الخرج، فأقبلَتْ سيارات على الطرف الآخر من الروضة، قال واحد من الحاشية: إنَّها سيارات (الأجانب)، فسأله جلالته مَن يعني؟ قائلاً: إن أحداً لم يخبرني بوصول أجانب!! فقال المتكلِّم: إنهم (فيد) الحجاز. فعندها استشاط الملك غضباً، وعلا صوته يُوبِّخ المتكلِّم: إن الحجازيين مثلك أهل ديرة، فنجد وطن الحجازي كما أن الحجاز وطن النجدي!!
وإنَّني إلى وقت قريب كنتُ تحت تأثير ما قرأْتُه لبعض الذين كتبوا عن نجد في بعض مؤلَّفاتهم، ومن بينهم أمين الريحاني الذي كتب عن ملوك العرب وعن تاريخ نجد الحديث، وعن خوفه على حياته عندما مرض في الرياض التي لم يَكُنْ بها آنذاك مستشفًى صحي ولا مختبر طبي!!
ولقد تمنَّيْتُ أنْ لو كان الريحاني وغيره ممَّن زار المملكة في بداية تطوُّرها الحديث معي، لا ليشاهدوا مستشفيات الرياض ومختبراتها المكتظَّة بالإخصائيين السعوديين، ولا ليشاهدوا عمران الرياض وشوارع الرياض وميادين الرياض وفنادق الرياض، بل ليشاهدوا هذه الجامعة التي بدَأَتْ تُدرِّس الطب والهندسة وغيرهما من الاختصاصات العلمية، كما أخذت تُنجب إخصائيين في الاقتصاد وإدارة الأعمال وغيرهما من الاختصاصات الأدبية. وكم تمنَّيْتُ أنْ لو قامت بجانب الجامعة الإسلامية في المدينة المنورة كلية آداب وعلوم كما قامت في القاهرة باسم الأزهر جامعة ثالثة بجانب جامعتي القاهرة وعين شمس هي جامعة الأزهر، فالمدينة هي المدرسة الأولى في الإسلام.
واستيقظَتْ هذه الخواطر في ذاكرتي مرَّة ثانية عندما وقف في صالة فندق اليمامة ذلك الشاب اللامع الأصل، المتوقِّد الذكاء، الأستاذ عبدالرحمن المعمر رئيس تحرير صحيفة الجزيرة الغرَّاء، يُرحِّب بي ترحيبَ الصديق الحميم، فملأ قلبي تقديراً وإعجاباً بنُبله وكريم أخلاقه. حقًّا إن ترحيب الأخ عبدالرحمن المعمر كان أكثر حرارةً من ترحيب المدينيين الذين يُحبُّون مَن هاجر إليهم، ويُسعدهم التعرُّف بكل زائر يحلُّ بين ظهرانَيْهم. وتمنَّيْتُ أنْ لو كان الريحاني حيًّا ليجد من أبناء المملكة مُثقَّفين ثقافةً عاليةً يُمكن أن يقضي معهم أوقاتاً كالتي كان يقضيها مع المشائخ الدملوجي ووهبة وغيرهما ممَّن كان يَأْنَس بالحديث إليهم والجلوس معهم.
أَجَلْ! إنَّ هذا الإخاء والانسجام اللَّذَيْن يُشاهدهما كلُّ مَنْ يزور المملكة في كل مدينة من مدنها؛ في الرياض والظهران وحائل، وفي مكة والمدينة وجدة والطائف، وفي جازان وأبها وخميس مشيط، وفي تبوك وتيماء والوجه، هما ثمرة من ثمار البذرة التي غرسها بالأمس المُؤسِّس الراحل، ويرعاها اليوم القائد المُفدَّى، وإنَّ هذا الإخاء والانسجام هما أسمى معاني التطوُّر الذي شمل كلَّ مرفق من مرافق حياتنا العلمية والسياسية والاجتماعية، وإنَّه خير واقٍ لمُقدَّراتنا من الضياع في العواصف التي مزَّقت، ولا تزال تُمزِّق، مُقدَّرات الأُمَم التي فرَّقت كلمتها العنصرية والطبقية، لا في شرقنا العربي وحده، بل في كل بُقعة من بِقاع هذه الأرض شرقيها وغربيها.
فما أنبلَ مبادئَ الإسلام: إنما المؤمنون إخوة، وما أثبتَ القاعدةَ التي بنى عليها جلالة الملك عبدالعزيز -رحمه الله- صَرْح هذه المملكة: نجد بلد الحجازي، والحجاز بلد النجدي، وما أعظمَ الجهدَ الذي يبذله جلالة الفيصل للحفاظ على وحدة هذه المملكة، ولرعاية التطور، وإعداد الفرص للجميع؛ ليُسهم الكلُّ في دفع عجلة تاريخنا، وحيَّا اللهُ كلَّ مَن يعرف واجبه في بناء المستقبل، فالله في عون العبد ما دام العبد في عون أخيه.


[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][الأرشيف][الجزيرة]
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الىchief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الىadmin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت
Copyright, 1997 - 2002 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved