Friday 21st May,200411558العددالجمعة 2 ,ربيع الثاني 1425

     أول صحيفة سعودية تصدرعلى شبكة الانترنت

انت في "مقـالات"

سيدتي..إني أعتذر إليك سيدتي..إني أعتذر إليك
عبدالله بن ثاني(*)

قبل سبعين سنة تقريباً قال الرافعي في (وحي القلم): وقفت عند قوله صلى الله عليه وسلم في حديث معناه :(إن قوماً ركبوا في سفينة، فاقتسموا فصار لكل رجل منهم موضع فنقر رجل منهم موضعه بفأس، فقالوا له: ماذا تصنع؟ قال: هو مكاني أصنع فيه ما شئت، فإذا أخذوا على يديه نجا ونجوا، وإن تركوه هلك وهلكوا) فكان لهذا الحديث في نفسي كلام طويل عن هؤلاء الذين يخوضون معنا البحر، ويسمون أنفسهم بالمجددين. وينتحلون ضروباً من الأوصاف كحرية الفكر والغيرة، والإصلاح، ولا يزال أحدهم ينقر موضعه من سفينة ديننا وأخلاقنا وآدابنا بفأسه.. زاعماً أنه موضعه من الحياة الاجتماعية يصنع فيه ما يشاء، ويتولاه كيف أراد، موجهاً لحماقته وجوهاً من المعاذير والحجج من المدنية والفلسفة جاهلاً أن القانون في السفينة إنما هو قانون العاقبة دون غيرها، فالحكم لا يكون على العمل بعد وقوعه كما يحكم على الأعمال الأخرى بل قبل وقوعه، والعقاب لا يكون على الجرم يقترفه المجرم كما يعاقب اللص والقاتل وغيرهما، بل على الشروع فيه، بل على توجه النية إليه، فلا حرية هنا في عمل يفسد خشب السفينة أو يمسه من قرب أو بعد مادامت ملججة في بحرها سائرة إلى غايتها)أ.هـ.
أيها الرافعي إن التطوير والمراجعات من ضرورات الحياة لتستمر تلك السفينة تمخر عباب البحر بطمأنينة وثبات، ولكن الضرب على وتر نشاز لا يمكن أن يعطي صوتاً جميلاً، وكل هدف لا يحقق مصلحة الإنسان من أهداف اي مشروع فهو مرفوض، فما بالك بالقتل والترويع والبهتان لثوابت تعدها الشعوب مقدسة في سفر الوطن، وما ضرهم لو امتطوا الحوار والمناقشة والمكاشفة قبل كل هذا الفجور والعقوق في ظل معطيات تخدم مصلحة الوطن العليا، وبخاصة أننا نمر بمنحنى مخيف، وإذا لم نتماسك ونتعاون سنسقط جميعاً في تلك الهوة السحيقة، والأعداء المتفرجون ينظرون النتائج المؤلمة وبناء على احترام الوطن لا يمكن أن تبر الإساءة إليه امام العالم وإفشاء سر البيت الواحد تحت أية ذريعة في زمن تحول فيه هذا الكوكب إلى مستنقع سياسي، يرعى ثقافة إسبارطية، تسعى أن تحشو البشر كلهم في خوذة أو بسطار، وكأنهم كومبارس في مشهد من مشاهد التهميش على مسرح اللامعقول في هذه الدراما الكونية، وليس ثمة فرق بين كائنات بشرية تخالف فطرتها، وتتقرب إلى الله بتدمير مجتمعاتها المستقرة بأية حجة وبين حاضنات بكتيرية ومزارع بيولوجية تجري عليها تجارب فقد المناعة المكتسبة، والشبه بينها الرعاية من العنصر الأجنبي الذي يسلط الضوء وأحزمته البنفسجية لتحكم مزاجه بالتهييج، في ذلك التفاعل البيولوجي والنتيجة واحدة بمجرد أن تفقد تلك الكائنات نظامها وغريزتها وسلامة فطرتها وجهازها المناعي لتغرق بعد ذلك في فوضى مخيفة لا يجدي معها حينئذ العلاج الكيماوي ولا تعيدها إلى سابق عهدها كل عمليات الجراحة لمفهوماتها الناشزة في ذاكرة تغير لونها ولون السحايا فيها كالحرباء مع كل تراب وكل طارئ مستعر.
ما أقسى أن تعيش زمناً يسمي الأشياء على طريقته الملتوية، ويرى بعين واحدة ويتكلم بلسان واحد، يقدم مصلحته الشخصية على مصلحة الأمة ويمتطي النصوص الشرعية المبتورة عن سياقها ليمرر مشروعه النفعي في صورة تختلف عن صورة الوطنية عند كل الشعوب التي تقدم أوطانها على أي مشروعات لا تحتملها المرحلة، والمؤلم أيضاً أن صفة الوفاء والرحمة انتزعت من هذه النفس العربية المسلمة، وتعرضت لمسخ شوه جمالها اليعربي، فهل يمكن أن يعشق الآخرون أوطانهم مقابل تجردنا من هذا العشق ونحن الأمة العاشقة لأبنائها وبناتها وتاريخها وحضارتها وتراثها وفضائلها وترابها!!؟
قال جون كنيدي (إن الذين يحبون وطنهم، لا يسألون ماذا يقدم الوطن لنا، بل ماذا نقدم نحن للوطن)، وكان (لودفيج إيرها) الذي انتشل ألمانيا من الهزيمة والتدمير بعد الحرب العالمية الثانية يصرخ في وجه من شطر برلين :أيها العالم، إنني أعيش بنصف قلب، ونصف رئة، ولكن اليوم الذي تستعيد فيه ألمانيا كبرياءها ووحدتها لن يكون بعيداً.. وتحققت تلك الأحلام والرؤى بعد نقض جدار برلين العازل قبل سنوات.
سيدتي الرياض، كل ذلك حضر في ذاكراتي وأنا أراك حزينة في تلك الليلة من كل هذا العقوق على يد الولد، فلا بأس يا مدينة النهار، لك كل هذاالبياض الذي يشبه في صمته الصمت الأبيض لمقال كتبه العقاد عندما ملأ البياض عموده الصحفي ذات يوم احتجاجاً على ضرورة تعميم هذا البياض في كل قلب بشر ولذلك صدق الباعة عندما صرخوا (اقرأوا ما كتبه العقاد اليوم) ولم يكن كاتبا إلا البياض والفجر المشرق الذي لا يملك يا سيدتي إلا أن يشتاق لطرقاتك وجسورك المعلقة ومعالمك الحضارية التي لا يليق بملئها هذا السواد الذي اكتسينا به حزنا على ذلك العمل الأشر، إذ هو مرفوض عند كل الشرائح وكل الفئات وكل البشر والكائنات الحية ولا عجب أن تتحول الأفئدة إليك، وتختصر الوطن العظيم فيك في تلك اللحظة..
ربما أنت المدينة الوحيدة التي لم يتحجر قلبها، ولا يشعر الغرباء فيها بالنكبة والخيبة والهزيمة، مثل تلك المدن التي وصفها الشاعر الكبير البياتي في أشد قصائده حزناً، تلك المهداة إلى ولده علي، إذ يبكي فيها الليل المستطيل.. بحروف تمثل مقطعاً شجياً يبعث الشجي.. حتى أصبح الليل أطول من ليل امرىء القيس والنابغة ومعروف الرصافي .. ولا يزال يدهشني هؤلاء العرب الذين يهجون مدنهم، ثم يقابلونها ويبكون معها، ليبلغوا في فن رثاء المدن ريادة لم تبلغها أمة قبلهم ولا شاعر من أمثال (ت. س إليوت) في قصيدته الأرض الخراب، والشاعرة (ايديث سيتويل) وكل مراثي المدن في ملحمة جلجامش الخالدة.
والسبب هو المشاعر الصادقة تجاه هذه المدن الثابتة في قلب التاريخ وعمق الحضارة، لأنها تجاوزت بأخلاقها الفاضلة تلك المدن التي تصر على البقاء بالعملاق الثابت بقوة الإسمنت والحديد.
صدقاً لا أبالغ إذا قلت إنك مدينة من مدن القرن الأول الهجري بمقوماتك وشعائرك الإسلامية وطرازك السلفي، إذلا منكرات ولا معاص ولا خمارات ولا مراقص ولا دور للسينما ولا تجارة للرقيق الأبيض، تنادي أبراجك ومآذنك بوحدانية الله ورسالة محمد صلى الله عليه وسلم وتنتشر جمعيات البر والقرآن وأبواب الخير مقابل مدن تجردت من هويتها الإسلامية وحضاراتها الإنسانية تصول فيها الشياطين بالشر الصراح وتعربد ويعبد فيها غير الله فهي زحام ولا أحد كما قال حجازي، ومبغى كبير كما قال السياب والنواب وغليظة القلب باذخة في القسوة لا ترد على الغرباء كما قال البياتي.عجباً من نفس شريرة تدعي الإسلام فأي جنة يدخلها الإنسان بصراخ الأطفال على آبائهم ونشيج الشيوخ على إخوانهم وهدم الجدار على وجدان وتلطخ (مريولها بالدم) الذي لن تحرص على أن يكون نظيفاً بعد هذه اللحظة، فيا عجبا ونحن نمتد بوفائنا إلى ذلك الأعرابي (مجنون التراب) الذى سئل كيف تصنعون في البادية إذا اشتد القيظ حين ينتعل كل شيء ظله؟ فقال وهل العيش إلا ذاك؟ يمشي أحدنا ميلاً فيرفضّ عرقاً، ثم ينصب عصاه، ويلقي عليها كساه، ويجلس فيه يكتال الريح فكأنه في إيوان كسرى وتلك العبارة التي ذكرها الجاحظ في رسالة الحنين إلى الأوطان وكانت العرب إذا غزت أو سافرت حملت معهامن تربة بلدها رملاً وعفراً تستنشقه).فأي مدينة أنت وأي سيرة أنت! ولولا القدر المؤلم الذي كتب على الروائي السعودي الكبير عبدالرحمن منيف لاختصر كل الجمل التي قاوم بها إغواء السرد في سيرة مدينة ليقول عنك أجمل من ذلك في سيرة مدن، وتشهد له الأمكنة والمعالم والبشر ورائحة المطر والتراب، وشطب عشق الرياض (وسيدها) الشطر الأول من جملته في تلك السيرة (المدينة هي الدموع التي تودع بها من غادروها مضطرين مؤقتاً أو إلى الأبد، وهي البسمات التي تستقبل العائدين) لتلتقي في كنفك الخطوط الزرقاء الفاصلة بين المساء والسماء، وتكتب أسفاراً خالدة لتلك الجدلية بين الإنسان والحضارة على الأرض ذات النخيل الباسق وتنقل للأجيال كل التحديات الصحراوية والجبلية لملحمتنا الخالدة، التي انتشلتنا ذات يوم من ذلك المنجم الأسود في بطون التلال والسهول والشواطئ والفيافي المحترقة بالحروب الفتاكة والأمراض القاتلة والخرافات والبدع.سيدتي.. إذا كانت المدينة نتوءاً شديد الإيغال وخنجراً في خاصرة المنافي فأنت الشموس المشرقة التي تغمر الضحكات والحضن الدافئ الذي يحتاج الغريب أن يضع رأسه عليه واليد الرحيمة التي يستقر عليها الإياب.
صدقا إن الخائنين لا يستحقون شمس هذا التراب الذي يأبى أن يكون ليلاً تعيش فيه خفافيش الظلام لأن نجومك الزاهرة ترعى العشاق، وتسامر الأحباب وتنصت لحداء السارين بقصائد تليق بذلك الشموخ والصمود وأنت باختصار المدينة التي لا تخون ولكن :


(ظلم ذوي القربى أشد مضاضة
على المرء من وقع الحسام المهند)

أعتذر إليك وإلى سيدك من المبررات الشوهاء وممن يصطاد في الماء العكر، ولا أدري لماذا ينسون أن الوحدة مسؤولية الجميع، ولا يحق لكائن ما أن يفرق الجماعة لأن يد الله معهاوسيرعاها بمنّه وكرمه...
والله من وراء القصد.
(*) الإمارات العربيةالمتحدة


[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][الأرشيف][الجزيرة]
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الىchief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الىadmin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت
Copyright, 1997 - 2002 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved