Thursday 18th March,200411494العددالخميس 27 ,محرم 1425

     أول صحيفة سعودية تصدرعلى شبكة الانترنت

الباستيل.. أيضاً في إسرائيل الباستيل.. أيضاً في إسرائيل
عبدالله بن ثاني*

إنك حالم يا مستر هرتزل، فالفلسطينيون ليسوا مجموعة من القبائل الرحل، وإنما مجتمع حضري متمدن، بل إنه من بين المجتمعات الأكثر تطوراً في الدول العربية، كان هذا جواباً، عن نظرية ثيودور هرتزل في المجال الحيوي الصهيوني، وقال فيها إن فلسطين أرض بلا شعب، تسكنها مجموعة من القبائل الرحل من مكان الى آخر بحثاً عن الماء والكلأ، وهذه المجموعات لا تأبه بقدوم اليهود الى فلسطين وقيام دولتهم على أرضها، لأن الأرض لا تعني شيئاً بالنسبة لهم أكثر من كونها مصدراً للعشب والماء.
وبعد النقاش الحاد بين أعضاء ذلك المؤتمر قرر إرسال حاخامين الى فلسطين، ومكثا فيها ثلاثة أشهر، درسا خلالها الأرض والشعب، ثم أرسلا إليه رسالة:
(إن العروس جميلة جداً، لكنها مخطوبة) فقال: إذا كان هناك شعب، فينبغي إجباره على الرحيل، أو إبادته.
وتم ذلك على يد العصابات الصهيونية ولم يبق من تلك الحقبة إلا تلك الهجرات على قيد الذاكرة ولو أن الزهايمر السياسي لم يتلف خلايا الدماغ لوقفنا حداداً مدة خمسين سنة ولو صاغنا الرصاص إلى غربال لا تتجاوز قيمته الفعلية ثمناً بخساً لعملة مزيفة قياساً الى السيد الدولار وابن عمته الشيكل اللذين لا تنتهي متواليتهما أبداً في حق الانسان على يد الاحتلالات والانتدابات والمنافي التي هي ملت أيضاً من كثرة المسروقين حتى النخاع، والمنكوبين حتى آخر قطرة دم في هذا الزمن البرمائي المجوقل، يا إلهي رحماك، مزامير فاسدة، وطبول فارغة، ورقصات حزينة، ونحن بدائيون وغير مستسلمين، فالعقلية القادرة على اكتشاف الفأس والمقوار على يد العراقيين في ثورة العشرين، هي العقلية في ذاكرة نساء مصر في بورسعيد والسويس التي اكتشفت تسخين السمن وسكبه على رؤوس الطارئين، وهي العقلية التي التقطت الحجر من الطريق لمقاومة الزحف التكنولوجي. يا إلهي رحماك ما يتم تدميره من الكائنات الحية على ظهر هذا الكوكب بحجة تصدير الديمقراطية المزيفة يعادل ما دمرته الحروب الكونية بأرقامها القذرة ومبرراتها المختزلة، وبلغت هذا الحد المخيف والشكل المشوه في هذه التراجيديا بلا نازية تذكر ولا بلشفية يعلق عليها السبب فلا يحتاج الى مبادراتهم التي اقترنت بأسماء سياسية وجنرالات منتدبة ضمن سياقات مجردة من أي جاذبية تبحث عن يوتوبيا في كوكب لم يعد يفهم هذه اللغات النفعية على لسان من سبق ضحيته واشتكى، فحول المسروقات الى استحقاقات لا تقبل التنازل باسم الحرية والشفافية وحقوق كل شيء إلا ذلك الإنسان المنزوع بين صراعات ليست حضارية كما ادعى هانتجتون، بل قوى تبحث عن الغنائم والآبار بالتدجين مرة وبالاخصاء مرات أخرى.
ما هذه النهايات النموذجية للقرارات الدولية في ذاكرة الأمم؟ وما هذه الشخصيات المتمدنة التي ما زالت تؤمن بضرورة سجن شعب كامل خلف جدار فصل عنصري.
أقسى من سجن الباستيل الذي تفتخر الثورة الفرنسية بهدمه عام 1789م، وليت الروائي الفرنسي ألكسندر دوماس الذي كتب رواية سقوط الباستيل عام 1849م حياً ليشاهد أن إنسان هذا القرن أعاد بناء ما هو أطول وأكبر ليكتب روايته تلك باللون الأحمر احتجاجاً على هذا الادمان الأعزل الذي حرّم الأنين واستغاثة الملهوف.
وليت الشرفاء الذين شاركوا في نقض جدار برلين حجراً حجراً يشاهدون ذلك الجدار في شرقنا الأدرد المملوء بالسياجات والقيود والحدود والسجون والخيام والملاجئ ومستشفيات الجنون. فما من زمن كهذا تولى فيه الطارئون المهمات العظمى بعدما رصعوا صدورهم بأوسمة الخيانات ونياشين الارتزاق، وما زالوا يقنعوننا بأن السيف سبق العذل في لحظة ليست للندم وحده وإنما لممارسة كل وسائل التعذيب والتهجير في حق الضحايا المخنوقين أيضا.
وأن القلم قد رفع وجفت الصحف بعد أن امتلأت بأقسى عبارات العزاء في نعي الأمة عبر تاريخها الذي يصرخ إن العطار لا يصلح ما أفسده العسكر هذه المرة. صدقاً لا أدري لماذا أشعر برعدة المقرور من حمى الجمل العربية المنقوشة على ذلك الجدار اللقيط، وتذكرت الرؤية الصهيونية التي تصورت أن فلسطين بلا شعب قد استحالت وتكسرت على ضفاف تراث الجيتو والشك العميق في الأغيار مما أدى الى انشاء هذا الباذخ بعد دعاية له منذ الأربعينات على يد فلاديمير جابوتنسكي زعيم ما يسمى الصهيونية المراجعة أو التنقيحية التي يعبر عنها الآن حزب الليكود بزعامة شارون منطلقاً في نظريته أن أية تجربة استيطانية استعمارية لابد أن تواجه بمقاومة سكانها الأصليين، فلا يوجد شعب تنازل عن أرضه لشعب آخر، والحل في اقامة حائط حديدي حول أنفسهم ويستمر القارئون في البطش والتنكيل، وزاد خوفهم المشكلة السكانية (الديموغرافية) في غزة والضفة الغربية، وأكد بعد ذلك نتنياهو تلميذ جابوتنسكي إذ تبنى فكرة الجدار الواقي لحماية اسرائيل بالمرتفعات الجغرافية للضفة الغربية والجولان، وذكر في كتابه (مكان بين الأمم) أن وزارة الدفاع الأمريكية وافقت منذ حرب 1967م على أن تحتفظ اسرائيل بأربعة أخماس أراضي الضفة وقطاع غزة وهضبة الجولان كلها.
وكانت هذه رؤية لا تختلف عن رؤية حزب العمل الاسرائيلي على لسان بيريز حينما دعا الى الاحتفاظ بالأقسام الضرورية لأمن اسرائيل في الضفة الغربية والتعجيل بتفكيك المستوطنات في غزة والانسحاب منها.
وقد اعتمد رئيس الوزراء الاسرائيلي (شارون) لتنفيذ هذه السياسة على غطاء إعلامي لخريطة الطريق التي يماطل في تنفيذها، ومكافحة الارهاب التي استغلها استغلالاً ذكياً وساعده على ذلك بعض العرب الذين يعطونه فرصة لبث مزيد من شكوى الارهاب عالمياً.
والموافقة الأمريكية لتغطية التعويضات التي تمنح للمستوطنين الذين يتركون غزة. نجحت الحكومة الاسرائيلية بعد أن تجاوزت مسألة الثقة في الكنيست الاسرائيلي ومسألة التحفظ الأمريكي بعد زيارة الوفد الأمريكي ومسألة محكمة العدل الدولية، بعد استطلاع آراء الدول الأوروبية، ونتمنى من الشعوب العربية والاسلامية فتوى محكمة العدل الدولية في عدم شرعية بناء الجدار أن يؤخذ بها في مجلس الأمن وتلزم اسرائيل بنقضه مثلما اعتمد رأيها الاستشاري الذي أصدرته المحكمة عام 1970م حول تحرير ناميبيا من الانتداب الذي حولته جنوب أفريقيا الى استعمار وأما اعتماد اسرائيل على أن صلاحية المحكمة الدولية محصورة في بت النزاعات بين الدول، وفلسطين ليست دولة مستقلة فيمكن أن يلخص الجواب في أمور:
1- ان هذا خاص بالأحكام القضائية بين الدول المستقلة المتنازعة أما الآراء الاستشارية فتتعلق بأي مسألة قانونية تهم المجتمع الدولي المتمثل في الجمعية العامة للأمم المتحدة ومسألة الجدار كذلك.
2- ان ناميبيا لم تكن دولة مستقلة عام 1970 عندما أصدرت المحكمة بخصوص صك الانتداب عليها فتوى اعتمدها مجلس الأمن لتحريرها من الانتداب الذي حولته جنوب أفريقيا الى استعمار بل إن محكمة العدل الدولية اعتمدت رأيها في تفسير بعض مواد ميثاق هيئة الأمم وهي ليست دولة كما هو معروف.
إن الطلب الموجه من الجمعية العامة لمحكمة العدل الدولية بتبيان الآثار القانونية لإنشاء الجدار الذي تشيده القوة القائمة بالاحتلال (إسرائيل) في قسم من الأراضي الفلسطينية المحتلة. وهذا مخالف للمادة 49 من اتفاقية جنيف الرابعة لحماية السكان المدنيين الواقعين تحت الاحتلال، واسرائيل دولة احتلال وفقاً لأحكام القانون الدولي، وهذا الاختراق القانوني مؤيد بموقف الجمعية الدولية للصليب الأحمر الإنساني.
وأما من وجهة الأضرار فقد ألحق ضرراً بالغاً بحياة مئات الآلاف من الفلسطينيين في 67 بلدة وقرية ومدينة بعد أن تجاهلت إسرائيل واجبها في الحفاظ على الالتزام القانوني الانساني الدولي الذي يتعامل مع الحرب والاحتلال، إذ يعد ذلك خرقاً للمادة 57 (3) من البروتوكول الإضافي الأول لاتفاقية جنيف عام 1977 وقانون حقوق الانسان وقرارات المحكمة العليا في اسرائيل ذاتها، لأن الجدار العنصري يقع ضمن المناطق المحتلة، ويحدث أذى بحرية الحركة والحق في العمل والحصول على الرعاية الطبية وحق التعليم وحق المساواة وعدم التمييز وحق تملك الأراضي والعيش والكرامة. وهذه مخالفات بموجب المادة 13 (1) من الإعلان الدولي لحقوق الإنسان والمادة (12) من المعاهدة الدولية للحقوق المدنية والسياسية والمادة 6 (1) والمادة 13 (1) من الميثاق الدولي المتعلق بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والمادة 27، 56 من اتفاقية جنيف الرابعة.
وأخيراً لماذا تعمق إسرائيل أسباب الصراع خلافاً لمصلحة السلام والأمن الدوليين والعالم العربي ما زال يطرح مبادرات السلام حرصاً على كرامة الإنسان الفلسطيني الذي هو جزء لا يتجزأ من هذا الجسد الواحد.
والله من وراء القصد.

* الإمارات العربية المتحدة


[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][الأرشيف][الجزيرة]
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الىchief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الىadmin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت
Copyright, 1997 - 2002 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved