Thursday 25th March,200411501العددالخميس 4 ,صفر 1425

     أول صحيفة سعودية تصدرعلى شبكة الانترنت

بصراحة بصراحة
غياب الفكر الفلسفي الإبداعي في الثقافة العربية المعاصرة (1-3)
لبنى وجدي الطحلاوي(*)

إن أردنا أن نتحدث عن الإنتاج الفكري بصفة عامة، أو الفلسفة بصفة خاصة، في عالمنا العربي، فلابد أن نطرح هذا السؤال: هل لدينا فلسفة عربية معاصرة ؟!!
لا شك بأن الإجابة ستكون (بالنفي).. وخاصة إذا ما قارنا بين إنتاجنا الفكري والفلسفي في تراثنا الحضاري العربي الإسلامي، وبين إنتاجنا الفكري والفلسفي المعاصر، وبين الإنتاج الفلسفي المعاصر في أوروبا وأمريكا من جهة ونظيره في العالم العربي من جهة أخرى..
ويرجئ البعض هذا التراجع في ثقافتنا العربية المعاصرة إلى عدة أسباب.. أهمها:
1) ان الفكر العربي لم يشهد طفرة من التجديد، على غرار طفرة التجديد التي عاشها الفكر الأوروبي منذ القرن السابع عشر الميلادي والتي أشعلها الفيلسوف الفرنسي (ديكارت) ثم شاركه فيها (فرانسيس بيكون) فبالرغم ان الأول عرف بالمنهج العقلاني، والثاني عرف بالمنهج الذي يعتمد التجربة في البحث، إلا انهما نجحا سويا في الوصول إلى الأسباب التي كانت تقود الفكر نحو الخطأ وتعترض الطريق للوصول إلى المعرفة الحقيقية، وكان لهذا أكبر الأثر في تطوير الفكر الأوروبي.
2) غياب الحريات وتراكم المشكلات السياسية والاجتماعية في عالمنا العربي.. إلى آخره من الأعذار.. وللإجابة على النقطة الأولى:إن أحدا لا ينكر المساهمات الثرية والإبداعية للحضارة العربية الإسلامية، في الحضارة الغربية عامة وفي تاريخ الفكر الإنساني خاصة.. والتي سبقت تلك الطفرة من التجديد للفكر الأوروبي في القرن السابع عشر الميلادي فكان يوجد تراث حضاري عربي إسلامي ثري في كافة العلوم والفنون لا يمكن تجاهله كان الأرضية والمرجعية الرئيسية لما حققه الغرب والأوروبيون تحديداً، من حضارة في أزمنة لاحقة، بعد خروجهم من حقبة القرون المظلمة، (The Dark Ages) ومازال ليومنا هذا فلسفات الفارابي وابن سينا وابن رشد تدرس في كافة الجامعات الكاثوليكية في الغرب.
كما إن أحداً لا ينكر بأنه بدأت نهضة ثقافية عربية في القرن التاسع عشر الميلادي.. لكنها تميزت بغلبة الطابع الأدبي واللغوي على تلك الثقافة وبسيادة الاتجاه الإصلاحي، كما ساهم الفكر النهضوي بكل تياراته فيها، من أجل إدماج التفكير النقدي والتجديدي في الثقافة العربية المعاصرة، لكنه لم ينجح في جعل حضور الفلسفة ضمنها بوصفه عنصراً مؤثراً في تطورها، ولذلك لا ننكر وجود تأليف فلسفي في العالم العربي المعاصر، لكنه لم يبلغ درجة الفلسفة بعد..
وللإجابة على النقطة الثانية: هل أنتج هؤلاء العرب والمسلمون إبداعاتهم العلمية والفلسفية والأدبية في الحضارة العربية الإسلامية في أجواء مثالية، تتمتع بالحرية وبعيدة عن المشكلات السياسية والاجتماعية؟
وهل نظراؤهم من الغرب أو الأوروبيين تحديداً عايشوا أيضاً أجواء مثالية تتمتع بالحرية وبعيدة عن المشكلات السياسية والاجتماعية؟
ألم يتعرض الكثير من العلماء والفلاسفة في أوروبا للحرق والصلب والقتل بأوامر من الكنيسة ومحاكم التفتيش ومن أشهر ذلك حرق الكنيسة البروتستانتية بسويسرا العالم (ميشيل سيرفيه) لاكتشافه الدورة الدموية. وإحراق الكنيسة في إيطاليا العالم (غاليليو) وحرق الكنيسة في (لاهاي) عام 1512م القاضي والكاهن (هرمان فان ريزويك) لأنه قال سيدنا المسيح عليه السلام ليس ابن الله.
أما علماء وفلاسفة العرب والمسلمين فبالرغم انهم كانوا يحظون بكل التشجيع والاحترام والتقدير من الحكام ويفتحون لهم قصورهم ويشغلون أكبر المناصب في الدولة مثل القضاء والفتوى إلا ان كثيراً منهم لم ينج من مكائد خصومهم، وتأليب العامة عليهم مما عرض بعضهم للنفي والسجن.. وبالرغم من ذلك ظل ثراء الحضارة العربية الإسلامية في ازدياد، كما ازداد فلاسفة العرب والمسلمين في نبوغهم وفي إنتاج إبداعاتهم الفكرية والفلسفية من أول الكندي في الثلث الأول من القرن الثاني من الهجرة. إلى ابن رشد في القرن السادس من الهجرة.. وضمت تلك الفترة أعظم فلاسفة العرب والمسلمين أمثال الفارابي وابن سينا والجويني وأبي حامد الغزالي وابن باجة وابن طفيل وابن خلدون واخوان الصفا وابن الهيثم ومحيي الدين بن العربي وابن مسكوية والرازي وابو حيان التوحيدي.. وغيرهم.
- فأبو حامد الغزالي بالرغم انه عاصر المرحلة الثانية من الخلافة العباسية في عهد الخليفة المتوكل والتي سميت بمرحلة الانحطاط لما شهدته من انقسامات عدة للمسلمين، (مذهبية وسياسية) واحتلال المغول لعاصمة الخلافة العباسية ببغداد استطاع أن ينتج أكثر من سبعين كتاباً بعضها رداً على الفلاسفة من أشهرها كتاب (تهافت الفلاسفة) كما أوجد منذ القرن الخامس الهجري إطاراً جديداً للإشادة (بميتافيزيقا إسلامية سليمة) لاستعماله منهج (القياس الأرسطي) الذي كان يتبناه أستاذه الجويني.
- كما استطاع ابن خلدون أن ينتج أعظم ما لديه في ظروف بالغة الصعوبة فبالرغم مما تعرض له من مكائد ودسائس خصومه التي كانت تلاحقه في كل مكان وأغضبت عليه الحكام، فلم ينج من السجن، ثم فراره بعد خروجه من السجن من بلد إلى بلد حتى مات في منفاه بمصر، لم يعوقه ذلك عن إنتاج مؤلفاته المختلفة والتي من أشهرها (مقدمة ابن خلدون) وكتب التربية الإسلامية التي يتفق كثيراً من مبادئها مع أصول التربية الحديثة لهذا العصر، كما يعتبر أول من وضع أسس علم الاجتماع، وفلسفة التاريخ منذ سبعة قرون، والذي سبق بعدة قرون (اوغاست كونت) مؤسس علم الاجتماع في أوروبا كما أخذ عنه الغرب القواعد العامة للنظام الاجتماعي، وأخذ عنه الغربيون المعاصرون ذلك المصطلح (سوسيولوجيا).
- وابن رشد الملقب بالشارح لاعتباره أفضل من شرح لأرسطو صاحب كتاب (تهافت التهافت) الذي كان رداً صريحاً على كتاب (تهافت الفلاسفة) للغزالي والذي كان ضحية البطانة الموالية للحكام والسلاطين في الأندلس فأغضبوا عليه الحكام وألبوا عليه العامة من الشعب فأحرقت كتبه في محرقة كبيرة شهدتها قرطبة، ونفاه الخليفة المنصور إلى بلدة (أليسانه) ثم ذهب إلى المغرب فرحب به في بادئ الأمر الأمير يعقوب بن يوسف الخليفة الرابع لدولة الموحدين بالمغرب وعينه قاضيا لكن ما لبث أن دسَّ له خصومه الدسائس فاتهم بالجنون، ثم سجن حتى مات في سجن مراكش.
- وابن الهيثم بالرغم انه الملقب بنابغة عصره في العلوم والرياضيات إلا انه يعد من أعظم فلاسفة العرب والمسلمين أنتج عدة مقالات ورسائل في النفس والعقل وعن طبيعتي (اللذة والألم) ولخص الكثير من كتب أرسطو وشرحها إلا انه ادعى الجنون عدة مرات في حياته، الادعاء الأول كان ليتخلص من سطوة حاكم البصرة ومن وظيفته، من جهة أخرى، والمرة الثانية لادعائه الجنون كانت عندما عينه الحاكم بأمر الله ليتولى الديوان المصري فوجد الحاكم ظالماً مريقاً للدماء، بسبب ولأضعف سبب، ولم يستطع أن يطلب منه أن يعفيه من منصبه، فادعى الجنون، وظل على ادعائه هذا حتى توفي الحاكم، فأظهر العقل والحكمة وعاد إلى التأليف ولتكملة مشواره في العطاء.
- وإخوان الصفا أنتجوا رسائلهم الفلسفية المشهورة باسم (رسائل اخوان الصفا) في (52) رسالة مقسمة إلى أربعة أقسام، الأول (14) رسالة رياضية تعليمية، والثاني (17) رسالة جسمانية طبيعية، والثالث (10) رسائل نفسانية عقلية، والرابع (11) رسالة ناموسية إلهية، بالرغم انهم عاشوا يخفون هوياتهم وأسمائهم الحقيقية وفي أجواء من السرية والتكتم، بالغة الصعوبة، ولم تدخل رسائلهم ويطلع عليها العلماء والعامة من الناس إلا بعد مرور مائة سنة فدخلت الأندلس بعد قرن من الزمان على يد أبي الحكم عمرو بن عبدالرحمن الكرماني القرطبي
- وابن الأزرق بالرغم انه عاصر الأندلس وهي تلفظ أنفاسها الأخيرة أي عاصر ذلك الانهيار العظيم للحضارة العربية الإسلامية، والعرب والمسلمين يودعون مجداً لهم امتد لأكثر من ثمانية قرون إلا ان ابن الأزرق وكثيرين مثله ظلوا يزودون المكتبات العربية بما جادت به قريحتهم وظلت مجالس العلم آهلة بطلاب العلم الوافدين من شتى مشارق الأرض ومغاربها، كما أنتج أشهر كتبه (بدائع السلك في طبائع الملك) و(روضة الإعلام) في أصعب فترة من تاريخ المسلمين في الأندلس ووضع العرب منذ ذلك الوقت حداداً أسود على رؤوسهم بأن ربطوها بقماش أسود عوضا عن الأبيض أو الأخضر وغيرها من الألوان التي كان العرب يربطون بها رؤوسهم، وهو الذي تطور فيما بعد إلى أن أصبح العقال الأسود الحالي، فهذه هي حقيقة قصة العقال الأسود، الذي يعتبر رمزاً للحداد والذي يذكرنا بما خسر العرب بانهيار امبراطوريتهم ومجدهم في الأندلس..
مما يجعلنا نطرح السؤال الكبير.. كم عقالاًً أسود على العرب أن يضعوه فوق رؤوسهم الآن ؟

عضو عامل هيئة الصحفيين السعوديين
عضو الجمعية السعودية للإعلام والاتصال
ص.ب 4584 جدة 21421 - فاكس جدة 26066701


[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][الأرشيف][الجزيرة]
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الىchief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الىadmin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت
Copyright, 1997 - 2002 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved