Tuesday 30th March,200411506العددالثلاثاء 9 ,صفر 1425

     أول صحيفة سعودية تصدرعلى شبكة الانترنت

لعبة الموت بين: (شارون) و(ياسين)..! لعبة الموت بين: (شارون) و(ياسين)..!
د. حسن بن فهد الهويمل

أن تموت بلا ثمن، فتلك خسارة فادحة، وأن لا يُحسن الخلف استثمار الثمن فذلك تفريط مدان. وكل الأبطال يختارون الشهادة، و(ابن الوليد) مات على الفراش حتف أنفه.
وحين يكون الموت واحداً، والأسباب متعددة، فإن المحظوظين يودون أفضل الأسباب. و(أحمد ياسين) رحمه الله شيخ كبير مقعد، لم تعد الحياة تساوي عنده جناح بعوضة، وليس بمستبعد ان يقضي نحبه بين ساعة واخرى. لقد وهن عظمه، واشتعل شيبه، وانشلت حركته، والتاث لسانه، فهو مقبل على الآخرة، ولو مات بأي عارض غير الاستشهاد لكان رحيله بلا ثمن لمن خلفه من الصامدين، ولكن الله تفضل عليه وعلينا بهذه النهاية الثمينة، فله منا الدعاء المضاعف على جهاده واستشهاده. والغدر به حمَّل رفاق دربه دمه، وهو حمل ثقيل، ومتى أضاعه قومه مات بموته خلق كثير، وضاعت بضياع دمه حقوق أكثر.
لقد جاء استشهاده بيد وغد من أوغاد اليهود، فسق عن أمر سيدته وصانعة جبروته، ولما يزل يقول شططاً، ويفعل فحشاً. وحين طُعن (عمر بن الخطاب) رضي الله عنه، وهو قائم يصلي في المحراب، كان سؤاله عن القاتل، مخافة ان يكون من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولما علم بأن القاتل غلام المغيرة بن شعبة، حمد الله.
وإذا كان (شارون) يريد بقتله للشيخ المعوَّق -وهو خارج من المسجد- التخلص من شخصه، فقد حقق ما يريد. أما إذا كان يريد أن يقمع إرادة الشعب الفلسطيني، ويجهض مواقف الشعوب العربية والإسلامية فإنها حية لا تموت، ولن تنقلب على أعقابها بعد قتله. و(شارون) منذ أن دخل (المسجد الأقصى) إلى أن استخدم أفتك الأسلحة يمارس التصعيد، ظناً منه أن إذلال الإنسان العربي يوهن العزم، ويحسم القضية. وإذا كان الصهاينة والمتصهينون على شاكلته في الاقتحام والمحاصرة والتصفية والهدم، فإن العاقبة للإنسان الفلسطيني، لأنه مظلوم، والله أقسم على نصره ولو بعد حين. واغتيال الشهيد حين يُحسب بعوائده الإيجابية يصير كما العملية الفدائية، وإن خطط له في (الكنيست). وكم من متجبر متكبر فكر وقدر، ثم قتل كيف قدر. و(شارون) فعل ما كان قد فعله (فرعون)، حين اتخذ موسى، ليكون له عدواً وحزنا. و(شارون) يريد ان ينتفع من قتل (أحمد ياسين)، ولكنه أذكى الحماس، ووحد الصفوف، وعمق الكره، وخيب الآمال، وأحرج الأصدقاء والداعمين والمهرولين، وشرعن لمزيد من العمليات الفدائية. ولو كان ذكياً استذكر ما ترتب على اغتيال (عباس الموسوي) و(يحيى عياش) إذ جاء بعد (عباس) (نصرالله) الأشد، وأسقط اغتيال (العياش) (بيريز) بعد اغتيال ستين صهيونياً.
و(شارون) بجريمته يزج بالمنطقة في أتون الفتن، مثلما جرَّت (لوبياته) دول التحالف ليرموا بفلذات أكبادهم في الصحاري والكهوف والمغارات. وهو بفعلته النكراء يدفع بشعبه إلى حمامات الدم، ويعرضهم للقتل والخوف والإذلال، وما أغباه حين أغراه الوضع العربي المنهك بمزيد من العمليات الإرهابية. وإذا كان قادة العالم العربي في وضع لا يقدر أحدهم معه أن يتجاوز كلمة الشجب، فإن إرادة الشعوب العربية لا تقهر، والشعب الفلسطيني يستمد طاقته من إرادة الشعوب العربية والإسلامية. ومتى استبطن الإنسان العربي الريبة والكره للمحتل والداعم فإن حياة المحتل في خطر، وسوف يقضي أيامه وراء ترسانته، وبئست حياة لا تحميها إلا الترسانات أو الجدار العنصري، وكلما رفع الصهاينة درجة الاستعداد والتخندق، كان ذلك على حساب التنمية والاستقرار.
وإذا كان المحتل الصهيوني يراهن على (الفيتو الأمريكي) و(الإف15) و(الأباتشي) فعليه أن ينظر إلى من هو فوق الخلق يدبر الكون، ويعد بنصر المظلوم، ولو بعد حين. ومن ركن إلى الله فليقبل قضاءه وليفر إليه، وليتعرض لوعده بشرطه { إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُم }. وعلى الشعوب العربية أن تستوعب الحدث وان تستثمره، وان لا تدعه يمر بدون ثمن، ولكي تستعيد الأمة عافيتها ووضعها الطبيعي، لا بد لها من تجاوز الجزئيات إلى الكليات، وتفادي بؤر التوتر المفتعلة، ولن يتحقق شيء من ذلك إلا بتوحيد الجبهة الداخلية، واجتياز الظروف العصيبة بقوة المؤمن وثقة المحق.
لقد حمدت الله حمداً كثيراً على هذه النهاية السعيدة للمجاهد (أحمد ياسين)، بل هي نهاية سعيدة له وللأمة العربية والإسلامية. إنه في حالة حرب مع المغتصب، والصهاينة لن يقدموا له باقة من الورود، ولكنهم لو كانوا يفقهون لتركوه يرقب أجله القريب، غير أن غباءهم جعله بطلاً: حياً وميتاً، وتلك خسارة فادحة لهم. لقد ضج العالم بالاستياء والاستنكار والإدانة، وتوعدت الفصائل بالانتقام، مما حدا بأمريكا إلى القول: لم يكن لنا دور ولا علم، وذلك مؤشر خوف، وحين لم تشجب فلأنها أسيرة (اللوبيات). وموقف كهذا في غاية الضعف والوهن، فهي من جانب تحاول النجاة بنفسها من الرد العنيف، وذلك بنفيها العلم أو الإسهام، وهي من جانب آخر لا تقدر على اتخاذ موقف جريء يدل على استقلالية قراراتها. لقد تبين أنها محكومة بالخوف من المقاومة، ومسلوبة الإرادة الحرة من جماعات الضغط الصهيوني. وكيف لها ان تنهض بمهمات (القطب الواحد) وهي خائفة عاجزة: خائفة من ردود الفعل، وعاجزة عن الاستبداد بالرأي؟؟.
لقد رأيت وسمعت المنتحبين المتفجعين، ولم أكن لأحزن معهم، فالشهيد لن يدفع أجله، ولو مات على فراشه لمات ميتة مجانية، أما وقد كان لحياته ثمن، ولموته ثمن، فإن ذلك غاية ما يمكن ان يتطلع إليه مثله. لقد خدم أمته حيا وميتاً، وسيظل حدث وفاته وقودا لنفوس ظمأى للكفاح المسلح.
ومن غباء (شارون) أنه تعجل في استثمار الانكسار العربي، شأنه شأن كل متسرع في استثمار النتائج قبل نضوجها، ولأنه الغريق في وحل الجرائم فإنه لم يعبأ بما يضيفه إلى سجله الدموي من جرائم، لا يحتملها الضمير المتوحش، وكيف لا يخجل من مواجهة شيخ مشلول محمول بثلاثة صواريخ، تكفي لمواجهة كتيبة مدججة بالسلاح؟! وهو بسلسلة جرائمه المستقذرة من كل شرفاء العالم يصعد الأزمات، ويدفع بالمنطقة إلى دوامة العنف والإرهاب الذي سيكون له ولقومه النصيب الأوفر منها. وإذا كان العرب قد جنحوا للسلم، وتلاحقت مبادراتهم التنازلية، فإن لكل شيء نهاية، ولا أحسب الشعوب العربية ستلحق بقادتها في طريق التنازلات. وحين لا يكون من الموت بد، فمن العار أن يموت الانسان العربي ميتة مجانية، لا قيمة لها. وما عمليات الانتحار إلا إنهاء لحياة فقدت مشروعيتها. ولما يزل بإمكان (أمريكا) ومن معها توفير أدنى حد من الحياة السوية للإنسانية المعذبة في كثير من بقاع العالم، وبهذا تتفادى ما تحسبه ارهاباً. لقد أنفقت (المليارات) وأزهقت أرواح الآلاف من شبابها في سبيل مطاردة الإرهابيين، وما زادتهم إلا عتواً ونفوراً. وليس من شك أن الإنسان -أي إنسان- حين يقف أمام خيار الموت بلا ثمن أو بثمن فإنه سيفضل الموت بثمن. وما الإقدام على العمليات الانتحارية إلا من أجل الخلوص من مأزق الإذلال والامتهان والقتل العشوائي، وعلى (أمريكا) أن تتخذ طريق العدل والمساواة، وأن تعدل عن التدخل في خصوصيات الشعوب، فذلك الطريق القاصد لتجفيف منابع الإرهاب.
وعلى الذين اختاروا مواجهة الإرهاب بالسلاح الفتاك ان يأخذوا على يد سفهائهم، إذ ليست هناك سفاهة تضاهي سفاهة (شارون) وعصابته، فالحروب المعلنة لها أعرافها، بحيث لا تطول الزعماء، وحين لا يسلم (شارون) لهذه الأعراف تتفجر الأوضاع بشكل همجي من كل الأطراف. ولربما أنه فعل فعلته تلك لكسر شوكة الحركة أو لتفويت نشوة الانسحاب من (غزة) أو لبدء عمليات تصفوية شاملة، واسرائيل الأخسر بكل المقاييس. لقد اختار (شارون) المواجهة على المحاورة، والسلاح على السلام، وغره في ذلك ما أمده به الناس من حبال قد تورده موارد الهلكة، وعلى الدول الكبرى التي تلوح للأبرياء بطعم الإصلاح و(الديمقراطية) أن تخلي بين القادة وشعوبها، وألا تستخدم أرضهم للعب الكونية والتجارب العسكرية، وأن تحجز سفيهها الذي أحرجها مع أصدقائها وحلفائها وشركائها في الغنائم.
لقد وجه (شارون) لطمة لكل الأطراف، وجاءت جريمته لتجعل القادة العرب ومؤتمرهم القادم أمام تحديات لا أحسبهم بأوضاعهم الداخلية والعربية قادرين على مواجهتها بما يشفي ويكفي، غير أن الخطوة العملية هي أن يعي المؤتمرون قوة اللطمة، وأن يعرفوا أنهم إن لم يردوها بأقسى منها أو بمثلها فإن لطمة أخرى ترقبهم. ومن أمن العقاب أساء الأدب و:
(من يهن يسهل الهوان عليه
ما لجرح بميت إيلام)
وليس هناك أسوأ من ممارسات (شارون) المعلنة كما الفواحش، والمكتومة كما النفاق، ولن يثنيه عن تماديه إلا التضحيات من قادة الأمة، متى نجحوا في تلافي الخلاف، ومتى أصلحوا بينهم ووحدوا موقفهم ورجعوا إلى ربهم، وبذلك يواجهون عدو الله وعدوهم. والشعوب العربية المحتقنة لن تسمح للقادة باتخاذ موقف متخاذل. وأمام هذه الانتهاكات المتلاحقة فإن واجب الأمة العربية وقادتها وإعلامها ان يستثمروا الحدث بأسلوب حضاري، يحاصر اللوبي الصهيوني الذي لما يزل يمارس لعبته القذرة على المؤسسات الأمريكية المهيمنة على العالم. وبوادر النصر في تسلل (الدول الأوروبية) من الهيمنة الأمريكية، ومجال اختراقنا لن يكون عبر المؤسسات الدستورية والتنفيذية الأمريكية الواقعة في شرك الصهيونية واليمين المتطرف، وإنما هو في دول أوروبا التي أحست بأنها تتجرع مرارات التصرف الأمريكي، ورهاننا في الشعب الأمريكي الذي أضلته الامبراطوريات الاعلامية، ومتى أحست أوروبا بأن العرب يثمنون مواقفها، خلعت ربقة التبعية للغطرسة الأمريكية، وليس شرطاً ان نضع كل البيض في سلة القادة الأوروبيين، ولا أن نصعد خلافنا مع أمريكا، كما أنه ليس من المعقول ان يرجع الأوروبيون خفاف العياب، فيما تعود أمريكا بجر الحقائب، إننا بالحكمة والتصرف الحسن نضع الصهيونية العالمية وحلفاءها أمام مسؤولياتهم.
وواجب دول المنطقة، وهي مقبلة على قمة استثنائية بكل ظروفها، أن تترك ملفاتها الإقليمية في بلادها، وأن تدع المزايدات والعنتريات وتجييش العواطف، وأن تفاتح نفسها من (درجة الصفر)، فالوضع العربي لم يعد قادراً على احتمال مزيد من الخطابات الثورية الهوجاء. لقد ضاع العراق، وكان بإمكان المؤسسات السياسية العربية ألا يضيع، ولقد شرعنت التصرفات الرعناء لبعض القادة العرب لأوضاع استسلامية شاذة في المحيط العربي، وكان بإمكان القادة العرب ألا تكون، ولقد قامت حروب أهلية وحدودية في كل أنحاء الوطن العربي، وكان بإمكان القادة العرب ألا تقوم، ولما تزل الأوضاع الأمنية والاقتصادية والعلاقات العربية العربية تزداد سوءا، وكان بإمكان القادرين من القادة العرب إيقاف هذا التدهور. ومن العيب الكبير أن يكون القادة قادرين على تصحيح الأوضاع ثم لا يفعلون.
إن على قادة العالم العربي، وهم يتنادون إلى مؤتمرهم، أن يفقهوا واقعهم، وأن يفقهوا أولوياتهم، إذ لا سلامة بدون فقه عميق للواقع، ولا عملاً سليماً بدون توفر على فقه الأولويات. ففقه الواقع يقي من المثاليات والمغامرات، وفقه الأولويات يحمي من الاشتغال في الثانويات. وحين لا يكون بمقدور الأمة العربية مواجهة اسرائيل عسكرياً، فإن في مقدورها التخطيط الدقيق لمواجهة اقتصادية وسياسية واعلامية وقانونية، فالمقاطعة والمحاصرة والتصدي والصمود والمرافعة القانونية مع وحدة الصف والهدف، وتصفية الخلافات، والانطلاق إلى المحافل الدولية بخطاب واحد معقول ومقبول، ستضع الكيان الصهيوني على نار هادئة. وعلى الاعلام العربي ان يتخلى عن النحيب والتفجع، وأن يدع الخطابات الرعناء والمثاليات الجوفاء والعنتريات الهوجاء والهجاء الفاحش، فما عاد من الخير أن يكون نصرنا بكاء، ومساعداتنا شتائم. والوضع المتردي يتطلب تضميد الجراح، ورأب الصدع، ورفع المعنويات. ومن خلف مجاهداً في أهله كان له مثل أجره، والشعب الفلسطيني المحاصر اقتصادياً والمخوف أمنياً بحاجة إلى ايصال المساعدات (اللوجستية) إلى مدنه وقراه ومخيماته، لكي يقدر على الصمود والصبر والمصابرة. وليس هناك ما يمنع من إشباع الجوعى، وستر العراة، وعلاج الجرحى، وفك الاختناقات عن طريق المنظمات الإنسانية.
ومتى استطاع الشعب الفلسطيني الفراغ من مشاكله الداخلية تفرغ للمواجهة وحسم المواقف لصالحه، ولن يتحقق ذلك إلا باستغنائه، وبتلاحم جبهته الداخلية، وبالتنسيق بين منظماته وجبهاته، وذلك وحده الذي يمكنه من إرهاق العدو: تصدياً وتحصناً. وتلك كانت رؤية الملك (عبدالعزيز) رحمه الله، منذ أن أعلن الاستعمار البغيض عن قيام دولة صهيونية. وإذا عرف الجميع أن القوى الفاعلة في المحيط العربي لا تريد للمنطقة الاستقرار والفراغ لمشاكلها الداخلية، فلا أقل من أن يلتف القادة حول أنفسهم، ليخرجوا بحل معقول، يبقي على أدنى حد من العيش الكريم.
إن إقدام الصهاينة على اغتيال قيادي مسلم معتدل في خطابه، وتخاذل الدول الكبرى في مواجهة الانتهاكات، دليل على أن القوى الظالمة لا تريد لهذه المنطقة ان تأخذ وضعها الطبيعي. وحين أذعن الجميع لأمريكا في خططها التصفوية للإرهاب، فليس من المعقول ان يقبل شرفاء العالم مواطأتها للصهاينة، وإطلاق أيديهم لتصفية الشعب الفلسطيني. وفي النهاية فإن الإرهاب لا يصنعه إلا الظلمة المعتدون:
(واحتمال الأذى ورؤية جانيه
غذاء تضوى به الأجسام)
ولن يقبل العقلاء دعاوى الأعداء المغتصبين للحقوق، المنتهكين للحريات إلا مكرهين:
(ومن نكد الدنيا على الحرّ أن يرى
عدوا له ما من صداقته بدُّ )
ومع كل الترديات فإن المتفائلين لن يفقدوا الأمل، ولن يظنوا بالله الظنون، ونصر الله آتٍ { أَلا إِنَّ نَصْرَ اللّهِ قَرِيب }.


[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][الأرشيف][الجزيرة]
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الىchief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الىadmin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت
Copyright, 1997 - 2002 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved