Monday 5th April,200411512العددالأثنين 15 ,صفر 1425

     أول صحيفة سعودية تصدرعلى شبكة الانترنت

مابعد صدام؟.. هل ينجح العراق في النجاة من هذا الامتحان الرهيب؟ مابعد صدام؟.. هل ينجح العراق في النجاة من هذا الامتحان الرهيب؟
تركي الخالد السديري

أرجو ان لايُفهم من هذا العنوان أنني كنت أو لاأزال من المتعاطفين مع الرئيس السجين صدام حسين فمشاعري نحوه لاتقل كراهية عن مشاعر غالبية الأخوة العراقيين بسبب تاريخ هذا الرجل الدموي وما تسبب فيه من النكبات والدمار لبلاده وللمنطقة العربية على مدى سنوات حكمه.
إلا أن الكيفية التي تم بها أسره والمهانة القصوى التي ظهر فيها أمام الملايين من المشاهدين تركت غصة في الحلق يصعب ابتلاعها من قبل كل عربي ومسلم فرؤية رئيس دولة عربية كبرى وهو يسحب من جحر تحت الأرض بشعره الأشعث المغبر ووجهه المنهك وهو في هذا الوضع المزري ترك لدي واعتقد لدى الكثيرين غيري ، شعوراً بالأم وبالاشمئزاز يصعب إزالته من الذاكرة.
إن كل عربي غيور لاشك صدم بما رأى ولابد أن الكثيرين مثلي شعروا أنه كان من الأشرف لصدام لو أنه واجه الخطر المحدق به من قبل جنود الغزو وهو رابط الجأش شاهراً سلاحه في وجه أعدائه أسوة بما فعل ابناه، بالرغم من مساوئهم، وحفيده عندما استماتوا في القتال حتى الرمق الأخير وهم يقاتلون قوات العدو المحيطة بهم.
لقد نقل عن صدام من مصدر موثوق به قوله: إن من يستطع الوصول للسلطة في العراق بهدف إزاحتي لن يجد أمامه سوى أشلاء وعظام يمكن لأحد أن يقذف بها داخل أحد القبور إلا أن ما حدث كان خلاف ذلك للأسف الشديد.
أما أسلحة الدمار الشامل وما دار ولايزال يدور حولها من لغط، والتي كانت الهدف المعلن من غزو قوات التحالف بقيادة الولايات المتحدة وبريطانيا للعراق للقضاء على قدراته من أسلحة الدمار الشامل فلم يعثر لها على أثر.
ومما لاشك فيه ان حرب الخليج الثانية وما تبعها من تداعيات كمناطق الحظر الجوي التي أحكمت على النظام العراقي والغارات الجوية التي تشن من حين إلى آخر على المواقع العسكرية العراقية وكذلك الحظر الاقتصادي وسواها أدت إلى استمرار التوتر السياسي والعسكري على أشده بين الولايات المتحدة والعراق إلا أن ساعة التصفية النهائية للحساب من قبل الولايات المتحدة حانت عن طريق حدثين رئيسيين هما: وصول جورج بوش الابن إلى الرئاسة في الولايات المتحدة ومعه نائبه تشيني الذي كان وزيراً للدفاع في عهد الرئيس بوش الأب. والحدث الثاني تمثل في تفجيرات مركز التجارة العالمي في نيويورك ومبنى البنتاجون بواشنطن في الحادي عشر من سبتمبر 2001.
وبالرغم من أن هناك الكثير من الملابسات الغامضة التي تحيط بهذه التفجيرات والتي صدر عنها عدد من الكتب وفي مقدمتها كتاب الحرب على الحرية لموفيز مصدق أحمد والخدعة الكبرى لتيري ميسان ومعضلة الرعب(1).
فلقد ورد في هذه الكتب ما لايدع مجالاً للشك ان هناك الكثير والكثير من الملابسات والتفاصيل الغامضة التي لابد أنها أثارت ومازالت تثير تساؤلات لا حد لها ولم تتم الإجابة حتى الآن عن الظروف المحيطة بتفجيرات 11 سبتمبر.
والاستنتاج البديهي الذي يخرج به من يقرأ هذه الكتب وسواها مما كتب عن هذه الأحداث هو أن هناك من رجال الإدارة والمباحث والاستخبارات من كان على علم مسبق بما تخبئه الأيام من مفاجآت مأساوية بالنسبة للولايات المتحدة وما تعنيه انعكاساتها على مجرى العلاقات الطبيعية وأواصر التعاون بينها والعالمين العربي والإسلامي وخاصة علاقتها المتميزة مع حكومة وشعب المملكة العربية السعودية منذ عهد الرئيس الأسبق فرانكلين روزفلت والسؤال البديهي الذي يتوارد إلى الذهن هو: لاشك في أن من قاموا بتنفيذ عمليات التفجير هم محمد عطا بالإضافة إلى مجموعة من الشباب وأكثرهم سعوديون من المغرر بهم ولكن من الكاسب الحقيقي مما حدث من تدهور كلي في نظرة معظم أبناء الشعب الأمريكي تجاه العالمين العربي والإسلامي؟ إن محاولة الإجابة ستأتي في سياق ما سنتعرض له هنا.
أمريكا والحوار الذي يصعب تحقيقه
نقلت جريدة الرياض الغراء عن جون انتوني ديوك في عددها الصادر يوم الثلاثاء 12 ذي الحجة ما مفاده: إن العرب يريدون صداقة أمريكا ولكن الأمريكيين لايفهمون العرب.. إن هناك 22 دولة عربية لها سياساتها المتضاربة.. كما أن الإعلام الأمريكي الواقع تحت تأثير المسيحية المتصهينة والقوى الصهيونية فيها منذ عقود طويلة لايخدم العرب فهذه حقيقة يعلمها كل من عرف من بعيد أو قريب ما يدور على الساحة الأمريكية بالنسبة لقضايا المنطقة وخاصة ما يتصل منها بالصراع العربي الاسرائيلي فالتعتيم الإعلامي حقيقة لامراء فيها تجاه كل ما يبرز وجهة النظر الفلسطينية العربية في الصراع الدائر في المنطقة وان القليل أو النادر الذي يصدر في المضمار مما لايخدم السياسات والمواقف الصهيونية يتم استبعاده من الأسواق أولاً بأول.
ومن تجربة شخصية لي، في الستينات والسبعينات الماضية فقد قمت بالبحث عن بعض هذه الكتب فلم أتمكن من العثور عليها باستثناء واحد منها وهو كتاب الجنرال فان هورن قائد قوات الأمم المتحدة في الشرق الأوسط في الستينات وعنوانه جندياً للسلام، إلا أني لم أجده سوى في قبو إحدى المكتبات الكبرى في مدينة نيويورك.
فنحن أبناء هذه المنطقة والشعب الفلسطيني بالذات نعيش مأساة حقيقية في الصراع مع المستعمر الصهيوني والمؤيد باستمرار من قبل الحكومات الأمريكية المتعاقبة والمتحيزة تماماً مع السياسات الاسرائيلية وهو ما لايخدم مصالح الولايات المتحدة البعيدة في العالمين العربي والاسلامي، وفي الوقت ذاته فإن من عرف حقيقة الشعب الأمريكي وطبيعة حياته وقضى فترة من عمره بين أبنائه يعلم حق العلم أنه شعب طيب وكريم ومتسامح تجاه الاختلافات الدينية أو العرقية.
وهو في الوقت ذاته لا يأبه بل لايستطيع ان يتابع بعمق الأحداث السياسية المختلفة وما يحيط بها من قضايا وتعقيدات بعيدة عن محيطه الاقليمي. وبالتالي فإن وجهة النظر الأحادية الجانب التي تقدم وجباتها كل ساعة وكل يوم لفئات المجتمع الأمريكي بأشكال وألوان في غاية التميز والاتقان سواء في الصحف أو التلفاز أو السينما أو في أوساط المجتمع الأمريكي المختلفة كل ذلك أدى مع مضي الزمن إلى ترسب هذه القناعة المطلقة لدى نسبة عالية من المواطنين الأمريكيين في أن الحق هو اسرائيل وان اسرائيل هي الحق في كل ما يدور من تطاحن وصراع على أرض فلسطين العربية وفي المنطقة العربية بوجه عام. ويحضرني في هذا المضمار التساؤل الذي لفت انتباهي في حينه وكان متصوراً من إحدى أبرز الشخصيات (لايحضرني اسمها الآن) التي كان لها أهميتها وحضورها في محطة السي.إن.إن وذلك بعد ما يقارب الساعة من أحداث سبتمبر إذ قالت بصورة تدل على انفعال حقيقي يعبر عما هو مكبوت في نفسها من ألم أتى الوقت الذي آن لنا أن نعرف فيه ماهي الدوافع لهذا الحادث وسواه لذا فإنني لم أستغرب وأنا أتابع أخبار هذه المحطة والشخصيات التي تظهر عادة في برامجها الاخبارية وسواها ان هذه السيدة النبيلة ذات الشعور الوطني الحقيقي نحو بلادها لم تظهر على محطة السي.إن.إن منذ ذلك اليوم إلى يومنا هذا.
الأسئلة الحائرة
إن التداعيات المتتالية والجدل الدائر في مراكز القرار في كل من واشنطن ولندن، والذي ازدادت حرارته وعنفوانه في الأسابيع الأخيرة، حول قضية أسلحة الدمار الشامل العراقية وكيف ان البحث المستمر عنها في أرجاء العراق لم يسفر عن شيء وكذلك تصريحات كل من هانز بليكس وديفيد كيلي المسؤولين السابقين عن عمليات التفتيش عنها في العراق ومشاكل محطة البي.بي.سي مع الحكومة البريطانية، ذلك وسواه أدى في النهاية إلى تفاعلات زادت في تهييج المشاعر في الأوساط السياسية والاعلامية تجاه قرار غزو العراق وأنه كان بعيداً عن الرؤية الحكيمة خاصة بعد كشف الحقائق الدامية بأن احتلال بلاد مثل العراق بقوة السلاح من قبل الولايات المتحدة وبريطانيا شيء وتثبيت الأمن والسلام وتحقيق حياة أفضل للمواطنين شيء آخر. والسبب واضح وهو ان ما قدم من أفكار ودراسات للقيادة في البيت الأبيض من قبل أساطين التآمر في وزارة الدفاع لدفع سير الحملة العسكرية على العراق، قدموا فقط الجانب المشرق وأخفوا ما عداه لمعرفتهم العميقة بطبيعة الشعب العراقي وتركيبته الاجتماعية البالغة التعقيد وأنه لن يقبل الاحتلال لاعتزازه بتقاليده وأنها ستؤدي جميعها إلى تولد أشد ردود الفعل عنفاً في وجه القوات المحتلة من جانب وفيما بين فئاته المختلفة من جانب آخر في سلسلة متصلة من الصراعات التي قد تؤدي في النهاية إلى تفكيك العراق وانقسامه إلى أقاليم متعددة تنهي وجوده كدولة موحدة، وقد كان هذا موقف بعض القادة البريطانيين عند احتلال العراق بعد الحرب العالمية الأولى لولا كفاح الشعب العراقي في وجه القوة الغازية ومواقف السيدة جيرترود بيل البريطانية والمستشارة لدى القيادة البريطانية في العراق والتي خدمت بها العراق خدمات جليلة من حيث المحافظة على وحدته في وجه الآراء الداعية إلى تحويله إلى دويلات ثلاث ولو علم العراقيون مدى ما قدمته هذه السيدة من خدمات للعراق الحديث ومنها أيضاً المحافظة على تراثه بانشاء المتحف الوطني لأقاموا لها تمثالاً يفوق أكبر التماثيل البرونزية التي أنشأها صدام لشخصه.
فإذا عدنا للجدل العنيف الدائر في مختلف الأوساط السياسية في كل من بريطانيا وأمريكا ومنها ما أدى إلى مقتل خبير الأسلحة البريطاني في ضوء النزاع بين حكومة السيد بلير ومحطة البي.بي.سي وكذلك الموجه المناوئة لسياسات بوش التي أدت إلى الغزو ومنها استقالة ديفيد كيلي مفتش الأسلحة السابق وانتقاداته الحادة للرئيس الأمريكي حول قضية الأسلحة وحملة المرشح الديموقراطي جون كيري على الرئيس بوش للسبب نفسه. مضافاً إلى ذلك تصريحات بعض منسوبي الاستخبارات الأمريكية حول ما قاموا به لتنبيه رجال الإدارة عن شكهم في وجود هذه الأسلحة لدى العراق ويؤكد هذا ما أوردته جريدة الحياة اللندنية في عددها الصادر في 14 فبراير كما أوردت الحياة في عددها الصادر في 25 فبراير ما قالته السناتورة الأمريكية عن ولاية مين بعد استماعها لأجوبة جورج تينيت رئيس وكالة الاستخبارات ان الأخطاء الظاهرة في تقويم الخطر العراقي كان قرصاً مريراً ابتلعناه وقد تسببت الانتقادات التي وجهت لكل من بوش وبلير إلى قيام الأول بتأليف لجنة فدرالية للتحقيق في الأمور الاستخباراتية التي أدت إلى هذه المشكلة الخانقة إلا أن اللافت للنظر ان عملها سيستمر إلى ما بعد انتهاء الانتخابات الرئاسية في الولايات المتحدة مما يدل أن الهدف الحقيقي للجنة ليس إلا محاولة لاطفاء الحريق اللاهب والمضر بمصداقية الرئيس بوش وهو في معمعة حملته الانتخابية.
هذا وقد سلك رئيس الوزراء البريطاني الطريق ذاته بتشكيل لجنة تحقيق في الأمر وهو ما دعا رئيس حزب المحافظين في البرلمان إلى تقديم شكره للرئيس بوش قائلاً بسخرية لاذعة للسيد بلير لأنه من الواضح لنا أنك تقتفي الطريق الذي يسلكه الرئيس بوش في كل عمل يقوم به.
حائط الصمت
إن قرار كل من الرئيس الأمريكي جورج بوش ورئيس الوزراء البريطاني توني بلير بشن ذلك الهجوم الصاعق على العراق ليس بالحدث اليسير خاصة ان الحروب على هذا المستوى من العنف وحجم القوة المتاحة نادرة الحدوث في عالم اليوم، كما أن هذه الحرب تعتبر باكورة حروب القرن الواحد والعشرين والله وحده يعلم كم سيشن غيرها وكم من الضحايا ستسفك دماؤهم خلاله.
لذا فإن تداعيات قضية أسلحة الدمار الشامل العراقية والتي كانت السبب الرئيسي المعلن لشن هذه الحرب والتي لم يظهر لها أي أثر بالرغم من مرور أكثر من 12 شهراً على شن هذا الهجوم الصاعق وهو ما يمكن اعتباره ثأر صدام حسين من أعدائه وهو في محنته.
وما اللجنتان المشكلتان للتحقيق في أمر المعلومات الاستخباراتية الملقى عليها اللوم فيما حدث وكذلك الادعاء المتأخر ان الهدف من الحرب هو توطيد أسس النظام الديموقراطي في العراق ليكون نموذجاً حياً لدول المنطقة الأخرى وسداً أمام الحركات الأصولية المتشددة فيها إلا تحركات لامتصاص الانتقادات الموجهة تجاه كلا الإدارتين وحماية أجهزة الاستخبارات فيهما من مشاعر النقمة المتزايدة لدى نسبة عالية من مواطني هاتين الدولتين تجاههما.
أما الاحتمال الوارد بالنسبة لمحور القضية بأكملها فإنه ينطبق عليه القول الشعبي في بلادنا: (فرد حمزة ثائر ثائر) فقرار التواجد الأمريكي القوي في هذه المنطقة الاستراتيجية والغنية بالنفط لابد أنه دار في أذهان كل أو معظم الرؤساء في الولايات المتحدة منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية وخاصة منذ حرب رمضان في عام 1973 التي قطعت بسببها امدادات النفط عن الغرب بمبادرة الراحل العظيم الملك فيصل بن عبد العزيز تغمده الله بوافر رحمته.
ومما تجدر الاشارة إليه في هذا المضمار انني شاهدت برنامجاً تلفزيونياً في الولايات المتحدة في عام 1979 لايستبعد ان اعداده تم من قبل وكالة الاستخبارات الفدرالية وعنوانه: (لافيتنام أخرى ولكن) ويبدأ الفلم بالتحدث عن منطقة الخليج وثرواتها النفطية وأهميتها بالنسبة للولايات المتحدة وكيف ان هذه المصادر البالغة الأهمية الاستراتيجية مهددة من قبل الاتحاد السوفيتي في حقبة الحرب الباردة بين المعسكرين، والدول الدائرة في فلكه وهم بذلك يقصدون بعض دول المنطقة. كما أشار هذا البرنامج إلى عوامل أخرى لابد أنها ستوجب تدخل الولايات المتحدة كالقلاقل المحلية وغيرها من مؤشرات عدم الاستقرار وهو ما يعتبر في رأيي سيناريو لما حدث في عام 1990 بعد احتلال صدام للكويت سواء كان ذلك بحث خفي من الولايات المتحدة أم لا إذاً فالميدان كان محضراً من قبل.
وتعمد ممن سيدفع دماء الحياة في عروق الاستراتيجية المطروحة من قبل وهي الكتلة الصهيونية الغارسة جذورها في وزارة الدفاع وسواها في أجهزة الحكومة الفدرالية، ممن لايهمهم من الأمر سوى تحقيق الطموحات الاسرائيلية في المنطقة واعطاء اسرائيل الوقت الكافي لتصفية الضفة الغربية ودفع سكانها للهجرة أو الاستسلام لمصيرهم، وفي الوقت ذاته اشغال العالم العربي بمواجهة مع الولايات المتحدة.
والآن وقد اتضحت بوادر فشل هذا التوجه في أول بلد يقع تحت تأثير هذه الاستراتيجية المطبقة بقوة السلاح فماذا حدث؟ فقدت الولايات المتحدة ولاتزال نخبة لايستهان بها من خبرة شبابها في سعيها لضبط الأمن المستحيل في بلد مثل العراق معروف بشدة بأس أبنائه مؤلف من عشائر وطوائف وأعراق مختلفة، كما فقد العراق الآلاف من أبنائه نتيجة للحرب وأعمال التدمير والتفجير والاغتيالات كما أنه على شفير تفكك كامل ولربما حروب أهلية قد تبدأ لاسمح الله، ولا يعلم كيف ستنتهي سوى الخالق الباري.
فكيف لنا في مثل هذه البيئة المشتعلة ان نحلم ببزوغ فجر الحرية والديموقراطية واستتباب الأمن في هذا البلد وهذا الشعب الأبي الذي قاسى الكثير منذ أكثر من نصف قرن حتى هذا التاريخ؟ وفي المقابل ماذا حدث هناك في واشنطن نتيجة للمآسي التي تمخض عنها هذا الغزو المسلح؟ فأسلحة الدمار الشامل كما سبق الإشارة ليس لها وجود. والاحتلال لم يستقبل بالزهور والورود كما كان يفترض والمقاومة من قبل العديد من فئات الشعب العراقي تزداد ضراوة في وجه المحتل وربما تكون وستكون ضراوتها أشد لاقدر الله تجاه بعضها البعض بعد رحيل المحتل ان آجلا أم عاجلا.
حدث ذلك كله إلا أننا لم نسمع عن استقالة واحدة في واشنطن من قبل رابطة البنتاجون القوية سوى استقالة ريشتارد بيرل مؤخراً كما لم نسمع عن اتهام وجه لأي منهم نتيجة للكارثة العراقية. والسبب في ذلك، حسب تصوري، يعود إلى:
(أ) انه لايوجد هناك في واشنطن وسواها من المدن الكبرى في الولايات المتحدة من يجرؤ على رفع سبابة الاتهام في وجه أي من أفراد هذا الفريق الجهنمي.
(ب) لكونهم في الحقيقة قد حققوا جميع مآربهم من وراء الحملة العسكرية وما رافقها من أحداث سياسية وعسكرية باشغال العالم والعالم العربي بالذات بقضية أخرى في المنطقة غير القضية الفلسطينية، وأن ما تعرضت له الولايات المتحدة في 11 سبتمبر هو عين ما تتعرض له اسرائيل في الضفة ومن قبل الفئات ذاتها.
(ج) تولد القناعة لديهم أنهم قد تمكنوا من جر العراق كشعب ودولة قائمة نحو الهاوية بعد ان يكون قد قاسى الأمرين من سعير المعاناة التي لا حد لها والدمار والتفكك والتحول إلى جزيئات صغيرة لا حول لها ولا قوة وبالتالي تكون الدولة الصهيونية قد حققت أهم أهدافها الاستراتيجية بالمنطقة بالنسبة للمستقبل بالقضاء على أهم وأقوى وأغنى دولة عربية من حيث الامكانات العلمية والبشرية والاستراتيجية والموارد الطبيعية. هذا وقد أوردت صحيفة عكاظ في عددها الصادر في 5 صفر (26مارس) ان الدكتورة هدى النعيمي رئيسة مركز الدراسات الفلسطينية في جامعة بغداد كشفت النقاب عن أن الموساد قام بتصفية مائة عالم عراقي منذ احتلال العراق حتى اليوم.
افتراق الطريق بين المخططين والمنفذين
تعتبر عملية شن الحرب على العراق في شهر مارس من العام الماضي القمة ضمن سلسلة من القرارات الهامة التي اتخذها الرئيس بوش الذي تفاعل، خلال الأشهر التي تلت التفجيرات إلى حد الاهتياج مدفوعاً بقناعة شخصية وسياسية ودينية ان العناية الالهية اختارته ليكون ربان السفينة التي يقودها في خضم هذا المحيط الهائج، لابد ان هذا كان شعوره وهو في دفة حكم هذه الدولة الكبرى وهو يناطح شياطين الإرهاب وتنظيماته المسلحة في أفغانستان ثم العراق ودول أخرى في المنطقة حسب قناعاته.
هذا وقد خرج علينا الرئيس بوش في تلك الفترة باصطلاح محور الشر وهو من أفكار الصهيوني المتحجر (ديفيد فروم) كاتب خطابات الرئيس بوش السابق وان ما يدور الآن حيال قضية الأسلحة العراقية وقصة الـ45 دقيقة من تصريحات وتصريحات مضادة وما خرج به (هانز بليكس) كبير مفتشي الأسلحة السابق عن تسرع كلا الإدارتين في الولايات المتحدة وبريطانيا في اتخاذ قرار شن الحرب دون مبرر وما تقرر أخيراً من تشكيل لجنتين في كلا البلدين كما أشرنا سابقاً ما هو إلا دليل على تخبط الإدارتين فيما اتخذ من قبلهما من قرارات. وهو ما حدا بالرئيس بوش ليقول متسائلاً: وأنا من جانبي أريد أن أعرف حقيقة الأمر مما يعني ان قراراً خطيراً كقرار الحرب شن على عجلة من الأمر وكأنه زفة عرس بحكم الضغوط التي مورست عليه من قبل المراجع إياها في وزارة الدفاع الأمريكية. وان ما سينجم عن هاتين اللجنتين وسواهما من تحقيقات ومناقشات سواء من قبل الصحافة أو من رجالات الحزب الديموقراطي وسواهم لن تتمكن من الوصول إلى نتيجة تثبت واقع ما حدث والسبب بديهي وفي غاية الأهمية للعارفين والمتابعين لخفايا الأمور سواء في لندن أو واشنطن ألا وهو ان معظم مصادر المعلومات الاستخباراتية ذات العلاقة بما يجري على أرض المنطقة وخاصة الدول العربية منها منبعه الاستخبارات الاسرائيلية. فهي التي تعد موادها وتكيفها بالصورة التي تخدم مصالحها واستراتيجياتها القريبة والبعيدة المدى. وفي هذا المضمار علينا ان لا نتعجب من ذلك لأن اسرائيل تعي حقيقة واحدة لاسواها، بينما هي غائبة عنا كأمة وكدول، ألا وهي كونها في حالة حرب واستنفار دائمين معنا وان قادتها وخبراتها ورجالاتها في مواقع اختصاصاتها المختلفة يضعون أمام أعينهم دائماً وأبدا هذه الحقيقة، وبالتالي فإنهم لن يدخروا أي وسيلة وأي أسلوب مهما كان في حربهم مع دول المنطقة.
ومن يطلع على كتاب: (معضلة الرعب) الذي أشرنا له فيما سبق سيجد ان كل تحركات واتصالات محمد عطا ورفاقه من المغرر بهم كانت تتابع بدقة من قبل رجالات الموساد سواء في مساكنهم واتصالاتهم وتحركاتهم في الولايات الأمريكية المختلفة وخاصة ولاية فلوريدا، وهو ما يقودنا إلى السؤال البديهي ما الذي يمنع ان تكون الفكرة أساس منبعها من رجال الاستخبارات الاسرائيلية عن طريق وسطاء ومراجع يوليها أولئك الإرهابيون ومن يتولون مهمة توجيههم كامل ثقتهم؟
وفي الغالب فإنه بخلاف ما كان يدور في ذهن الرئيس بوش أو وزير خارجيته فإن الهدف الحقيقي من وراء الحملة الانجلو-أمريكية على العراق كما خطط له تنظيم البنتاجون الرهيب هو السعي بواسطة قوة الجيش الأمريكي الهائلة إلى تدمير العراق جيشا ومجتمعا ووطنا قائما بذاته وعداوة رجال البنتاجون المدنيون لها جذور قديمة، فنجد مثلا ان دوجلاس فيت الذي يعمل تحت أمرته في البنتاجون أكثر من 40 محللا سبق ان شن هجوما عنيفا على الرؤساء الاسرائيليين ممن وافقوا على الدخول في مفاوضات للسلام مع الفلسطينيين (مجلة اكتوبر، عدد8فبراير الماضي) أما بالنسبة لدور ريتشارد بيرل الذي كان يتزعم المجموعة فيمكن معرفة المزيد عن مدى ترسب الفكر الصهيوني في أعماقه بقراءة كتاب شبكة الأرمجدون لمايكل سابا(1) أما دور بول ولفويتز نائب وزير الدفاع الأمريكي الذي جابه الرئيس الأمريكي بعد أربعة أيام فقط من تفجيرات 11 سبتمبر قائلا له: لماذا تهاجم أفغانستان؟ عليك بالعراق فهو مصدر الشر كله! (مجلة التايم عدد 27 يناير 2003) هذا وقد سمته المجلة الدماغ الأقوى بين مجموعة الصقور في البنتاجون.
لابد أن آراء هؤلاء الصقور من الصهاينة وسواهم بالإضافة إلى عشرات التقارير والدراسات التي أعدت وقدمت للبيت الأبيض لم يكن غائباً عنها أن مسألة سحق العراق من الناحية العسكرية الصرفة ثم احتلاله سيكونان المؤشران بأن نيران جهنم ستشرع أبوابها داخلة آكلة في طرقها الأخضر واليابس بما في ذلك الكثير من أفراد القوات الغازية ذاتها ممن لايهم المخططون مصيرها اطلاقاً طالما انها ستحقق بتواجدها على أرض العراق أهدافهم. ففي تصورهم حسب ظني ان التداعيات التي ستخلفها هذه الحرب على تركيبة المجتمع العراقي البالغة التعقيد ستجعل من الحرب الأهلية اللبنانية بعد حادثة عين الرمانة في عام 1975 عبارة عن لعبة أطفال وفي المقابل فإن سلسلة ما عرض على الرئيس بوش من دراسات وآراء وتحليلات لا أعتقد انها أبرزت له سوى التصورات الايجابية والوردية من النتائج التي ستحققها عملية الغزو ذاتها، ومنها:
أ - ان احتلال العراق سيحقق للولايات المتحدة التخلص من رئيسه ونظامه الجهنمي الذي عجز كل من والده أثناء رئاسته ومن بعده الرئيس كلينتون، من التخلص منه ومما كان يظن أنه لديه من أسلحة الدمار الشامل في آن واحد.
ب - التحكم، عن طريق التواجد في العراق بموارد نفطية هائلة ومركز استراتيجي لايضاهى في المنطقة بأكملها.
ج - انشاء نظام ديموقراطي حر يكون نموذجاً يحتذى به من قبل كافة دول المنطقة الأخرى، ليكون درعاً واقياً أمام المد الأصولي والعمليات الارهابية النابعة منه.
هذا وقد أوردت جريدة الحياة في عددها الصادر في 14 فبراير ان مصدراً من هيئة الاستخبارات الأمريكية ذكر ان أحد تقاريرها التي تشكك في مسألة ما لدى العراق من أسلحة الدمار الشامل لم يعرض على الرئيس البتة كما أوردت جريدة الرياض في عددها الصادر يوم 24 ذي الحجة 15 فبراير ان هيئة الاستخبارات قد نبهت الادارة الأمريكية خلال أشهر عدة عن الأمر ذاته.
والاحتمال كبير هو أن تكتشف اللجنة المشكلة أخيراً للتحقيق مع جميع الأفراد والأجهزة ذات العلاقة بالظروف التي سبقت وتلت أحداث سبتمبر بمن فيهم الرئيس بوش ونائبه وكذلك الرئيس كلنتون ونائبه الكثير من الحقائق المرعبة بالنسبة للكونجرس أو للبيت الأبيض.
ان هناك طريقين لاثالث لهما وهو ان مصالح الولايات المتحدة الحقيقية في المنطقة في جانب وآثار ما تعرضت له في 11 سبتمبر وما تلاها من أحداث وتداعيات في جانب آخر وقد أوضح كتاب الحرب على الحرية (أشرنا له سابقاً) معظم أو جميع الملابسات التي أوجبت تشكيل لجنة التحقيق هذه وذلك بعد أكثر من عام من صدوره.
وكما حدث لهذا الكتاب الذي يستحيل الحصول عليه من المكتبات أو حتى من شبكات الانترنت الا بصعوبة ستجد هذه اللجنة نفسها محاصرة بين قوى رهيبة تسعى بكل امكانياتها لسد كافة الثغرات التي قد تتسرب منها كافة المعلومات ذات الحساسية أسوة بما حدث للجنة وارن التي حققت بظروف مقتل الرئيس الأمريكي الأسبق جون كندي: وستنهي اللجنة عملها بتجاوز الإجابة على الأسئلة القائمة والمشروعة ووضع التبريرات التي قد تبدو لغير المتفحص ان المطلوب قد تحقق وبالتالي فإنه لالزوم للتشكيك فيما تم اتخاذه من قرارات أو اجراءات على مبدأ ليس في الامكان أحسن مما كان.
فافتراق الطريقين أمر لامناص منه بين ما يخدم مصالح الولايات المتحدة الأمريكية أو الدولة الأعظم في عالمنا الحقيقية وبين ما يخدم المصالح الصهيونية الاسرائيلية وهناك العديد من الأمريكيين ممن بدأت هذه الحقيقة تتضح لهم وستتزايد أعدادهم مع أعداد الضحايا من الجنود في لهيب المعمعة العراقية التي خاضوها دون اي سبب مقنع. كما ان الأعداد الكبيرة للجنود العائدين لبلادهم ومنهم الجرحى او من انتهت دورات عملهم وخلافه لاشك سينقلون مشاعرهم وانطباعاتهم عن هذه الحرب والمقاومة الباسلة التي واجهوها في أحياء المدن العراقية التي وجدوا أنفسهم أهدافاً حية لها في حرب شوارع وتفجيرات لم يكونوا مهيئين لها اطلاقاً كما ان افتراق الطريقين حتم على الفريق المخطط لها ان يلقي بثقله خلف القرارات القاضية بحل الجيش العراقي والأمن والاستخبارات وقوات الحدود ليبقى العراق عرضة لكل من هب ودب من داخل البلاد وخارجها في علميات السلب والنهب والقتل والتدمير وخلافه ما نال من أبناء العراق أكثر مما نال من القوى المحتلة نفسها.
ان دفع الولايات المتحدة لتكون في الموضع الذي وجدت نفسها فيه بعد عملية الغزو هذه يصعب تبريره وبأنه يخدم مصالحها القومية بل إنه في الحقيقة اكسبها زخماً أكبر من مشارع العداء من قبل ابناء المنطقة ومن قبل معظم أبناء الشعوب الاسلامية.
وان ما يقال حالياً عن شرق أوسط جديد أو كبير ما هو الا محاولة لترتيب الأوضاع لدمج دولة اسرائيل باقتصاديات المنطقة وسياساتها دون ان تقدم أي ثمن مقابلاً لذلك كاقرارها بدولة فلسطين واعادة اللاجئين إلى وطنهم وإزالة المستعمرات اليهودية في الضفة وغزة.
إن ما ذكرناه اعلاه عن جميع ما حدث في المنطقة منذ 11 سبتمبر ماهو إلا تنفيذ للسياسات المدروسة والمخطط لها بما في ذلك أحداث سبتمبر ذاتها لاشعال المنطقة واشغال قادتها بما يستنفذ وقتهم وطاقتهم عن هموم المنطقة الحقيقية وأسباب ماحدث منها من كوارث ومآسٍ نجمت عن انشاء دولة اسرائيل في قلب الوطن العربي النابض.
وأخيراً المنطقة ودوامة التناقضات الأمريكية
بخلاف ما يخطط له وتهدف إلى تحقيقه المنظومة الرهيبة في وزارة الدفاع الأمريكية فإنه لا أحد يمكنه ان يتصور ان حكومة الولايات المتحدة وقيادتها خاصة تسعى لخلق مناخ مناوئ لها سواء في العراق أو في المنطقة بوجه عام فإن أي فشل لها في بناء عراق جديد رصدت لإعماره أكثر من 18 بليون دولار سيؤثر إلى حد كبير في مصداقيتها ليس في العراق فقط أو بين أبناء البلاد العربية عموماً بل عند معظم دول وشعوب العالم النامي.
لذا فإن أهداف القيادة الأمريكية في تحقيق أعلى مستويات النجاح كمنطلق لمد جسور الصداقة والتعاون بينها وبين أبناء المجتمعات العربية يعتبر هدفا في غاية الأهمية بالنسبة لها خدمة لمصالحها القريبة والبعيدة المدى، لما للمنطقة من أهمية استراتيجية بالغة إضافة إلى ما تختزنه أراضيها من موارد نفطية ليس لها مثيل في أي منطقة أخرى من العالم.
إلا ان حكومة الولايات المتحدة في سعيها الحثيث نحو تحقيق سياساتها الطموحة في الشرق الأوسط لابد ان يتكشف لها بصورة جلية (إذا لم يكن هذا قد حدث بالفعل من زوايا عدة) ان عجلة مسيرها نحو تحقيق مآربها تعترضها عوائق ومتناقضات لا حصر لها. فكيف بامكانها، مهما حاولت ومهما بذلت، الجمع بين مختلف العناصر المتناقضة بطبيعتها من الأساس؟ ويمكن ايجاز ما نعنيه هنا بالتالي:
أولاً: ان تأييد حكومة الولايات المتحدة المطلق لدولة اسرائيل سواء في الأمم المتحدة أو عن طريق دعمها بالسلاح الحديث والمال الذي فاقت مبالغه المرصودة فقط المائة وعشرين بليون دولار، في الوقت الذي تقوم به هذه الدولة الغاصبة باستعمار أراضي الضفة وقتل المدنيين من ابنائها واغتصاب اراضيهم بواسطة السور الجديد وغيره ومحاربتهم في معيشتهم من هدم لمنازلهم وتقليع لأشجارهم التي هي مورد رزقهم الخ.. مما لابد ان يترك أشد المشاعر قسوة وعداوة لدى ابناء فلسطين والعرب عموما بخلاف شعوب العالم الاسلامي تجاه اسرائيل والدولة الأكبر والأكثر تأييداً لها من بين دول العالم وبالتالي، فإنه بخلاف معجزة تهبط من السماء، فليس بإمكان الولايات المتحدة التوفيق بين هذين الموقفين في ضوء هذا الاختلاف الصارخ بين توجه الولايات المتحدة هذا نحو دولة اسرائيل ورغبتها في تحسين صورتها لدى أبناء عالمنا العربي والاسلامي ونظرة الغالبية الكبرى منهم نحوها.
ثانياً: كثر الحديث في الأوساط السياسية والاعلامية في الولايات المتحدة والغرب عموما بعد أحداث سبتمبر بأن الارهاب الناجم عن المد الأصولي لم يكن ليحدث لو كانت شعوب ودول المنطقة تتمتع بقدر أكبر من الحرية في ضوء أنظمة تعددية وليبرالية وهو أمر لامجال لبحثه هنا إلا أننا نفاجأ بأن هذه المصادر ذاتها تشير إلى أن عمليات المقاومة العراقية للاحتلال ماهي إلا مجرد عمليات ارهابية يوجهها ابن لادن والقاعدة والمجموعات الأصولية المختلفة بالتعاون مع بقايا النظام السابق لاجهاض ولادة عراق جديد يتمتع بالحرية والديموقراطية فكيف بالله يمكننا ان نوفق بين هذين الموقفين المتناقضين لدى الدوائر السياسية الأمريكية والغربية؟
ثالثاً: ان المشاعر الدينية الاسلامية قوية في مختلف المجتمعات العربية والاسلامية وقد شاهدت بنفسي مدى تأثير ذلك عندما صادفت زيارتي في عام 1980م لاسطنبول بتركيا العلمانية شهر رمضان المبارك فلقد شاهدت بعيني كيف ان عشرات الآلاف من المصلين الاتراك وهم يؤدون صلاة الجمعة في الشوارع المحيطة بالجامع مما يمكن تفسيره ان النظام العلماني الذي فرض على دولة تركيا منذ عهد رئيسها الأسبق مصطفى كمال -أواتاتورك- بما في ذلك تبني الحروف اللاتينية وابعاد الدين عن السياسة والمناهج التعليمية الخ ومع ذلك فإن قوة التأثير الديني لدى الشعب التركي صمدت أمام كل هذه التحديات بل واستطاعت الأحزاب الاسلامية الحصول على الأصوات الأكثر في أكثر من عملية انتخابية مما دفع بقيادات الجيش التركي خلال عدة عقود من التدخل في مجريات السياسة التركية والتأثير على تركيبة التشكيلات الحاكمة والمنتخبة ديموقراطياً.
والأمر ذاته ينطبق على معظم ان لم يكن جميع أبناء الوطن العربي فيما يتعلق بمشاعرهم الدينية الراسخة، بما في ذلك نظرة الغالبية العظمى منهم السلبية نحو الولايات المتحدة والغرب عموماً لأسباب كثيرة يرتكز أهمها في:
أ - موقف أمريكا والغرب المؤسف من قضية فلسطين العربية منذ انشاء دولة اسرائيل على معظم أرض الوطن الفلسطيني المغتصب كما أسلفنا من قبل.
ب - تجارب معظم أبناء البلاد العربية مع الهجمة الاستعمارية خلال عقود خلت كان ابناء هذه البلدان ألعوبة بين براثن المستعمرين الانجليز والفرنسيين والايطاليين حيث يتحكمون بهم كيفما شاؤوا.
ج - ما تمثله الموجة الحضارية الغربية العاتية، من أوجه عدة بقيادة الولايات المتحدة لغالبية أبناء العالمين العربي والاسلامي في اندفاعها الجارف نحو هذه المنطقة الهامة من العالم وهو ما تعتبره نسبة ليست بقليلة من ابنائها مؤشرات هامة للأخطار المحدقة بالشرق العربي والاسلامي من تفسخ وانحلال ديني واخلاقي وسبب لانحسار قيم هذه المجتمعات وتقاليدها.
وانها لحقيقة لا مراء فيها ان التطور والاصلاح السياسي والاجتماعي التدريجي، وهو ما هو حاصل حاليا في جميع المجتمعات العربية هو الاسلوب الأمثل والأكثر أماناً للجميع فهو يتواءم مع تزايد الوعي العام لدى الجماهير من ابنائها بصورة طبيعية وتدريجية. كما ان أي تحولات سياسية أو اجتماعية متعجلة او مفروضة بطريقة من الطرق قد لاتكون معظم هذه المجتمعات العربية مهيأة لها لما يمكن ان يصاحبها في الغالب من خضات او قلاقل اجتماعية قد تتحول إلى ما لاتحمد عقباه في مضمار أمن وطمأنينة أبناء هذه المجتمعات واستقرارها.
والتناقض بالنسبة لهذا الجانب يأتي من أوجه عدة أهمها ما يعتبر تجسيداً للمشاعر القائمة حاليا لدى غالبية المواطنين العرب تجاه الولايات المتحدة والغرب عموماً للأسباب التي نوهنا عنها سابقاً فالاحتمال وارد والحالة هذه ان معظم دول المنطقة ستجد نفسها تقتفي النموذج الديمقراطي التركي وهو ان يوكل إلى القطاعات العسكرية فيها مهمة الاطاحة بأي توجه سياسي أو اجتماعي أو اقتصادي تتبناه الكثرة الغالبة من المواطنين في هذه الدول ما دام هذا التوجه لايتواءم مع خطوط السياسة العامة المرسومة سلفاً وخاصة إذا كان فيها مايتعارض مع أهداف السياسات الاستراتيجية الأمريكية في المنطقة.
وأخيراً، هناك من الأمور ماهو في نظري أكثر إلحاحاً، بالنسبة لدول المنطقة عموماً ونحن من ضمنها وهو ضرورة اعطاء الاهتمام والعناية المطلقة عاجلاً وليس آجلا لتبني جميع الخطوات التي تمكن الجميع من تطوير قدرات دول المنطقة التنظيمية والإدارية الحكومية والعمل في الوقت نفسه على مكافحة الممارسات الإدارية الخاطئة في بعض الدوائر ومن أهمها استغلال سلطة الوظيفة العامة لأسباب مادية أو معنوية مما يساعد في إثارة مشاعر الغبن لدى المواطنين ممن يواجهون بمثل هذه الأمور المؤسفة ويولد هوة لا حاجة لأحد بها بين المواطن والدوائر المسؤولة عن خدمته وراحته وأمنه.

(1) The War on Eeedom, Mofeez Musadeq Ahmad.
(2) The Big Lie by Terry Messsom
(3) The Terror Enigma 9/11 and the Israeli Connection by Justin Raimondo P.i Universal Lincoln
(4) The Prise of Loyalty - by Ron Suskind P.Simon Sahuster 2004.
(1) The Armageddon Network Miehael Saba P.Amana Books Vermont1984.


[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][الأرشيف][الجزيرة]
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الىchief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الىadmin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت
Copyright, 1997 - 2002 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved