Thursday 18th March,200411494العددالخميس 27 ,محرم 1425

     أول صحيفة سعودية تصدرعلى شبكة الانترنت

فيض الضمير فيض الضمير
المسافة بين الحقيقة.. والواقع
د.محمد أبو بكر حميد

(الحقيقة) هي الجوهر.. هي الثابت الذي لا يتغير.. هي الأصل في كل شيء, وهي ما يتفق مع الحق والعدل وكل القيم والمبادىء السامية والنواميس الكونية.
أما (الواقع) فهو الظاهر المتغير أو القابل للتغيير. والواقع قد يُفرض بالقوة وقد يخالف الحق والعدل ويخالف ما يجب أن يكون وهو (الحقيقة).
لكن الواقع لا يستطيع الغاء الحقيقة أو إزالتها من الوجود الذهني على الأقل لأن الحقيقة اذا غابت مادياً فلا يمكن تغييبها ذهنياً. وقد أدى هذا إلى خلط لدى كثير من الناس الذين يستخدمون لفظتي (الحقيقة) و(الواقع) ولأنهما وجهان لشيء واحد عندما يقول أحدهم (في الحقيقة والواقع) وهو لا يقصد أن الحقيقة أصبحت واقعاً.
والحقيقة قد تصبح واقعاً وقد لا تصبح, وهذا أكثر الاحوال, لهذا يجاهد أصحاب المبادىء والمثل العليا ودعاة الحق والعدل في سبيل تحويلها إلى واقع.
والحقيقة في أغلب الأحوال لا تكون مادية،وقد تكون المادة مظهراً من مظاهرها لكنها ليست أصلها أو جوهرها.
فحقيقة الإنسان روح, وجسده مظهر من مظاهر وجوده الحقيقي يختفي بموته, ويبقى الجوهر.. الروح وهي الحقيقة التي لا تتغير.
وقد ينكر الناس الحقائق ويحصرون ايما نهج في الظاهر المحسوس وهو الواقع ولكن إنكارهم لا يلغي وجود الحقيقة.
الله موجود, وهو حقيقة رغم انكار الملحدين ووجوده يتجلى في إعجازه وفي مخلوقاته. قد تغطي السحب السما فلا نراها ولكنها لا تستطيع حجب ضوئها عن الكون, وهذا دليل على حقيقة وجودها مهما أنكرها الذين لا يرون أبعد مما تقع عليه ابصارهم.
المبادىء والقيم والأخلاق والفضائل (حقائق) لكن (الواقع) ان الناس لايعملون بها ولا يعيشونها كما ينبغي فذلك لا يعني عدم وجودها بدليل أن هناك من يستطيع العمل بها.
و(الحقيقة) ليست نسبية ولكن النسبية تكمن في أسلوب اقترابنا منها وإيماننا بها, فعلى سبيل المثال أكثر الناس يؤمنون بالله لأن الله حقيقة لكن النسبة تكمن في طريقة تعبيرهم عن هذا الإيمان وأسلوب تعاملهم مع هذه الحقيقة.
يزعم الرجل انه يحب زوجته وتحت هذا الشعار يسيء معاملتها فلا عليها ان تكفر بوجود الحب كحقيقة مطلقة لأنه موجود لكن (الواقع) الذي تعيشه مع زوجها هو المشكلة حيث يكون الواقع مناقضاً للحقيقة.
وهكذا يكون التعامل في فهم كل القيم المطلقة باعتبارها (حقائق) لا تلغى من الوجود لمخالفة (الواقع) لها.
إسرائيل الآن واقع لكن فلسطين حقيقة, ولم تستطع إسرائيل حتى الآن ولن تستطيع الغاء هذه (الحقيقة) من الوجود. ولو كانت فلسطين وجوداً مادياً فحسب لكانت انتهت من الوجود كما انتهى الهنود الحمر وآلت امريكا للغزاة الجدد لكن فلسطين (حقيقة روحية) لا ترتبط بأناس في عصر معين بقدر ما ترتبط بإيمان أمة في كل العصور .
هكذا تكون الحقائق الروحية أو المعنوية هي الخالدة التي لا تزول حتى لو أنكرها الواقع.
والحقائق المادية المحسوسة ما لم تستند إلى قيمة روحية أو معنوية فإنها معرضة للزوال مهما امتد بها الأجل.
قد تزول كل جبال الأرض ويبقى جبل عرفات، وقد تزول كل البيوت وتبقى الكعبة بيت الله الحرام.. هما (واقع) و(مظهر محسوس) و(تجسيد مادي) لحقيقة كبرى, هي (الايمان) الذي يجعل أفئدة الناس تهفو إليهما من كل فج عميق.
وعلى قدر أسلوب تعاملنا مع هذه (الحقائق) ومدى إيماننا بها ومقدرتنا على تحويل هذا الإيمان إلى حياة تختصر المسافة بين (الحقيقة) و(الواقع), وقد استغرقت هذه (المسافة) أعمار الكثيرين، وستظل هكذا إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.


[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][الأرشيف][الجزيرة]
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الىchief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الىadmin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت
Copyright, 1997 - 2002 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved