Saturday 20th March,200411496العددالسبت 29 ,محرم 1425

     أول صحيفة سعودية تصدرعلى شبكة الانترنت

دفق قلم دفق قلم
المطيَّة التي لا تتأخَّر
عبد الرحمن بن صالح العشماوي

تختلف المطايا في قوتها وقدرتها على السير، وسرعتها وبُطئها، وهذه المطيَّة لا تتعب ولا تكِلّ، ولا تتراجع ولا تَمَلّ، ولا تبطئ ولا تتأخر، فهي دائمة المسير، تحمل الصغير والكبير، وإنَّما يغفل عنها مَنْ لا يعرفها، أو يعرفها ولكنه ينصرف إلى غيرها من المطايا الواهنات.
أيّ مطيَّة يا تُرى تتميّز بهذه الصفات؟
يعرِّفنا بها عمرو بن عتبة - رحمه الله - فيقول: (كان أبونا لا يرفعُ المواعظ عن أسماعنا، فأراد مرَّةً سفراً، فقال: يا بَنيَّ تألَّفوا النِّعَمَ بحُسْنِ مجاورتها، والْتمسوا المزيد فيها بالشكر عليها، واعلموا أنَّ النُّفوس أَقْبَلُ شيء لما أُعطيتْ، وأعطى شيء لما سُئلت، فاحملوها على مطيَّة لا تبطئ إذا رُكِبَتْْ، ولا تُسْبَقُ وإنْ تُقُدِّمَتْ، عليها نجا من هرب من النار، وأدرك من سابق إلى الجنَّة؛ فقال الأصاغر من الأبناء: يا أبانا ما هذه المطيَّةُ التي ذكرتَ؟ قال: التوبة).
مطيَّة التَّوبة هي التي توصِّل راكبها إلى النجاة، تسير به في كلِّ الأوقات؛ حينما تشتدُّ غياهب الظلام، ويغيب عن دنياهم النِّيام، وحينما تشرق الشمس مع تباشير الصباح، وتستقرُّ في كبد السماء مع شدة قيظ الظهيرة، وتغرب مع احمرار الأفق بلون الشَّفق.
مطيَّةٌ لا يصدُّها صقيع الشتاء، ولا صفير الرِّياح وزمْزَمات الأعاصير، ولا يردُّها لهيب القيظ حينما تشتدُّ حَمارَّةُ الظهيرة في يومٍ صيفي ملتهب، مطيُّة التوبة لا يعجزها جبل شامخ، ولا يصدُّها طريق وعْرٌ، ولا يخيفها منحدرٌ سحيق، فهي جاهزة للراكبين، لا ينزل عنها رَحْلُها، ولا تُنَاخُ في مراحٍ أبداً، بل هي واقفة تنتظر الراحلين إلى حدائق التوبة الغناء، وبساتين المغفرة الخضراء، سهلة القياد، لا تعرف نفاراً ولا شراداً، ولا تحرنُ كما تحرن المطايا التي يعرفها الناس.
هذه هي المطيَّةُ التي لا تتأخَّر بصاحبها عن غايته، ولا تصرفه عن هدفه، ولا تكلِّفه شيئاً من حُطام الدنيا.
ولا بأس أن نعود إلى مقالة عمرو بن عتبة لنقف وقفة المتأمِّل عند قوله: (كان أبونا لا يرفع المواعظ عن أسماعنا) فسوف نجد في كلمة (لا يرفَع) إضاءةً تربوية إسلامية تضيء للآباء طريق التربية المستقيم، فهذا الأبُ حريصٌ على رعاية أبنائه لأنه يريد لهم النجاة يوم يقوم الناس لرب العالمين، فهو دائم التوجيه لهم، والوعظ الذي يقرّبهم من ربِّهم، فكلمة (لا يرفع) كناية عن متابعتهم المتكررة بالنصيحة. والتوجيه والموعظة الحسنة، ودليلنا على أنها موعظة حسنة، هذه النصيحة التي نقلناها قبل قليل، فهي ليِّنة العبارة، رقيقة الإشارة، تحمل من روح الحرص والمحبّة على الأبناء ما لا يخفى على قارئها، إنها نصيحة الأب الراعي الذي يعلم أنَّ الله سيسأله عن رعيته يوم القيامة، ويدرك بإيمان، معنى قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ} فهو لذلك، لا يكاد يتوقف في كل وقتٍ مناسب عن إتحاف أبنائه بالمواعظ المؤثرة، التي ترشدهم في دروب الحياة.
رسالة إلى كلِّ راعٍ لعلَّه يدرِّب رعيّته على ركوب تلك المطية التي لا تتأخِّر.
إشارة:


ما كلُّ مَنْ ذرف الدمع الغزير بكى
قد يذرف المرء دمْع العين تَمْويها


[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][الأرشيف][الجزيرة]
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الىchief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الىadmin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت
Copyright, 1997 - 2002 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved