Sunday 14th March,200411490العددالأحد 23 ,محرم 1425

     أول صحيفة سعودية تصدرعلى شبكة الانترنت

دفق قلم دفق قلم
قِطَطٌ وفَأْر
عبدالرحمن صالح العشماوي

قال ذو الإصبع العدواني:


كل امرىءٍ راجعٌ يوماً لشيمته
وإن تخلَّق أخلاقاً إلى حينِ

وقال كُثيِّر عزَّة:


ومَن يبتدعْ ما ليس من ضِيمِ نفسه
يَدَعْه ويغلبْه على النفس ضِيمُها

وقالوا:
كان في دولة فارسَ ملكٌ حصيفٌ، له وزيرٌ حازمٌ مجرِّب، وكان الملك يَكِلُ إلى وزيره شؤوناً كثيرةً، ويَصدُر عن رأيه في عِظام الأمور، فما يرى إلا اليُمْنَ والخير في مشورته ورأيه. ثم إنَّ ذلك الملك هَلَكَ، وقام بعده وَلَدٌ مُعْجَبٌ برأيه، مغرورٌ بنفسه، مستبدٌّ في حُكمه، فلم يُنزل ذلك الوزيرَ الحازمَ منزلتَهُ، ولم يلتفت إلى تجربتِه وخبرتِه، فقيل له: إنَّ أباك كان لا يقطَعُ رأياً دونَهُ، قال: كان أبي يغلَطُ فيه، وسأمتحنه بنفسي؛ لأكشف لكم حاله. فأرسل إليه ذات يومٍ وسأله: أيُّهما أغْلَبُ على الرَّجُل؛ أدبُه أم طيبعتُه؟ قال الوزير: بل الطبيعةُ أغْلَبُ؛ لأنَّها أصل وجبلَّةٌ، والأدب فرعٌ مكتَسب، وكل فرعٍ يرجع إلى أصله. قال الملك: سَنَرَى. ثم إنَّه أمر بتدريب عدد من القطط على حَمْل الشموع في مجلسه. فلما تمَّ تدريبُها، دعا بسُفْرة طعامه على ما هو معهودٌ، ثمَّ طلب القطط فأقبلت بأيديها الشموع، فوقفت حول السُّفرة، فقال للوزير ضاحكاً: أرأيتَ خَطَأَكَ، وضَعْفَ مَذْهَبِكَ، وسوءَ تقديرِكَ؟! متى كان أبو هذه القطط حاملاً للشموع؟! ألا ترى كيف أصبح الأدبُ غالباً على الطَّبْعِ؟! فسكت عنه الوزير وقال: لديَّ جوابٌ عن سؤالك سأُفْصِحُ عنه في الليلة المقبلة. قال الملك: نعم. وضحك بعض الحضور من حال الوزير. فخرج الوزير، وقال لغلامه: الْتَمِسْ لي فأراً، واربطْهُ في خيط وجِئْنِي به. فأتاه الغلام به. وحينما حان موعدُ ذهابه إلى مجلس الملك، عقده في قطعة قماش ووضعه في كُمِّه. فلما حضرت السُّفرة، أقبلت القطط بالشمع حتى حفَّت بها. فأخرج الوزير الفأر وألقاه أمامها، فرمت القطط بالشموع وتسابقت إلى الفأر، حتى كاد البيت يَضْطَرِمُ عليهم ناراً. قال الوزير: كيف رأيتَ أيُّها الملكُ غَلَبَةَ الطبيعةِ على الأدبِ، ورجوعَ الفَرْع إلى الأصل؟! قال الملك: صدقْتَ وأحسنْتَ، وأحسن أبي حين جعلك له وزيراً وقرَّبَك. ثم إنَّه أعاد الثقة إليه وجعله أقرب رجال دولته منه.
وقديماً قالوا: لا يُمكن للشجرة المُرَّة أن تُنتج ثمراً حُلْواً، ولو طُلِيَتْ بالعسل.
ولا شك أن مثل هذا الوزير في حكمته وخبرته جديرٌ بأن يكون قريباً من وليِّ الأمر حتى يُشير بما يُصلح الأحوال، ويوجِّه إلى ما يحافظ على الأمن والاستقرار؛ فإنَّ لبطانة الرجل من الهَيْمَنَة عليه والتأثير فيه ما لا يُمكن لأحد الخلاص منه. وقد رُوِيَ عن هارون الرشيد -رحمه الله- أنه قال: الخليفةُ يُدِيرُ شؤون الدنيا، ويُدِيرُ شُؤُونَهُ ذَوُو الرأي والخبرة من رجاله. فَكَمْ من ملكٍ يملكه رجلٌ من خاصَّته يأمره وينهاه، ولعل ذلك هو السبب في التوجيه النبوي الكريم بأن يدعو الناس لولي الأمر بالبطانة الصالحة التي تُذَكِّرُه إذا نَسِيَ، وتُرْشِدُهُ إلى الرأي الأفضل والحكم الأعدل. أما موضوع غلبة الطَّبْع على الخُلُق المُكتَسب فهو أمرٌ صحيحٌ، ولكنه ليس أمراً لازماً لا مناصَ منه، فلرُبَّما قَوَّمَ الأدبُ طبعَ الإنسانِ تقويماً ثابتاً يتحوَّل إلى طَبْع، أو ما يُشبه الطَّبْع؛ فإنَّ العِلْم بالتعلُّم، والحِلْمَ بالتحلُّم، والإنسان يمتاز عن الحيوان بالعقل الذي يستوعب به التقويم والتأديب، فليست القطط التي رمت الشموع، وعادت إلى طبعها بملاحقة الفأر، دليلاً قاطعاً على حدوث مثل ذلك عند الإنسان الذي يستطيع أن يَحْكُمَ حكماً صحيحاً على الأشياء ونتائجها بما منحه الله من عقل وإدراك.
إشارة


لا تُنْكِرِي أَثَرَ الْكَلامِ فَإِنَّهُ
أَثَرٌ عَظِيمٌ فِي النُّفُوسِ مُجَرَّبُ


[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][الأرشيف][الجزيرة]
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الىchief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الىadmin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت
Copyright, 1997 - 2002 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved