Thursday 11th March,200411487العددالخميس 20 ,محرم 1425

     أول صحيفة سعودية تصدرعلى شبكة الانترنت

حين ترجَّل والدي حين ترجَّل والدي
إبراهيم بن عبدالله العمر / مشرف تربوي - مركز الشرق -إدارة التربية والتعليم بمنطقة الرياض

يظهر ضعف الإنسان في عدم إدراكه لحقيقةٍ تتجلَّى لنا جميعاً كتجلِّي القمر متباهياً بضوئه ليلة الرابع عشر، ورُبَّما كانت هي السبب في تعبه وكدحه يوم غفل عنها أو حُجِبَتْ عنه؛ إذ لو أبصر هذه الحقيقة وأدرك معالمها وأَلَمَّ بتسلسل خيوطها حتى ساعة حدوثها لأحدثت توازناً تطمئنُّ معه نفسه، ويحلو بها سيره حتى ساعة الترجُّل. هذه الحقيقة هي الرحيل عن الدنيا واستقبال ما بعدها، هي الساعة التي سنذوق جميعاً فيها مرارة الفراق وألم الرحيل، هي الساعة التي تستطير فيها العقول، ويزهد في الغالي والرخيص، هي الساعة التي لا نعلم موعدنا معها متى، ولا كيف سيكون الحال، ولله درُّ مَنْ قال:


وما الموت إلا سارق دق شخصه
يصول بلا كف ويسعى بلا رجل

هي الساعة التي لعمري وعمرك ماذا سيكون حالنا فيها؟ سحائب الأحزان ضربت أطنابها في رحاب الاحتضار، وشريط العمر يدور بأسرع ما يمكن في نهاية الاختبار، فكم من بسمة عن رضًا بفعل ما يرضي، وكم من عبوس عن سخط بفعل ما يسخط ويغضب:


إن حزنا في ساعة الموت أض
عاف سرور في ساعة الميلاد

إي وربي، إنها ساعة التجرُّد من الهوى، وضعف البأس، وانهيار القوى، وتخلخل العقل، واضطراب ما حوى، وضيق الأنفاس، وانعدام الدواء، ساعة معرفة حقيقة الذات، وقرب انقطاع الصلات، وانتظار قُرْب ما هو آت، ساعة احتقار الدنيا بأسرها يوم طوَّقت فما أعتقت، وقتلت فيما أحْيَتْ، وأبكت فما أضحكت، وأحزنت فما أفرحت؛ إنها طيور المنايا تغرِّد على كل ورقة من شجرة الحياة؛ لتأذن بسقوطها بإذن ربها؛ لتعلن بألحانها {لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ}.
ذكر ابن كثير في البداية والنهاية عند ترجمته لعبدالملك بن مروان أنه لما احتضر سمع غسالاً يغسل الثياب، فقال: ما هذا؟ قالوا: غسال، فقال: يا ليتني كنت غسالاً أكسب ما أعيش به يوماً بيوم، ولم آل الخلافة، ثم تمثل فقال:


لعمري لقد عمرت في الملك برهة
ودانت لي الدينا بوقع البواتر
وأعطيت حمر المال والحكم والنهى
ولي سلمت كل الملوك الجباير
فأضحى الذي كان مما يسرني
كحلم مضى في المزمنات الغوابر
فيا ليتني لم أعن بالملك ليلة
ولم أسمع في لذات عيش نواضر

وذكر أيضاً: يروى أن عبدالملك قال: ارفعوني، فرفعوه حتى شمَّ الهواء، وقال: يا دنيا ما أطيبك! إن طويلك لقصير، وإن كثيرك لحقير، وإنا كنا بك في غرور، ثم تمثل بهذين البيتين:


إن تناقش يكن نقاشك يا رب
عذاباً لا طوق لي بالعذاب
أو تجاوز فأنت رب صفوح
عن مسيء ذنوبه كالتراب

وصدق رحمه الله، فرحمة الله أوسع من غضبه، إنها الساعة الغافل عنها في غيِّه يتمادى، وعن الإحاطة بحقيقتها يتهادى، وحاله معها إذا حلَّت بساحته على حين غرة ندم على ما فات وخاف مما هو آت. حاله مع ما كان منغمساً فيه ومعرضاً به عن هذه الحقيقة حتى ساعة حدوثها كفاتنة متمرطة بسواد كساها جلالاً، ولها قوام ممشوق تتثنى به زادها جمالاً، وذات تغنج أخاذ كساها دلالاً، فنظر إليها شاخصاً ببصره فأومت إليه أن تعالى، فقرب منها فمدت إليه من الوصل حبالاً، فهام بها وأذاقته في حياته خبالاً، ونغصت عليه عيشه فصار نعيمه نكالاً، فتوسل إليها أن أرخي اللثام، فأبت فازداد اعتلالاً، فصاح بها وناح وبكى يتوسل لعله يرى غزالاً، فلما أشاحت له رأى ما لا يطيق معه احتمالاً، وعندما بانت الحقيقة فإذا هي شمطاء قرعاء يسمع لها فحيحاً وسعالاً، فشهق شهقة بدَّدت في نفسه الآمالا، ثم هجرها وقد عاهد أن لا يقيم معها يوماً وصالاً، ولكن متى؟ ومَن يضمن ذلك؟
وكاتب هذه السطور عفا عنه ممن لامست هذه الساعة مشاعره، فأضرست عليه بأنيابها، ووطأته بميسمها، ففتقت جراحاً، وزرعت أكداراً لا تزال ثمارها ناضجة مرة يغلب مرُّها كل مرارة، ساعة نسجت بخيوطها محيط خيالي، وصبغت بريشة الحقيقة عينيَّ ألوان المعاناة التي لا يزيل لونها، ولا يغسل طيفها عزاء.
لقد وجدت هذا كله يوم طوقت هذه الساعة بجنودها تاج رأسي وسيدي وسبب وجودي والدي رحمه الله، وكان له معها ما كان مما أراد الله تعالى.
فقد عاش رحمه الله شامخاً عزيزاً صلب المراس، قوي البأس، لا يرضى بالدون من الأمور ولا بسفاسفها، حتى هاجمه المرض فنال منه شيئاً فشيئاً، لبس معه عباءة الضعف والهزل، إلا أنه ظل في أنفته وقوته النفسية وشموخه وعزته في أحلك الأوقات، فيوم رأى ضعفه وهزله واحتاج لمن يخدمه في بعض أموره أحس بمرارة ذلك حتى ترجم ذلك بلسانه ضحى يوم جمعة وكنت برفقته.
يوم رفع يديه قائلاً: (اللهم حياة بصحة تسر أو ميتة تريح من الدنيا)، بدأ بعدها الشعور بالرحيل وأنه قد دنا موعد السفر. وفي فجر يوم الأحد إذ بأحد الإخوان يهاتفني بضرورة المجيء للمستشفى لحاجة الوالد إلي، فإذ بي على موعد مع جرعة أخرى فيها الدلالة على قرب الموعد، وترجل الفارس فأخذ يملي عليَّ وصيته، فكتبتها وكلي آلام وآهات، يا ليتني ترجمتها دموعاً أو بكاءً لكان في ذلك راحتي، ولكن أبت إلا أن تكون حبيسة صدر مكلوم، ثم أتبع ذلك بكرم منه وتفضُّل دلَّ على نبله وسعة عفوه وجزيل كرمه ساعة قال: (الله يحللكم جميعاً ما قصرتوا)، كررها أكثر من مرة. وعند الساعة السابعة من صباح نفس اليوم حاولت مناولته بعض الطعام، فرفض، ومع الإصرار تناول قليلاً، ثم قال:( الله أعلم أن هذا آخر أكل لي في الدنيا)، وكانت هذه الجرعة أشد صفعاً من أخواتها. وفعلاً كما قال، فقد دخل في غيبوبة حتى جاء يوم السبت، وما أدراك ما يوم السبت، فعند زيارتي له الساعة الثانية عشرة إلا ربعاً وجدتُ عنده اثنين من الإخوة، فنظرت إلى والدي وهو مسجًّى على سريره، وإذا بي أسمع صوت حشرجة قد ضاق بها صدره، فعلمت أنها ساعة النزاع، توقَّفَتْ حينها مشاعري وأُلجمت بلجام رهبة الموقف، فقربت منه ولامست يدي صدره الطيب وجبينه الأغر، فأخذت أُكرِّر لا إله إلا الله، وأُصلي على رسول الله، وفجأة خرج نفس ولم يعد، وارتسمت على محياه في لحظتها ابتسامة زينت وجهه، ثم كان جذب الروح بهدوء تام، تأكد الطبيب بعدها من وفاته، حينها ترجل سيدي وتاج رأسي مودعاً دنيا طالما كان معها في سجال. لقد سقطت خيمة كنتُ أتفيأ ظلالها عند حرِّ كل مُلمَّة أو مصيبة؛ ليزيل بنسمات أبوته سحبها، ويبدد بشفقته ذرَّاتها. لقد هوى جبل كان كالوتد في قوته، فمكثت أكتسب منه القوة والصبر والصلابة، ولكن عزائي في ذلك قول الله لنبيه: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُم مَّيِّتُونَ }.
لقد كانت إي وربي ساعة يحقر الإنسان معها الدنيا بأسرها وهو يرى تلك النهاية لإنسان طالما مشى على الأرض ودرج، وكافح وكدح، ثم بعدها هذا حاله، فيالله كم هي من ساعة أشغلتنا عنها دنيا أخبرنا الله بحقيقتها، وأموال يوماً لا محالة سنورثها، وغير ذلك كثير.
فرحم الله والدي وجميع موتى المسلمين.


[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][الأرشيف][الجزيرة]
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الىchief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الىadmin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت
Copyright, 1997 - 2002 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved