Monday 17th May,200411554العددالأثنين 28 ,ربيع الاول 1425

     أول صحيفة سعودية تصدرعلى شبكة الانترنت

كتابتنا المخدِّرة! كتابتنا المخدِّرة!
د. عبد الرحمن الحبيب

كثيراً ما نسأل، لماذا نحن العرب والمسلمين متأخرون؟ وبقطعية تأتي الإجابة مرضية سهلة لذيذة: السبب في الغرب وتآمره مع العملاء! إذن، لماذا هم متقدمون؟ الإجابة النمطية: هم سرقوا علوم أجدادنا، ولا يزالون ينهبون خيراتنا!! يعني مصائبنا منهم، وتقدمهم منا؟.. وهل يوجد أجمل من هكذا إجابة منومة؟ وإذا كنا نردد مقولة: (صديقك من صدَقَك لا من صدَّقك)، فإن كتابتنا العربية تزخر بمضامين مناقضة لتلك المقولة، حيث تصادق على رأي وعواطف العموم بإمعية محزنة.. تؤيِّد الأفكار العامة الشائعة، وتزايد على العواطف والقناعات المغذية لتلك الأفكار بصحيحها وعليلها، تكتب ما يريد الناس أن يسمعوه، وتستنتج ما يرضيهم ويريح بالهم من ذم الآخر وتمجيد الذات، مثلها في ذلك مثل كثير من وسائل الإعلام.. وهل هناك أسهل من أن تدغدغ قناعات مستندة على العواطف؟ ويتفرغ كثير من الكتَّاب لشتم الآخر عدواً كان أم خصماً أم محايداً.. فمن ليس لديه موضوع فليكتب مقالة في شتم أمريكا مثلاً، وهل هناك مهمة أبسط من ذلك، بالمقارنة مع الدخول في المعترك الصعب عبر التحليل النقدي والمعرفي لمجتمعاتنا؟
أما من يخرج عن هذا السرب من المثقفين ممارساً النقد الذاتي لمجتمعاتنا، تاركاً مهمة شتم الآخرين للآخرين، فيواجه هجوم الكتَّاب النمطيين بقسوة أشد من سلطات الرقابة العربية الصارمة. ألم تقم ولا تزال بعض السلطات العربية بحماية بعض الكتِّاب الخارجين عن السرب من تيارات فكرية ومثقفين؟ وأعرف بعض رؤساء التحرير يحذفون بعض مقاطع من مقالات كُتَّابهم ليس خوفاً من السلطة أو الرقيب، بل حماية للكاتب من بعض المفكرين أو الرموز الثقافية التي تهدد وتشجب النقد ما لم يكن موجهاً للخصم أو للآخر مع تبرئة الذات بعاداتها وتقاليدها وقيمها!!
تعوزنا في مجتمعاتنا العربية ممارسة نقد الذات والتناقد كمنهج تقويمي، ونفتقر إلى حرية النقاش، حيث القمع هو السمة الأبرز في التعامل مع الحوار.. لينمو الاستبداد وتثبط الملكات والمواهب. ويصبح من العسير الاعتراف بالأخطاء أو اكتشافها، ناهيك عن استشراف وإبداع الحلول. وتتأتى إشكاليتا مع تقبل النقد من عدة مصادر أحدها نمط التربية غير الحوارية وغير النقدية. ومنها أيضاً الخلل في مفهوم النقد كمصطلح وكتطبيق، فالنقد لدينا هو رديف للتجريح.
ولان نظرتنا للنقد بهذه الصورة، وفي سياق إرضاء الذات والقراء، يتسابق كتَّابنا على شتم الآخر، خاصة الغربي، دون أن نجد من يجرؤ على محاولة فهم الآخر من داخله ثقافياً وسياسياً واجتماعياً.. وفي نفس الوقت نطالب الآخر بنقد ذاته - رغم أنه يفعل ذلك كثيراً -، دون أن نقوم بنفس المهمة تجاه أعمالنا. وإذا أراد بعضنا أن يكون موضوعياً تجده يخفف اللهجة الانفعالية في شتم الآخر، ويتنازل عن جزء بسيط من كبريائه الشرقي وخلله التربوي نقدياً، موضحاً أن ما يقوم به الإعلام الغربي ناتج عن جهل وعدم فهم، أي أن العلة لا تزال في الآخر (الغربي)، مع إقرار خجول ببعض القصور ناتج عن أننا لم نفلح في توضيح كم نحن طيبون مظلومون؛ ليظل الخطأ الأكبر يلام به الآخر الذي يتخبط بالجهل أو عدم الفهم، وننام متدثرين براحة الضمير. أما حين يقع عمل مؤذٍ من جانبنا (كأعمال التفجير من أبنائنا) تجاههم فهو لدى أغلبية مثقفينا، استثناء شاذ لا يعبِّر عنا أو عن أزمة نعانيها، ولا نعتذر منه ولا نناقش معطياته، بل قد نطالب الآخر بتفهمه وتقدير ظروفه، ونطالبه بمراجعة سوء تصرفاته التي أنتجت حماقة سلوك بعضنا!!
وعندما نوجه خطابنا للآخر، نوجهه إلى شيء في خيالنا لا صلة وثيقة له بواقع الآخر.. ففي أغلب النقودات العربية، على اختلاف مشاربها الإيديولوجية أنها تنتقد الصورة المفترضة والرمز المتخيَّل في الآخر بغض النظر عن واقع حال الرمز ودون استيعاب مدلولاتها وآراء المدافعين عنها. وإذا كنا نطالب الآخر بحسن فهمنا فكرياً واجتماعياً، فإنه من الطبيعي أن نفعل الشيء ذاته تجاهه، قبل الحكم الجزافي عليه أو التعميم التبسيطي على مواقفه تجاهنا، ولا نكتفي بالظواهر السطحية لأعماله، بل نحاول معرفة الأسس الحضارية لهذه الأعمال. صحيح أن منطقتنا تتعرض إلى حروب غير عادلة من الآخرين قد تكون ناتجة عن مطامعهم و/أو جهلهم بنا، لا اعتراض على ذلك، ولكن الأساس أن نحاول فهم لماذا نحن مَن يتعرض لذلك دون أغلب مجتمعات الأرض قاطبة.. وأن نبحث في عللنا التي ربما هي من العوامل التي أدت إلى ذلك العدوان.
ومن الضروري لموازنة العلاقة مع الآخر أو إدارة الصراع معه أن نبدأ بفتح ملف أزماتنا الداخلية من تخلف وقمع وجهل، ويتخلل ذلك بحث أزماتنا مع الآخر من خلال دراسة الاتهامات الموجهة إلينا. من مصلحتنا أن ندير علاقاتنا مع الآخرين بروح موضوعية وبلغة الحوار المنفتحة وليس بلغة الدفاع الأعمى، وعدم القطيعة معه ما لم تتعرض مصالحنا الحقيقية للتهديد.. فالحياد والتجرد والموضوعية أمور أساسية في تقييم الذات والآخرين..
وهنا يجدر بنا أن لا نضع غاية مسبقة غرضها تبرئتنا من كل العيوب واتهام الآخر بها. إن فهم الآخر لن يتحقق دون أن نتعاطى مع تراثه وحاضره الفكري والاجتماعي، ونقيِّم ظروفه بموضوعية وإنصاف. فإذا استخدمنا المعطيات الواقعية عبر وسائل موضوعية وحصلنا على نتائج لا نرغب بها ينبغي عدم التهرب من أخطائنا. فليس من الحكمة عندما نتعرض لأزمة حادة في علاقاتنا الخارجية أن يلقي مفكرونا تهماً جاهزة توجَّه نحو الآخر وحده! ربما يكون هذا من أدوار السياسة وطبيعتها للدفاع عن المصالح الآنية، ولكنه لا ينبغي أن يكون من أدوار المفكرين الذين يقومون بمهمة التنوير المنصف والدفاع عن المصالح بعيدة المدى (المستشار مؤتمن)، وليس من الأمانة أن نصادق آلياً على العواطف والقناعات والأفكار السائدة، خاصة أننا نعيش أزمات حادة تتطلب رؤية جديدة..


[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][الأرشيف][الجزيرة]
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الىchief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الىadmin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت
Copyright, 1997 - 2002 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved