Friday 21st May,200411558العددالجمعة 2 ,ربيع الثاني 1425

     أول صحيفة سعودية تصدرعلى شبكة الانترنت

انت في "متابعة "

..ويستمر السباق إلى الجنة أو النار ..ويستمر السباق إلى الجنة أو النار
اقتحام المجهول................ 2-4
مضواح بن محمد آل مضواح

من الواضح أن الاهتمام بالأجهزة القضائية كتنظيمات ظهر نتيجة لجهود علماء الاجتماع، وبخاصة مع التطورات الحديثة التي صاحبت ظهور المجتمع الغربي الصناعي وشيوع الدراسات الموجهة إلى الفئات المهنية، وقد شهد القرن العشرون طفرة كبيرة في الاهتمامات السسيولوجية بالأجهزة القضائية ساهم في نشوئها ما ظهر من فشل لهذه الأجهزة في التصدي للظواهر الإجرامية، وربما ساهم فيها أيضا ما تشهده هذه الأجهزة من فساد وإهمال وتعطيل لمصالح أفراد المجتمع.
وقد انطلق المهتمون بدراسة المحاكم من المداخل أو المنطلقات الآتية.
1- المدخل التقليدي: ويركز هذا المدخل على دراسة القضايا والمشكلات التي توجد في المحاكم مثل صعوبات اتخاذ القرار، والمشكلات التي تعيق سير العمل، ويتم الحصول على المعلومات والبيانات اللازمة من القضاة والمحامين.
2- المدخل الواقعي القانوني: وقد اهتم هذا المدخل بدراسة الركائز القانونية والقضائية التي تقوم عليها المحاكم وبخاصة في الجوانب المتعلقة بحرية القضاة، وغموض القواعد التي يستخدمونها في تفسيرهم للقانون، وكذلك الأسس التي يتم بناء عليها تصنيف المحاكم من حيث الدرجة، ومن حيث القضايا التي تُنظر في كل تصنيف.
3- المدخل التنظيمي: وهو موجه لمعرفة الواقع التنظيمي في المحاكم العادية بخاصة، ومن ذلك معرفة عمليات التفاوض والصلح داخل هذه المحاكم.
وانطلاقا من هذه المداخل أجرى عدد من الباحثين دراسات أسفرت عن ظهور عدد من النظريات المفسرة للعوامل التي تؤثر على تنظيم وأداء المحاكم، وقد صنف رومان تومسكي هذه النظريات على النحو الآتي:
أ- نظرية الأسر The capture Theories وتنظر هذه النظرية إلى المحاكم على أنها مأسورة في اهتماماتها بالأشخاص الذين تهدف إلى تطبيق النظام عليهم، بمعنى أن المحاكم تطبق القواعد والنظم الموجودة في المجتمع، وفي التنظيم (القانون)، وربما يحد ذلك من مرونتها وقدرتها على تكييف الواقعة والحكم حسب مقتضيات الحال.
ب - نظرية جماعة المصلحة Interest Group Theories وتركز هذه النظرية على الملامح السياسية للعملية التنظيمية من خلال تحليل عدد من المواقف السياسية مثل الأغلبية، وجماعة المصلحة، والتكاليف، والفوائد، وأثر كل ذلك على مستوى تنظيم المحكمة وأدائها لوظائفها.
ج - نظرية المعيارية Normative Theories وأصحاب هذه النظرية ينتقدون النظريتين السابقتين لعدم استنادهما على معايير محددة في تحليلهما لتنظيم المحاكم وتقييم كفاءتها، ويرون أنه لا بد من تحليل المحاكم على أساس مدى ما تحقق من الأهداف المتوخاة من وجود المحاكم.
وعند النظر إلى طبيعة التنظيم داخل المحاكم بشكل أدق فسنجد أن القضاء الجنائي بخاصة يقوم على نوعين من المحاكم هما:
النوع الأول: المحاكم العادية، وهي التي تنظر جميع الجرائم وفقا للتشريع العقابي على اختلاف مستوياتها من حيث الدرجة، ومن حيث عدد أعضاء الهيئة القضائية فيها.
النوع الثاني: المحاكم الخاصة أو الاستثنائية، وهي التي تتولى محاكمة فئات من المتهمين، وتنظر في أنواع خاصة من الجرائم، أو لمواجهة حالة طارئة، ويتعرض هذا النوع من المحاكم لانتقادات شديدة.
ولهذه الانتقادات ما يبررها فمجرد تخصيص هذه المحاكم يعني رغبة السلطة في الحصول على حكم تم تفصيله حسب حاجتها مسبقا.
لقد كشفت الدراسات التي عنيت بتحليل المحاكم عن كثير من التنظيمات البنائية والتفاعلات الصراعية التي تشكل العلاقات المهنية داخل المحكمة، وتؤثر بصورة عامة على إصدار الأحكام القضائية، وذلك على النحو الآتي:
أولاً: من حيث تشكيل المحاكم: وفي هذا الجانب نجد نظام القضاء الفردي، ونظام تعدد القضاة، ونظام القضاء المختلط، ويمكن تفصيل هذه الأنظمة على النحو الآتي:
1- نظام القضاء الفردي: وفيه يتم نظر القضية من قبل قاضٍ واحد، وتشير الدراسات إلى أن لهذا النوع من التنظيم فوائد منها:
أ - تعزيز الشعور بالمسؤولية لدى القاضي أثناء استعراض وقائع القضية وتكييفها فيشعر القاضي بضرورة الإنتاج على نحو تظهر فيه شخصيته ومقدرته، وهذا على خلاف ما يحدث عند تعدد القضاة في نظر القضية الواحدة من تقاعس واتكالية.
ب - يتيح نظام القاضي الفردي تفهما أعمق للقضية وإدراكا أفضل لدقائق الأمور والملابسات، ومن ثم اختيار العلاج المناسب.
ج - تؤدي كثرة المناقشات بين عدد من القضاة إلى تأخير الفصل في القضية، بينما يخلو القضاء الفرد من هذه السلبية لكونه يختصر الوقت، وكذلك النفقات.
ومع أن هذه المميزات لنظام القضاء الفردي مغرية إلى حد كبير إلا أنه ينبغي النظر إلى عدد من السلبيات المحتملة لهذا النظام، ومنها أن إدانة المتهم تتم برأي مفرد يحتمل معه الخطأ والإجحاف، وبخاصة إذا كان القاضي قليل الخبرة، كما أن القاضي الفرد عرضة للتأثر بضغوط السلطة وأصحاب النفوذ، وضغوط الرأي العام وهيئة المحاماة أو الدفاع، كما تسمى في كثير من المجتمعات.
2 - نظام تعدد القضاة: وهنا نجد أن كل سلبية من سلبيات نظام القضاء الفرد يمكن أن يتم تلافيها في نظام تعدد القضاة، وقد جرت العادة على أن تتشكل المحكمة في نظام تعدد القضاة من ثلاثة قضاة على الأقل، ويكثر هذا النظام في المحاكم الاستئنافية ومحاكم النقض، والمحاكم العامة، ومحاكم التمييز والمجلس الأعلى للقضاء، كما في المملكة العربية السعودية، فقد نصت المادة العاشرة من نظام الإجراءات الجزائية لعام 1422هـ على أن تنعقد الدوائر الجزائية في محكمة التمييز من خمسة قضاة لنظر الأحكام الصادرة بالقتل، أو الرجم، أو القطع، أو القصاص فيما دون النفس، ويكون انعقادها من ثلاثة قضاة فيما عدا ذلك.
ويرى المناصرون للقضاء المتعدد أو الجماعي أن الحكم الصادر من هذا النظام تسبقه مداولات تجعله أكثر صوابا وهيبة، كما أن القضاة يحتمون من الضغوط الخارجية بسرية المداولات مما يجعلهم أكثر استقلالا ونزاهة لكونه يصعب التأثير على عدد من القضاة في آن واحد. أما المنتقدون لهذا النظام فهم يستندون إلى عدد من الأمور، منها أن هذا النظام يتطلب زيادة عدد القضاة الأمر الذي يؤدي إلى الزيادة في النفقات، كما أنه يضعف ملكة الإبداع والاجتهاد الشخصي لكون الحكم الصادر ينسب إلى مجموعة من القضاة لا إلى قاضٍ واحد.
3 - نظام القضاء المختلط: يأتي هذا النظام من منطلق أنه ليس بالضرورة أن تتشكل هيئة المحكمة من قضاة متخصصين وحدهم، إذ لا بد من مشاركة أفراد المجتمع في القضاء، كما هو الحال في فرنسا وألمانيا بعد أن تخلت عن نظام المحلفين.
4- نظام المحلفين: يعد نظام المحلفين إحدى صور المشاركة من قبل المواطنين في سير العدالة، وتكثر هذه المشاركة في المجتمعات الغربية وبخاصة في الدول التي تأخذ بالنظام الأنجلوأمريكي.
ويختلف العلماء في تحديد البداية الحقيقية لنشأة هذا النظام، ومنهم من يعيده إلى عهد شارلمان، وقد تمسك الشعب الإنجليزي به كتقليد عريق، وليس نتيجة لنظرية قضائية، أما في الولايات المتحدة فقد شاع هذا النظام حتى غدت المحاكمة وفق نظام المحلفين حقا دستوريا لكل مواطن.
والمحلفون هم مجموعة من المواطنين يدعون للجلوس في مجلس القضاء لسماع الدعوى ومساعدة القاضي أثناء عرض الدعوى، ومن ثم إصدار قرارهم في وقائعها من حيث تقديرهم لمدى ثبوت الواقعة، ومدى إذناب المتهم، وليست لهم أي صفة عامة، فالقاضي هو الذي يتخذ قرار الحكم بنفسه. ومن هنا عرفت دائرة المعارف البريطانية المحلفين بأنهم مجموعة من الرجال العاديين المحليين يدعون رسميا للإجابة عن بعض الأسئلة بعد حلف اليمين. وينقسم المحلفون إلى فئتين هما فئة محلفي الاتهام Grand Jury ويعرفون بهيئة المحلفين الكبرى، ومهمتهم التحري عن الجرائم وتوجيه قرار الاتهام.
وفئة محلفي المحاكمة Petty Jury ويعرفون بهيئة المحلفين الصغرى وينحصر دورهم في تحديد ما إذا كان المتهم مذنبا أم لا Guilty or not Guilty ويتم اختيار المحلفين من قبل الجهة القضائية التي ستستعين بهم، ولا بد من توفر بعض الشروط في المحلف مثل جنسية الدولة، وألا يكون أميا، وألا يزيد سنه على ستين، ولا يقل عن إحدى وعشرين سنة، وأن يكون حسن السمعة، وأن تكون صحته مناسبة لأداء هذه المهمة، وألا يعمل زوجين في هيئة واحدة.
ثانيا : من حيث الصراع التنظيمي والمهني في المحاكم:
توجد الصراعات البنائية والوظيفية داخل أي تنظيم اجتماعي مهما كان نوعه، وقد اهتم العلماء بدراسة أنماط الصراع Conflict والكشف عن مظاهر الخلل الوظيفي Dysfunctional Aspects ومما لا شك فيه أن الفاعلية والكفاءة داخل التنظيمات تتأثر بشدة هذا الصراع، لأن العوامل داخل النسق، وكذلك العوامل الخارجية مثل الظروف السياسية والاقتصادية تمارس ضغوطا متعددة على التنظيم قد تعيقه عن تحقيق أهدافه، والمحاكم من ضمن هذه التنظيمات.
ومن أشكال الصراعات هذا الصراع بين القضاة، والصراع بين العاملين في المحكمة، والصراع بين القضاة والمحامين، ورجال الأمن وهيئة المحلفين Juries وقد أظهرت عدد من الدراسات، ومنها دراسة بوجوش ودانت Danet Bogoch وأوبار Obarr عن وجود مظاهر للسيطرة إلى جانب الصراعات، ومنها سيطرة المحامين على المتهمين داخل المحكمة التي تطغى على الاهتمام والاستماع إلى رغباتهم ووجهات نظرهم تجاه قضاياهم وأساليب محاكمتهم وطرق اتهامهم من قبل أجهزة الادعاء، وقد كشفت هذه الدراسات أيضا عن أن عملية توجيه الأسئلة تظهر ممارسة القوة Power والضبط Control على المتهمين، وعلى الشهود Witness أيضا.
وربما أثرت هذه الممارسة على درجة تماسك المتهم والشهود وترتيب أفكارهم وعرض ما لديهم، وبالتالي على مجرى العدالة، فعلى سبيل المثال يطلب القضاة أو المحامون الإجابة عن الأسئلة ب (نعم) أو (لا) دون إتاحة الفرصة للتفسير أو التعليق من جانب المتهم أو الشهود، وهذا يثير الخوف والقلق، لأنه إذا ما تجاوز المتهم أو الشاهد هذه الإجابة وصف تصرفه بعدم الالتزام وإشاعة الفوضى. وكشفت دراسة لألبرت ريسس A.Reiss ودافيد بورديه D.Bordua عن وجود أشكال أخرى من الصراع التنظيمي والمهني داخل المحاكم، فهناك صراع مستمر بين القضاة والمحامين وممثلي الادعاء من ناحية والأجهزة الأمنية (البوليس) من ناحية أخرى ناتجة عن تفسيرات كل فئة لقواعد التشريع حيث يسعى القضاة والمحامون إلى التقليل من حجم القوة التي تتمتع بها الأجهزة الأمنية، وتؤثر بها على سير العدالة أحيانا، ومن جانبهم يرى رجال الأمن أن النظام القضائي غير كافٍ لمنع الجريمة أو الحد منها لذلك يرون ضرورة منحهم سلطات أوسع للقبض بدعوى الاشتباه بقصد التخويف وممارسة الضغوط المستمرة على عصابات الإجرام.
إن مظاهر السيطرة والصراع التنظيمي المهني داخل المحاكم تعكس كثيرا من المظاهر البنائية الوظيفية، وقد أطلق عليها روبرت ميرتون R.Merton مظاهر الخلل التنظيمي Disorganizational الذي يعكس عددا من الوظائف الظاهرة Manifest functions والوظائف المستترة أو الكامنة Latent functions يضاف إلى ذلك ما قد يوجد من صراع بين السلطة القضائية وجماعة الضغط السياسية والسلطة التنفيذية، وكلها من مكونات البيئة الخارجية عن الأنظمة القضائية. ومن الدراسات الرائدة في هذا المجال دراسة بلومبرج Blumberg التي ركز فيها على مشكلة تراكم القضايا ووصفها بأنها مشكلة بيروقراطية كبرى تعاني منها المحاكم في كثير من الدول، ويرى أن هذه المشكلة تنتج صعوبة الفصل في القضايا بصورة حقيقية وموضوعية، الأمر الذي يثير شكوكا كبيرة في سير العدالة وتحقيق الأداء القضائي بنزاهة، ويمكن الخروج من تحليل الدراسات التي تناولت الصراع التنظيمي والمهني في المحاكم بعدد من الاستنتاجات على النحو الآتي:
1- وجود أنماط متعددة من التفاعل والصراع والتعاون والطاعة والامتثال والسلطة داخل المحاكم، وهذا يعني أن للمحكمة تنظيما يمكن أن يوجد فيه من عوامل الفشل والنجاح ما يوجد في أي تنظيم آخر.
2- عند دراسة المحاكم لا يمكن الاعتماد على الإحصاءات الرسمية الصادرة عن المحاكم، بل لابد من استخدام أدوات ومناهج تعتمد على الملاحظة المباشرة والمقابلة مع القضاة والمحامين ومختلف العاملين بالمحكمة لجمع المعلومات الأقرب إلى الواقع.
3- هناك حاجة ماسة لدراسة تقسيم العمل Division of labour
داخل المحاكم للتعرف على كيفية الإعداد للمحاكمات وكيفية إجراء المحاكمة وإجراءات ما بعد المحاكمة بما في ذلك التنفيذ، ومن المفيد الكشف عما إذا كان هناك اختلافات في الأحكام تبعا للطبقة الاجتماعية والمهنية والعنصر والوضع الاجتماعي.
4- ينبغي التفريق أثناء المحاكمة بين القضايا الجنائية العنيفة وغيرها من القضايا المدنية والمخالفات، ذلك لأن كثيرا من القضايا يمكن البت فيها بسرعة لكونها لا تحتاج إلى دفاع طويل أو طلب استئناف.
5- لما كانت المحكمة تنظيما كغيره من التنظيمات داخل المجتمع فمن المؤكد أن العامة ووسائل الإعلام يؤثرون على سرعة إصدار الأحكام وبخاصة في الجرائم التي تهم المجتمع كثيرا.
6- تتطلب دراسة العمليات التنظيمية والإجراءات داخل المحاكم تحديد القواعد المهنية الوظيفية التي تحكم العاملين، وتحديد الموارد المتاحة للأجهزة القضائية، ومقدار الوقت الكافي لدراسة كل قضية والبت فيها، وعملية إعداد القضايا وعرضها وكيفية تفسيرها من الناحية التشريعية والقضائية.
إن بروز المحكمة كتنظيم في العصر الحديث يتطلب تقييم كفاءة وفاعلية المحاكم في تحقيق الأهداف التي وجدت من أجلها، ومن المؤكد أن قياس إنتاجية القضاة والهيئات المهنية والقانونية في المحاكم وتقييم النظام القضائي برمته ليس بالسهولة نفسها التي نستطيع بها إجراء هذا القياس والتقييم في المصانع والتنظيمات الأخرى.
يضاف إلى ذلك أن الدراسات التي تناولت أنماط الكفاءة Effectiveness والفاعلية Efficiency للمحاكم كتنظيمات محدودة جدا، ومع ذلك فمن المهم هنا تصنيف دراسة وتحليل كفاءة وفاعلية المحاكم إلى ثلاثة مستويات هي: تقييم النظام القضائي ككل، تقييم المحاكم، تقييم القضاة، ويأتي هذا التقسيم بغرض التوضيح وليس الفصل بين هذه المستويات فصلا تاما لكونه يصعب إجراء مثل هذا الفصل بسبب ما يوجد بينها من تداخل وملامح مشتركة:
المستوى الأول: تقييم النظام القضائي ككل:
وفي هذا المستوى نجد كثيرا من الانتقادات الموجهة للنظام القضائي في مختلف المجتمعات، وقد ظهرت هذه الانتقادات بقوة في إطار حركة الدفاع الاجتماعي التي تزعمها كل من جراماتيكا ومارك آنسل، فهذه المدرسة حاولت الجمع بين أمرين لا يخلوان من تنافر، ألا وهما عملية إصلاح وتأهيل المجرمين، والمحافظة على حق المجتمع في إنزال العقاب بهم، والدفاع عنه بالصورة النظامية الزاجرة والرادعة، وترى حركة الدفاع الاجتماعي أن ذلك لن يتحقق إلا من خلال التطوير التشريعي Legislation Development والعمل على تحقيق مستويات أفضل من التنمية الشاملة Comprehensive Development بشرط اعتبار عملية التنمية التشريعية جزءا رئيسا من عملية التنمية الشاملة.
كان من أفضل الدراسات وأكثرها موثوقية في هذا الجانب دراسات ماكس فيبر ذلك لأنه عمل لسنوات طويلة في المحاماة والقضاء في ألمانيا، لقد عرض في دراساته كيفية انتقال القانون من المراحل الكارزمية Legal Charismatic stage إلى المرحلة العقلانية Legal Rational stag وتطرق فيبر لعمليات التغير التشريعي ضمن نظريته الرائعة عن التغير والفعل الاجتماعي Social Action Theory واهتم أيضا بعقلنة التشريع Rationalization Process وشدد على حقيقة وجود علاقة قوية بين التشريع والنظام السياسي والاقتصادي والديني والأخلاقي.
ويؤكد إيرول جنيكنز I.Jenkins أن عملية تحديد وتقييم الكفاءة التشريعية لا تظهر من خلال القوى التي يعتمد عليها التشريع في تنفيذ أحكامه وقواعده، بل من خلال زيادة معدلات الوعي الفردي والجماعي، والتقبل الاجتماعي لأهداف التشريع كنظام اجتماعي، وهذا التقبل هو الذي يعطي للتشريع شرعيته.
المستوى الثاني: تقييم المحاكم:
لقد استندت أشد الانتقادات للمحاكم عل نتائج الدراسات التي حللت عمليات الإنجاز القضائي The Performance Processes ،وكذلك الدافعية وتحقيق الأهداف أو الغايات التنظيمية، إلى غير ذلك من المتغيرات التي تمت مضاهاتها بغيرها من المتغيرات وعمليات الإنجاز في التنظيمات الأخرى، وإن تعذر في كثير من الأحيان قياس هذه المتغيرات في التنظيم القضائي بشكل مباشر ودقيق بسبب بعض الصعوبات الإجرائية في بدايات الاهتمام بدراسة المحاكم، لكنه مع مرور الوقت استطاع بعض الباحثين التغلب على هذه الصعوبات، ومنهم أستاذ القانون بجامعة شيكاغو فرانك إيستربروك F.Easterbrook فقد أجرى دراسة لتقييم المحكمة العليا في الولايات المتحدة الأمريكية حيث استطاع تقييم المحكمة من خلال المبادئ العامة التي تستند إليها في اتخاذ قراراتها، فقد وصف بعض هذه القرارات بعدم الدستورية Inconsitent Decisions لكونها لا تقوم على المبادئ الشرعية التي حددها التشريع، كما انتقد الإجراءات المستخدمة في إصدار القرارات لوجود مؤشرات تجعل الظن يغلب بأنها قد تأثرت بالضغوط الخارجية The Externalities يضاف إلى ذلك نقده لعملية الإنجاز The Performance في المحكمة كتنظيم As Institution بسبب استقلالية الكثير من الفئات المهنية داخل التنظيم عن بعضها، وضعف قنوات الاتصال بين الأفراد المهنيين، وتراكم القضايا، والنقد الأخير في نظر إيستربروك من أهم مصادر تقييم الكفاءة القضائية. وعلى الرغم من صواب هذا التقدير لأهمية النقد الأخير هذا إلا أن إصدار أحكام وقرارات قضائية غير دستورية (نظامية) نقد يجب أن يأتي - من وجهة نظرنا - على رأس الانتقادات الموجهة للقضاء ذلك لأن المحاكم وجدت لتعمل وفق الدستور وتفعيل مواده في حيادية ونزاهة وانضباط، ومما يدعم وجهة النظر هذه أن إستربروك عاد ليؤكد على أن من مظاهر عدم الدستورية في القرارات والأحكام القضائية أن تصدر بناء على مبدأ التصويت Voting Principle ورأي الأغلبية Majority Opinion يضاف إلى ذلك ما يوجد من عجز في عنصر القيادة المهنية، وسرعة وسهولة تغير آراء القضاة وغيرهم من المشتركين في المداولات، وهذا نقد وجيه لأنه يجب ألا يصدر الرأي منذ البداية إلا وهو يحمل عناصر قوته وبقائه المستمدة من النظام (القانون).
ولما كان النقد دون تضمين البدائل أو الاقتراحات يعد مثلبا من مثالب النقد والتقييم فقد طرح إيستربروك عددا من المقترحات التي يرى أنها تعزز عمليات الإنجاز وتزيد الكفاءة والفاعلية القضائية وتساعد على اكتشاف العمليات غير وظيفية داخل المحاكم، ومن هذه المقترحات:
1- تطوير مستويات الإنجاز للهيئات القضائية.
2- أن يصبح كل قاضٍ مسؤولا عن قراراته مباشرة.
3- أن تكون الظروف والعوامل المؤدية إلى اتخاذ القرارات القضائية مرضية لجميع القضاة من خلال كونها تستند على قاعدة دستورية قوية وواضحة.
4- أن تخلو القرارات من كل تناقض منطقي وعقلي.
5- أن يعطى للقضاة دور رئيسي في عملية تطوير التشريع.
ونحن نعتقد أن هذا الاقتراح مهم جدا لأن القضاة قد اكتسبوا بالضرورة خبرات قوية وأكيدة من خلال التطبيق العملي وتفعيل مواد الدستور على خلاف المشرع الذي وضع القاعدة الدستورية دون أن يمارس متطلبات تطبيقها أو يعاني من صعوبات تكييف الواقعات بناء عليها.
6- تعد المناقشات أمرا ضروريا لتطوير النظريات الدستورية بالتزامن مع تطوير النظريات السياسية ونظريات رفع الكفاءة الإنتاجية في مختلف المجالات.
من الواضح أن دراسة إيستربروك ومقترحاته تأتي في صميم عملية تطوير المحاكم، لكن ما يؤخذ عليه أنه رأى بعد كل هذا أن عملية التطوير هذه نوع من الخيال Utopia يمكن تحقيقه من خلال المناقشات التي قد تبدو خيالية هي أيضا. كما يؤخذ عليه أنه يربط بين تطوير نظريات التشريع وتطوير النظريات أو الممارسات السياسية الأمر الذي يجعل اقتراحه هذا غير قابل للتطبيق سوى في مجتمعه والمجتمعات المماثلة له من الناحية التشريعية والسياسية كي يتحقق هذا التطور المتوازي، ومن الإجحاف أن يكون التطور التشريعي تابعا للتطور السياسي، وإن كان في الأمر شيء من المنطق، وبخاصة في المجتمعات التي يعاني التطور السياسي فيها من الشلل أو العطب.
المستوى الثالث: تقييم القضاة:
في الحقيقة أنه لا توجد جدوى من إصلاح المنزل والمحافظة على صلاحه إذا كان بين ساكنيه معتوهون وفاسدون ومتخلفون، وبالمثل فإنه لا جدوى من إصلاح أي تنظيم قضائي دون الاهتمام بفئة القضاة ضمن عملية الإصلاح هذه، فالقضاة هم الذين يتخذون القرارات والأحكام القضائية في المحاكم على مختلف مستوياتها. ونحن نستند في وجهة نظرنا هذه إلى عدد من آراء علماء الاجتماع الذين وصفوا طبيعة العصر الحديث بعصر التخصص العقلاني الذي يعتمد على الترابط القوي بين التعليم الكفء والتدريب المقتدر Education Training كأساس لاكتساب الخبرة والمهارة، وهذا هو ما أكد عليه ماكس فيبر عند تحليله لكل من فئة القضاة والمحامين، وكيفية تحديث النظام القضائي عن طريق هذه الفئات المهنية المتخصصة الذين أسماهم بخبراء القانون Experts of law الذين يفترض أنهم ظهروا كواحدة من نتائج التغير والتحديث في كافة النظم الاجتماعية، أو هم بالأحرى مطلب حيوي لعقلنة النظم وفي مقدمتها النظام القضائي.
إن الاهتمام بدراسة فئة القضاة مطلب إنساني وأخلاقي وحضاري، وقد كان هذا أحد المجالات التي طرحها أحد أساتذة القانون بجامعة توبيجين Tubingen الألمانية مهتما بالدور الإيجابي والدور السلبي للقاضي ليوضح الفرق بينهما وكيفية الاهتمام بالدور الإيجابي من أجل زيادة إنتاجية القاضي في مجال إصدار القرارات والأحكام القضائية، وتفسير المواد النظامية على حد سواء.
وقد استخدم عددا من المقاييس والمناهج لدراسة مدى توفر الدور الإيجابي للقاضي، ومنها الملاحظة، وعقد المقارنات الميدانية، وتحليل المستوى المهني للقضاة، وعوامل ترقية دورهم المهني والوظيفي، وطبيعة السلوك المهني القضائي ومدى توفر متطلبات هذا السلوك لديهم. وبالإضافة إلى ذلك يمكن أن يكون من ضمن هذه المقاييس مدى التزام القاضي بالسلوك المهني الذي يجب عليه، ومدى تقبله لأنماط المساعدات المهنية الأخرى، ومدى اعتماده على الشواهد والأدلة، وقدرته على التقييم الموضوعي والواقعي للمواقف قبل إصدار القرار أو الحكم القضائي، ومدى إسهامه في تطوير التشريع وتعزيز العدالة في المحاكم، وقدرته على إدارة التفاعل بين المهنيين والإداريين العاملين تحت إشرافه، وتحقيق الضبط والاتصال بينهم، وتخفيف عوامل ومظاهر الصراع لديهم، وقدرته على توظيف كافة المعطيات العلمية في شتى المجالات لتحقيق وتسيير العدالة القضائية.
يسلمنا كل ما سبق إلى الاقتناع بأن القضاء في كل المجتمعات، والمحاكم بخاصة، تنظيم كغيره من التنظيمات في المجتمع، يمكن أن يعتريه الخلل والفشل، والتقصير العارض والمتعمد، وعدم الكفاءة في التنظيم والأداء، وعدم التأهيل والإعداد الجيد، والصراع ومظاهر الهيمنة، والفساد بشتى أنواعه ومختلف صوره. وهذه القناعة تؤدي بنا بالضرورة إلى الدخول في مجال الإصلاح القضائي Judicial Reform ،وسأناقش هذا الإصلاح في أربعة مطالب على النحو الآتي:
أولا- الإصلاح القضائي في إطار عملية الدفاع الاجتماعي:
ليست إسهامات حركة الدفاع الاجتماعي مقتصرة على علم الإجرام والسياسة الجنائية، بل هي فتح جديد وشامل في علم الاجتماع الحديث، فقد أحدثت تغيرات جذرية في الإصلاح القضائي، والنظام العقابي، والمؤسسات الإصلاحية، ومختلف الأنساق التعليمية والمهنية والثقافية للفئات العاملة في هذه المجالات وبخاصة القضاة والمحامين ومخططي السياسة الاجتماعية والجنائية في العصر الحديث. وعلى الرغم من حداثة حركة الدفاع الاجتماعي إلا أنها لم تنفصل كلية عن الماضي الفلسفي والأخلاقي للعصور القديمة والوسطى، وربما كان هذا هو سر نجاحها فالقيم لا تزول سريعا بل تتناقلها الأجيال وتظل تضرب بجذورها في أعماق الفكر والأدب والنظم والثقافة بشكل عام، والتشريعات والنظم ما هي إلا صدى أو تجسيدا للقيم السائدة في المجتمع، وأي تنظيم أو تشريع لا يستند على هذه القيم ولو في صورة جزئية، فإنه يفقد أهم مكونات بقائه وهو القبول والرضا الاجتماعي، ولو ضربنا مثالا على ذلك بالتشريع الذي تفرضه سلطة محتلة أو ظالمة لوجدنا أنه لا مكان له في قلوب أفراد المجتمع، وإن امتثلوا له قسرا،
وبمجرد زوال هذه السلطة يصبح ذلك التشريع أقل من سقط المتاع، بل ويتحول إلى محفظة التاريخ كذكرى مؤلمة وتجربة سيئة فرضتها الظروف المصاحبة لتلك السلطة.

يتبع


[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][الأرشيف][الجزيرة]
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الىchief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الىadmin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت
Copyright, 1997 - 2002 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved