Monday 29th March,200411505العددالأثنين 8 ,صفر 1425

     أول صحيفة سعودية تصدرعلى شبكة الانترنت

يا صبر زهوة على بلواها يا صبر زهوة على بلواها
حصة القبلان

زهوة في مثل هذا الشهر من العام في 27-1-1424هـ ودَّعت الحياة رحمها الله ورحم موتانا وموتاكم أجمعين. وقد كانت زهوة موعودة مع الصبر والمعاناة منذ نعومة أظافرها، فقد تزوجت وعمرها عشر سنوات من رجل يكبرها بسنين كثيرة متزوج وله أولاد أكبر منها. وكانت رحمها الله تهرب منه إلى أحضان أمها، حيث تتسلَّق الحائض القصير عندما كانت الأسوار قصيرة آنذاك، وعندما كان الناس مطمئنين لا يخشون تطفُّل العيون وعندما كانت العيون لا تتعدى على حقوق الغير. المهم أن زهوة كانت تعاد إلى بيت الزوجية في اليوم التالي، كان زوجها رجلاً يعمل بالقضاء فكان كثير التنقّل في مدن المملكة فيأخذها معه أينما يذهب فتعوَّدت عليه وفُتن هو بها فعاشت في كنفه مدللة ومحظية وأنجبت له ثمانية من الأولاد والبنات وهي لا تعرف من الحياة غير الدلال والراحة. وكانت تسكن منزلاً (مسلحاً) كما كانوا يسمونه آنذاك وهو شبه فيلا مشيَّدة من الأسمنت والبلك وأرضياتها مكسوة بالرخام والبلاط، بينما يجاورها منازل من الطين المتعارف عليه فيما مضى، وكان الناس يسافرون بالشاحنات واللوريات بينما تركب زهوة طيارة الحكومة المجانية فهي لا تدفع ثمن التذاكر بما أن زوجها قاضي محكمة وكان يتوارد على منزلها النساء لخدمتها وللقيام بأعمال الغسيل والتنظيف مقابل ما يقدِّمه الزوج المحب من نقود وعطايا. كانت زهوة امرأة بسيطة متواضعة غير متكبرة لا تفارق الضحكة ثغرها ولا تحمل من هموم الدنيا ذرة حزن، وشاء الله سبحانه وتعالى أن يختار زوجها إلى جواره فتوفي وترك في عهدتها ثمانية أطفال أصغرهم عمره سنتان. تبدلت أحوالها تبدلاً جذرياً وتخللتها أحداث عصيبة فتزوجت من رجل عربي جبَّار متكبِّر وسيلته في التفاهم الضرب والتعذيب وبعد هذا الزواج بفترة توفيت ابنتها الكبيرة ولها من العمر 16 سنة. ثم رزقها الله بولد من زوجها الجديد ففرحت به لكن أبوه حرمها من إرضاعه فكان يرضعه الحليب الصناعي حتى لا يتعوَّد الطفل على أمه والويل لها إن أرضعته من صدرها.
تتالت الأحداث على زهوة فأصيبت ابنتها الأخرى بمرض نفسي مزمن تركت بسببه الدراسة بعد ذلك وعلى مدى سبع سنوات أصيب ثلاثة من أولادها الذكور بانفصام الشخصية رغم تفوّقهم حتى المراحل المتوسطة ورغم ما يتمتعون به من ذكاء، فخسرت الأربعة، حيث لم يستطيعوا تكملة دراستهم وأصبحوا يحتاجون لأدوية مدى الحياة. ثم قرَّر الزوج الرحيل إلى بلاده ومعه ابنه فأخذه وحرمها منه وكانت شديدة التعلُّق به, ومع هذه الظروف العصيبة فلا دخل ولا مصدر للرزق لها ولكن أولادها يحتاجون لرعاية شديدة ومصاريف ومتابعة، فقد اضطرت لأن تبعث باثنين منهم إلى مستشفى الصحة النفسية بالطائف وفي هذا الوقت بدأ مرض السكر يستولي على صحتها ومعه صديقه الضغط، في هذه المرحلة من حياتها كانت تعيش مع ابنها المريض الذي بقي معها وكان فيها حنين شديد لذلك الولد المرتحل مع أبيه الذي لم تره من سنين، أما ابنتها المريضة التي تزوجت وأنجبت الأطفال فقد عادت إليها وهي تبكي وتحمل بيدها ورقة الطلاق بالإضافة لشدة انفعالاتها نتيجة حرمانها من أولادها بالإضافة لإصبتها بقرحة المعدة والتبول اللا إرادي، وبذلك أصبحت زهوة مسؤولة عن مريضين وهي الثالثة خاصة بعد إصابتها بفشل كلوي يحتاج لغسيل الكلى يوماً بعد يوم. وبعد مرور خمس سنوات على ذلك بدأت الغرغرينا تأكل قدمها اليمنى فاضطر الأطباء لبترها من تحت الركبة وبعد العملية دخلت في غيبوبة لمدة عشرين يوماً وكانت في حالة ميئوس منها حسب الأطباء. وبإرادة الله سبحانه فاقت زهوة من غيبوبتها على معاناة جديدة بقدم واحدة وآلام لا تنتهي ولإحباطها وضيق حيلتها بدأت تعقد الآمال على الابن الغائب لعله يعود فقد أصبح الآن شاباً يعتمد عليه بعد الله، وقد يساعدها على حل مشاكلها، وكانت تحلم وتردد يا ليته يجي، وكانت في كل زيارة غسيل للكلى تتعذَّب بين يدي الخادمة وسائق التاكسي في حالة إركابها للسيارة وإنازلها منها بعد أن بُترت ساقها، وكم دعت الله أن يعود الغائب لتحل هذه المشكلة المؤلمة. وقررت أن تخفف عن نفسها العبء فحاولت إدخال أولادها المرضى إلى مستشفى الصحة النفسية ولكن دون جدوى رغم أنها ذهبت للمستشفى مترجية وهي على العربة فلم تشفع لها حالتها بالاستثناء، فالمستشفى ليس مكان إقامة، بل لإعطاء العلاج فقط وفجأة حضر الابن الغائب والأمل المنشود بعد غياب 15 سنة عن أمه وقفز قلبها فرحاً عندما علمت أنه هو من يطرق الباب وكادت أن تمشي على قدم واحدة وعندما أقبل عليها صدمت أشد صدمة فقد كان يستهدي إليها بعصا يحملها بيده، إنه فاقد البصر نتيجة مرض السكري، فالأمل المنشود يحتاج لمن يعتني به، وبعد مضي سنتين أصيبت قدمها اليسرى أيضاً بالغرغرينا وبُترت ساقها من تحت الركبة وخلال عشرة أيام شفيت تماماً شفاء لافتاً للأنظار وكانت مسرورة رغم ما مرت به من عذاب عندما بُترت ساقها اليمنى.
وكان موعد خروجها بعد عشرة أيام من بتر ساقها في الساعة الواحدة ظهراً، واجتمع الأحبة في منزلها يهنئونها بخروجها من المستشفى ولكنها كانت تشعر بثقل وميلان في وجهها، وفي الساعة الثامنة مساء أعيدت إلى المستشفى بسيارة الإسعاف وفي طريقها للمستشفى لفظت الشهادة وغابت عن الوعي ووضعت في العناية المركزة، الحالة (انفجار شريان المخ)، وبعد أسبوع اختارها الله سبحانه إلى جواره.. رحمها الله رحمة واسعة. هذه المرأة الصابرة القوية باليقين، كنت ترى فيها إيماناً بالقضاء والقدر ليس له مثيل، ففي كل ظروفها وأحوالها تحمد الله وعندما تسأل عن حالها ترد نحن بخير ونعمة لا تشتكي ولا تتذمر راضية بقدرها مستسلمة لإرادة الله، لقد كانت صابرة صبراً يعجز الصبر عن استيعابه، فسبحان من منحها هذه القوة الروحية وهذ التحمُّل الكبير. أما أولادها فالضرير عاد إلى أبيه والمرضى يقيمون الآن في مستشفى الصحة النفسية، رحمها الله رحمة واسعة وعوَّضها جنة الفردوس ورزقنا وإياكم الصبر واليقين.


[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][الأرشيف][الجزيرة]
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الىchief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الىadmin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت
Copyright, 1997 - 2002 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved