Thursday 6th May,200411543العددالخميس 17 ,ربيع الاول 1425

     أول صحيفة سعودية تصدرعلى شبكة الانترنت

فيض الضمير فيض الضمير
فاس.. لم يكن وصلك إلا حُلماً
د. محمد أبو بكر حميد

وعدت في مقال سابق بأنني سأصف الجولة التي قمت بها في مدينة فاس القديمة بصحبة د. محمد حسن الزير والطالب المغربي إدريس ريان.
حقا إن التاريخ يتكلم بصوت عال في هذه المدينة ينطق به كل شيء فيها، الشوارع الضيقة التي يحشر الناس فيها حشرا وقت الزحام، والبيوت ذات الطراز المميز والأسوار العالية التي تحيط بفاس القديمة القائمة كلها على تلال ما عدا وسطها.
غرقنا في ذلك الزحام اللافت فيه أن معظم السياح هناك كانوا من الأوروبيين وخيل إلينا أنه لم تكن هناك وجوه من المشرق العربي إلا نحن، ولعله كذلك. وانقضى معظم ذلك المساء في الأسواق والشراء رغم التعاهد الذي كان بيني وبين زميلي د. محمد حسن الزير بألا نثقل أنفسنا بالهدايا، وأن نتخلص من هذه العادة السيئة التي تصاحبنا أينما نذهب لتسهل حركتنا كما يفعل الأوروبيون الذين يحملون خفيف المتاع على ظهورهم وهو كل يخرجون به!
أدركتنا صلاة المغرب فدلفنا إلى مسجد صغير قرب (القيسارية)لا أذكر اسمه فصلينا المغرب والعشاء جمعا ولفت نظرنا جماعة من الصوفية ينشدون الأناشيد، وأناس يقفون على الباب يمنعون غير المسلمين من الدخول.
ازداد شعورنا بالتعب بعد أذان العشاء خاصة أن الأزقة كثيرة الصعود والهبوط. وكان القرار أن نتأخر في فاس لنقوم بجولة صباحية كاملة فالمدينة تستحق، وفيها الكثير الذي يرى لعدة أيام.
وفي اليوم التالي أمضينا النهار كله حتى المساء مشيا على الأقدام فالسيارات لا تستطيع دخول تلك المدينة وتقف عند أطرافها وأمام ساحات بواباتها الكبيرة.. بعد أن فرغنا من استطلاع ما استطعنا من الأزقة والحوانيت دخلنا أحد البيوت القديمة - وكلها قديمة - لمشاهدة الطراز المعماري من الداخل، فالبيوت جميعا مبنية بالآجر والحجر المنحوت بدقة، ومعظم هذا الحجر جميل ومزدان بفسيفساء بهيجة وزخارف مميزة للطراز المغربي، وتتميز هذه البيوت بالأروقة والأفنية المبلطة بزليج مربع قديم مختلف الألوان، ومعظمها من طبقتين أو ثلاث في كل طبقة شرفات كثيرة الزخارف تسمح بالمرور بين الغرف لأن ساحات البيوت مكشوفة والحجرات قائمة في كل جوانبها، ولها أبواب واسعة وعالية جدا.
وفي أحد أزقة الأسواق قرب ساحة تدعى ساحة الحمامصيين توقفنا عند بيت صغير من طابقين، البيت الذي سكنه العلامة الشهير ابن خلدون ويقع على منحدر ضيق، وفيه كتب كتابه الصوفي (شفاء السائل لتهذيب المسائل).. بيت أقل من متواضع يحتاج الطويل القامة نسبيا لدخول بابه إلى الانحناء، سكنه ابن خلدون لمدة عامين (1372- 1374م) وهي الفترة التي عمل فيها في بلاط المرينيين قبل أن ينتقل إلى الأندلس شعرنا أمام هذا البيت بعجب وإجلال لهذا العالم الذي كان بإمكانه أن يطلب قصرا ويعيش فخرا.
عاش في فاس عدد من العلماء والأدباء الذين أسهموا في الحضارة الإسلامية في المغرب والأندلس أهمهم العالم الشاعر والوزير الغرناطي لسان الدين بن الخطيب صديق ابن خلدون، وهو صاحب الموشح الأندلسي المشهور:


جادك الغيث إذا الغيث هما
يا زمان الوصل بالأندلس
لم يكن وصلك إلا حلما
في الكرى أو خلسة المختلس

وقد وقفنا من سطح احد الدور على المكان الذي شهد النهاية المأساوية لهذا الشاعر العظيم حيث أحرقت جثته بعد اغتياله في زنزانته، ويوجد ضريحه خارج أسوار فاس نزولا نحو المدينة بالقرب من باب المحروق. كما يوجد بفاس أيضا ضريح العلامة الأندلسي أبو بكر بن العربي صاحب كتاب (أنوار الفجر) وكان معاصرا للسلطان يوسف بن تاشفين، وتوفي بفاس سنة 1148 م ويوجد ضريحه بين قصبة الشراردة والمشور القديم قبالة جنان السبيل، وعاش بفاس من غير المسلمين الفيلسوف والحاخام اليهودي القرطبي موسى بن ميمون صاحب كتاب (دلائل الحائرين) الذي أظهر فيه تأثره بعلم الكلام الإسلامي، لتقف قصته - وعشرات أمثاله - شاهدا على سماحة العقيدة الإسلامية وعظمة حضارتها التي اتسعت لكل الأجناس والأديان والأفكار.
وتعمر فاس القديمة بالمدارس التاريخية التي بنيت عبر العصور أهمها المدرسة البوعنانية التي بناها السلطان أبو عنان المريني قال عنها ابن بطوطة: (إنه لم ير مثلها لا في سوريا ولا في مصر ولا في العراق ولا حتى في خراسان)
تحتوي على بركة فاخرة من رخام ويخترقها جدول ماء يسيل في قناة صغيرة مغطاة أرضها بالزليج، وعلى طول جدرانها كتابات شعرية منقوشة، والسقف من الخشب المنقوش بصنع دقيق جميل، وبين أروقتها والصحن شبه شبابيك من الخشب حيث إن من يوجد بالصحن لا يرى من بداخل الحجرات المطلة على الأروقة، وتوجد بساحة هذه المدرسة ساعة مائية أعجوبة بعدة أجراس ومطارق تخضع الآن للإصلاح، كما توجد بفاس عشر مدارس أخرى مثل مدرسة الشراطين ومدرسة العبادين ومدرسة العطارين ومدرسة الصفارين وغيرها.
وقد لاحظنا أن معظم المدارس والفنادق تحمل أسماء أصحاب المهن وأكثرها أسس في عهود المرينيين، أهمها: فندق النجارين البديع الصنع بأخشابه.
وانتهى بنا المطاف بعد أن أخذ منا التعب كل مأخذ - وإن لم نعترف به - إلى الصلاة فما أجملها من راحة يحصل عليها الإنسان في السجود لله بعد كدح طويل. صلينا في جامعة القرويين أعظم مساجد فاس.. الجامعة التي يتخرج منها منذ تأسيسها إلى اليوم عشرات العلماء، وعلمنا أن شروط القبول في هذه الجامعة تبدأ بكمال حفظ كتاب الله ثم يتخصص الطالب في فرع من علوم الدين ليحصل بعد أربع سنوات على الشهادة العالمية التي تؤهله للتدريس في الجامعات.
محيط هذا الجامع حوالي ميل ونصف وله 31 بابا و360 عمودا على عدد أيام السنة، وعشرات الثريات بعضها - لا يزال موجودا - من غنائم أهل فاس في الفتوح الأندلسية، وتعود أخشاب السقوف والمنبر ومعظم الأعمدة إلى ما قبل 900 عام أو أكثر.وأدركنا أن يوما واحدا لا يكفي ولا يومين ولا ثلاثة لاستنطاق التاريخ في فاس، ولابد من الاعتراف بأن فاس صنعت هوى في أنفسنا ومرت الأيام بها كالحلم الجميل ولكننا تذكرنا أن أمامنا أياما معدودة فقط، فعدلنا عن زيارة تطوان وطنجة للمسافة الطويلة وبرودة الجو، وقررنا أن نمضي الأربعة أيام المتبقية بين الرباط والدار البيضاء، ولذلك حديث آخر.


[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][الأرشيف][الجزيرة]
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الىchief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الىadmin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت
Copyright, 1997 - 2002 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved