Wednesday 24th March,200411500العددالاربعاء 3 ,صفر 1425

     أول صحيفة سعودية تصدرعلى شبكة الانترنت

من أين أتينا؟ من أين أتينا؟
قراءة في نظرية الفسطاطين
د.عبدالله بن ناصر الحمود*

لعل السبب الذي هجر من أجله نفر من الأوروبيين المتأمركين قارة أوروبا كلها نحو الرصيف الأمريكي في غرب المحيط الأطلنطي, أنهم كانوا ثائرين على هيمنة الرأي الواحد الكنسي, وكذلك على الرأيين الاثنين عند اتفاقهما: الكنسي والإقطاعي. فقد ضاقت أوروبا كلها بنواة العقلية الأمريكية المتشكلة وفق تعددية لم تُسبق في التاريخ. ونزح الثائرون على كل قيد إلى أرض الحرية, ليعيشوا من غير قيود ولتتكوّن هناك دولة يقول فيها ويفعل كل فرد حسبما أوتي من قوّة وعلم ومهارة. واستنُّوا لأنفسهم منهجا ارتضوه, يقوم على أن لكل فرد الحق في أن يعبر عن رأيه بالطريقة التي يراها ملائمة, وأن له الحق في اختيار الحاكم, وفي إجازة الأنظمة واللوائح, أو الاعتراض عليها, أو حلّها, لتتجمع آراء كل الأفراد, ولتفوز الآراء الأكثر بفرض هيمنتها على مجريات الأحداث, ومضت السنون لتتعدد الآراء الفردية في أمريكا, ولتتطور قدرة الأمريكيين على استيعاب تلك الآراء, بقدر من هاجر من العالم كله نحو أمريكا. وصار ذلك كله, ليخرج المنتج الأمريكي الأكثر إشغالاً للعالم: الديموقراطية, التي سادت بها أمريكا - جنبا إلى جنب مع الفكر الرأسمالي - معظم أجزاء العالم, لعقود خلت من السنين, اتصفت بالعمل الجاد الشاق الطموح, من أجل أن تكون أمريكا في أعين الأمريكيين خير أرض على وجه الأرض, ومن أجل أن تكون كذلك -أيضا - في أعين الآخرين من السود والسمر والصفر. ولأن مرحلة التأسيس للدولة الأمريكية كانت تتسم بطموح كبير نحو النبل المجتمعي, ومناصرة الأقليات, والمظلومين, وسماع كل الأصوات, واحترامها, صار لأمريكا ما تمنت, وسادت العالم فعلا بما أبهرته به من منتجات تفتقت عنها العقلية الأمريكية, حتى أصبحت أمريكا مقصد المحتاجين, والمعوزين, والخائفين, ليحدوا هناك سد الحاجة, وفك العوز, والأمن على النفس والمال. واستطاعت أمريكا بذلك أن تتمدد كثيرا, ليأتي التحول الدراماتيكي في العالم بسقوط القطب الشيوعي, ليؤذن فلسفة جديدة للنظرة الأمريكية للكون والحياة, وهي النظرة التي لم تعد تحدها حدود أو تؤرقها عواقب, وحينذاك بدأت في التكوّن ثقافة اللامحدود في العقلية الأمريكية نحو التميز, والتفرد, والسيادة, وفرض الرأي. وبدأ التمرد البشري يظهر شيئا فشيئاً طالما انه لم يعد في العالم من يستحق أن تحسب له أمريكا حسابات كثيرة. فلربما كانت أمريكا تخاف من عقوبة الاتحاد الشرقي المتضخم, كلما عنّ لها ان تحيد عن مظاهر العدل والمساواة والإنصاف واحترام موازين القوى الدولية, لكن الشرق سقط بعنف, بل ارتمى في أحضان الحضارة الغربية. وما سوى اتحاد الشرق الأكبر ليس إلا ما تملك أمريكا مفاتحه ومغالقه. ولأن المثقفين الغربيين والأمريكيين - بشكل خاص - تستهويهم نظرية السيادة الأمريكية, فقد انبروا لتمجيد حضارتهم, وخرجت نظريات (وليس فقط نظرية) لصراع الحضارات, والتي مثلت فيها (أمريكا) قطبا و(غير أمريكا) قطبا آخر مواجها ومهددا بظهور حضارة مناوئة للحضارة والهيمنة الأمريكية, وعملت - كما يبدو - دوائر الاستخبارات الأمريكية على فحص العالم والنظر إليه من هذه الزاوية: زاوية النبل والتفرد الأمريكي وأهليته لسيادة العالم, في مقابل كيانات بشرية أخرى ليس لها أن تنعم بالعيش في هذا العالم ما لم تكن في أحضان الحضارة الأمريكية. ووقعت (السياسة) الأمريكية في منزلق (السيادة), وأي منزلق. ما إن بدأت سنوات تسعينات القرن العشرين حتى ظهر للعالم تمرد أمريكي من نوع جديد, قوامه التجويع الاقتصادي, والتلويح بالآلة العسكرية المهيبة. وينتهي القرن العشرون لتنتهي معه - أو هي كادت - الأسطورة الأمريكية للعدل والمساواة والسلام, ولتبرز - بقوة - ظلالة البشر عندما يقوده الهوى, فتقسم امريكا العالم إلى قسمين: (مع أمريكا) و(ضد أمريكا), ويأتي الرد الأسرع من المستنقع الباعث للقسمة الأمريكية نفسها: القاعدة, لتقسم القاعدة العالم إلى فسطاطين: الإسلام, والكفر. ولأن أمريكا دولة مؤسسات فقد احتاجت إلى أربعة قرون لتدخل هذا المستنقع الخطير, أما القاعدة البائدة, فلم تكن سوى أفراد, ولذلك لم تحتج أكثر من أربع ساعات - ربما - لترد باللغة نفسها. ويدخل العالم رحلة جديدة من الصراع الذي لم تستطع أن تؤمِّنه أمريكا إن هي بقيت على سياستها الثنائية, ولن تتمكن أي حضارة أو ثقافة أخرى أن تُقنع العالم بعدالة القضية إن هي نظرت للعالم على أساس من نظرية الفسطاطين. سياسة (إن لم تكن معي فأنت ضدي) مهلكة، تقزمت أمامها عظمة الكبار من أمم الأرض, وهانت فيها كل أمة على الأخرى, لينقلب العالم إلى ساحة للفساد والثأر والخراب, بالقدرة الذي لن يدع الخراب شيئاً إلا ويأتي عليه. لن يصلح آخر هذا الزمان إلا بما صلح به أوله, ولم تسُد حضارات الدنيا منذ الحضارة الفرعونية إلى أن أتت الحضارة الأمريكية, مروراً بالحضارات كلها ومن أعظمها الحضارة الإسلامية إلا بمركبات العدل والمساواة والعمل على أساس من التمايز والتغاير. ولم تنْهَرْ كل تلك الحضارات السابقة, أو توشك على الانهيار, إلا عندما فقدت - أو هي كادت أن تفقد - مركبات سيادتها الأولى. والعالم اليوم رهين بعقلانية. ربما أتينا من أن من بيننا ومن حولنا من لا يدركون أن الله قد خلق الناس شعوبا وقبائل ليتعارفوا, وليس ليتحاربوا ويقتل بعضهم بعضا, ويستبيح بعضهم حرمات بعض.

* عميد كلية الدعوة والإعلام بجامعة الإمام


[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][الأرشيف][الجزيرة]
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الىchief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الىadmin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت
Copyright, 1997 - 2002 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved