Monday 17th May,200411554العددالأثنين 28 ,ربيع الاول 1425

     أول صحيفة سعودية تصدرعلى شبكة الانترنت

هل قرأنا التاريخ ؟ (2) هل قرأنا التاريخ ؟ (2)
عبد الله الصالح العثيمين

من بين ما أشير إليه في الحلقة السابقة المراد من قراءة التاريخ ، وانخداع بعض الزعماء العرب بوعود الدول الغربية ، وبخاصة بريطانيا ، التي كان من الذين لدغوا من جحرها بانخداعه بوعودها الشريف حسين بن علي - رحمه الله - . واختتمت تلك الحلقة بالقول : هل كان لدى العرب الذين أتوا بعده من الإيمان ما وقاهم شرَّ اللَّدغ مرَّتين أو أنهم أخذوا على سموم لدغ الحيَّات وأدمنوها؟
بعد القضاء على نفوذ الدولة العثمانية ، التي أصبحت تركية ، في العراق والشام - بمفهومها الواسع - وفلسطين باتت فلسطين ضمن ما وقع تحت حكم الدولة البريطانية ، التي كان وزير خارجيتها ، بلفور، قد وعد الصهاينة عام 1917م ، بالسماح لهم بإقامة وطن قومي لهم على أرض هذا الوطن العربي الإسلامي . ولقد اشتهر الرئيس الأمريكي ولسون ، بمناداته بمبادئ جميلة في ظاهرها . ومن هذه المبادئ المناداة بحق الشعوب في تقرير مصيرها ، ومراعاة حقوق الإنسان . وانخدع الكثيرون - وبينهم زعماء عرب - بما نادى به . لكنهم اكتشفوا - فيما بعد - أنه كان مؤيداً لوعد بلفور متحمسا لتنفيذه ، مع منافاة ذلك حق الشعب الفلسطيني العربي في تقرير مصيره وحقوقه إنسانيا (1).
ولم يتوقف قطار خداع الغرب للعرب . فعندما تأزم موقف السلطات البريطانية المحتلة لفلسطين أمام حركة المقاومة الفلسطينية وإضرابها المشهور عام 1936م ، سعى حسنو النية من زعماء العرب إلى إنهاء ذلك التأزم بمناداة قادة تلك الحركة بوقف (الاضطرابات حقناً للدماء ؛ معتمدين على رغبة الحكومة الإنجليزية في التعاون على تحقيق العدل) . هكذا قال الزعماء العرب (2).
ولبَّى القادة الفلسطينيون الثائرون دعوة أشقائهم الكبار من زعماء العرب ، فأوقفوا إضراباتهم ، وأخلدوا إلى السكينة . فماذا كان العدل الذي قال حسنو النيَّة من أولئك الزعماء : إن الحكومة البريطانية ترغب في تحقيقه؟
كانت الأمور واضحة ؛ وبخاصة لدى أقطاب تلك الحكومة المحتلة الذين كانوا بالتأكيد يعلمون دقائقها وجلائلها . لكن دولة اتصف تاريخها بالخداع لا يتوقع أن تتخلى عنه . وإذا بها ترسل - إضاعة لوقت الثوار الفلسطينيين واستغلالاً له لمصلحتها - بعثة باسم اللجنة الملكية للنظر في سير الأمور على أرض الواقع الفلسطيني . ولأن القادة الفلسطينيين كانوا - حينذاك - يدركون مراد الحكومة البريطانية الحقيقي من إرسال تلك اللجنة رفضوا مقابلة أعضائها . لكن الزعماء العرب المشار إليهم سابقاً تدخلوا ، مرة أخرى فأهابوا بأولئك القادة أن يتعاونوا مع أعضاء اللجنة (بالنظر لما لهم من الثقة بحسن نية الحكومة البريطانية في إنصاف العرب). هكذا قالوا (3).
أما كيف نسي الزعماء العرب أن تلك الحكومة ذات تاريخ أوضح سطوره الخداع والمكر فأمر ليس من اليسير فهمه واستيعابه ، ولم يكن متوقعاً - لدى من قرأ ذلك التاريخ قراءة صحيحة - من اللجنة الملكية ، إلا أن توصي بما يتفق مع سياسة الدولة التي بعثتها ؛ وهي الدولة التي كان وزير خارجيتها، بلفور ، صاحب الوعد المشهور المشؤوم لتوطين الصهاينة في فلسطين قبل عشرين عاماً من ابتعاث تلك اللجنة ، كما أنها هي المشرفة والمعنية على تنفيذ ذلك الوعد وتحقيقه . فجاءت توصياتها بأن تقسم فلسطين العربية الإسلامية بين العرب، الذين هم أهلها الوارثون لها جيلاً بعد جيل ، والصهاينة الذين كانوا يتدفقون على أرضها - في ظل الحكم البريطاني ومباركته وتأييده - من كل حدب وصوب.
وغضب الزعماء العرب ؛ وبخاصة المخلصون منهم ، من تلك اللدغة الجديدة المؤلمة من بريطانيا . لكنهم لم يكونوا - فيما يبدو - في وضع يتيح لهم أن يبلوروا ذلك الغضب إلى عمل إيجابي من سماته مد الفلسطينيين بالسلاح الذي يعينهم على الدفاع عن أنفسه وأرضهم(4).
وكان الملك عبد العزيز - رحمه الله - من زعماء العرب المخلصين لقضية فلسطين . وقد رأى أن الولايات المتحدة الأمريكية قد أصبحت قوة عالمية كبيرة ، فأمل أن يكون لها دور مؤثر في مجريات تلك القضية.
واتجه إليها يحثها على العمل لإنصاف الفلسطينيين ، فأرسل إلى الرئيس روزفلت، عام 1938م ، رسالة فنَّد فيها مزاعم الصهاينة بحقهم في إقامة وطن لهم على أرض فلسطين . وأشار فيها إلى خذلان الحلفاء الغربيين للعرب الذين وقفوا معهم في الحرب العامة - الحرب العالمية الأولى - ؛ مؤملين أن ينالوا استقلالهم الذين وُعدوا به في نهاية تلك الحرب ، وإذا بأولئك الحلفاء يقسمون بلادهم تقسيماً جائرا ً، وإذا بأبواب الهجرة تفتح أمام الصهاينة ليتدفقوا على فلسطين . وأهاب بذلك الرئيس قائلاً:
(نناشدكم باسم العدل والحرية ونصرة الشعوب الضعيفة التي اشتهرت بها الأمة الأمريكية النيبلة أن تتكرَّموا بالنظر في قضية عرب فلسطين ، وأن تكونوا نصراء للآمن المطمئن الهادئ المعتدى عليه من قبل تلك الجماعات المشرَّدة من سائر أنحاء العالم.. ولا نشك في أن المبادئ السامية التي يتحلَّى بها الشعب الأمريكي ستجعله يذعن للحق ويقدم لنصرة العدل والإنصاف) (5).
ومن الواضح ما في تلك الرسالة من مجاملة قُصِد بها التأثير على المخاطب ؛ أملاً في كسب تعاطفه ليقف مع الحق . فماذا كان ردُّ ذلك الرئيس؟
لقد أجاب روزفلت برسالة قصيرة قائلاً :
(إن اهتمام الشعب الأمريكي بفلسطين يرتكز على عدة اعتبارات ؛ منها ما هو ذو صبغة روحية ، ومنها ما هو ناشئ عن الحقوق التي نالتها الولايات المتحدة في فلسطين من الاتفاقية الأمريكية البريطانية الخاصة بالانتداب في فلسطين عام 1924م . وإن موقفنا بشأنها يتضح في بيان أصدرته وزارة الخارجية عام 1938م)(6).
فماذا تضمَّن ذلك البيان؟
لقد ورد فيه ما يأتي:
(كما هو معروف حق المعرفة فالشعب الأمريكي قد اهتم اهتماماً وثيقاً عدة سنين برقيِّ الوطن القومي اليهودي في فلسطين . وكل رئيس ؛ ابتداء من الرئيس ولسون ، قد عبَّر عن اهتمامه في مناسبة واحدة أو مناسبات عدة بفكرة وطن قومي .. وإنه في ضوء هذا الاهتمام قد راقبت الحكومة الأمريكية وشعبها بأشد العطف تدرُّج الوطن القومي في فلسطين ؛ وهو مشروع لعب فيه الذهب ورأس المال الأمريكي دوراً رئيسياً) (7).
هذا الرد الواضح كان جواب الرئيس الأمريكي عن رسالة الملك عبد العزيز - رحمه الله - التي كانت عبارات المجاملة من أبرز سماتها. ومن الواضح أن تبيان ذلك الرئيس لموقف أمريكا لم يكن لدغة ؛ إذا لم يعد حتى تلك اللحظة بشيء وأخلفه.
لكن من الواضح أيضا ، أنه صدمة ودرس لمن يؤملون خيراً في جهات أثبت التاريخ أن الأمل فيها كسراب بقيعة ، والغريب أنه ما يزال يوجد بين الزعامات العربية الآن - بعد مرور تلك العقود التي ازداد فيها نفوذ الصهاينة في أمريكا رسوخاً - من يؤمل في أن يقف القادة الأمريكيون موقفاً عادلاً!.

1- خير الدين الزركلي، شبه الجزيرة في عهد الملك عبد العزيز ، بيروت ، 1390هـ ، ج3، ص1111.
2- المرجع نفسه ، ج3 ، ص1075.
3- المرجع نفسه ، ج3 ، ص1076.
4- المرجع نفسه، ج3 ، ص1101.
5- المرجع نفسه، ج3 ، ص1103 وص1108.
6- المرجع نفسه، ج3 ، ص1110.
7- المرجع نفسه، ج3 ، ص1112.


[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][الأرشيف][الجزيرة]
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الىchief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الىadmin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت
Copyright, 1997 - 2002 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved