Monday 31th May,200411568العددالأثنين 12 ,ربيع الثاني 1425

     أول صحيفة سعودية تصدرعلى شبكة الانترنت

انت في "حدود الوطن"

حدود الوطن حدود الوطن
القريات بوابة الوطن
قراءة في ذاكرة الوجوه والأمكنة
حمّالية (أبو حسن) والحجة الأولى لأهالي القريات على سيارة

  **حلقات يكتبها - سليم صالح الحريص - تصوير - حمدان حسين:
**** كثيرة هي مرايا الذكريات.. مرافىء ترسو فيها مراكبنا.. نلتقط فيها أنفاسنا.. نرمي بتعبنا على أرصفتها.. كي نرتاح قليلاً ونبدأ رحلة أخرى مع الأيام.. في مركب الحياة.
هنا، وعلى بعد خطى من الجمعية التعاونية جنوباً تطالع إحدى الشاحنات القديمة حبيسة الأسوار.. تقف شاهداً على أحداث.. مؤرخة وتختزن الكثير من القصص، ومحتفظة بالعديد من الصور، لم تكن هذه الشاحنة إلا تلك السيارة التي قدمت للقريات عام 1369هـ التي دخلت تاريخ القريات من ذلك الباب الواسع، إذ نقلت حجاج القريات ولأول مرة في حياتهم لأداء مناسك الحج، إذ لم يكن يتوفر لديهم من وسيلة نقل إلا الإبل، أو السير على الأقدام في رحلة مضنية وشاقة تبدأ من بعد عيد الفطر مباشرة، قد شكلت هذه السيارة نقلة نوعية في وسائط النقل للأراضي المقدسة وأسست لمرحلة جديدة في حياتهم، قد حرص مالك السيارة الأستاذ إبراهيم حبرم وهو ابن (الحاج محمد حبرم عليه رحمة الله) ذلك الوجه المشرق بالإيمان، واللسان العفيف والقلب العامر بالتعبد وطاعة الله (ولا أزكي على الله أحدا) وقد عرفته منذ صغري في تواصله وعلاقته مع والدي- رحمهما الله- عطوفا صافي السريرة طيب المعشر، كما عرفه كل أبناء القريات حاضرة وبادية.
أقول حرص على هذا الشاهد ليؤرخ لمرحلة مهمة، ويبقى أثرا يحكي للأجيال المتعاقبة عن حقبة مضت من عمر منطقتهم.. وكيف كانت الأحوال والظروف فيها.
السيارة أعرفها، وكذلك صاحبها، وقد حملت ذاكرتي الكثير.. رأيتها في طفولتي حين كان يحتضنها المناخ في قريتي.. ورأيتها، وهي تتهادى مع طريق (الملك سعود قرب رجم مفرّج)، وذلك الصوت (الزامور) الذي يطلقه (أبو حسن) ليعلم سكان القرية بأنه قادم و(الحمّالية) مشحونة بما ينتظرونه، وذكرتني وتذكرت ذلك الأمس المبهج، وتناسلت أمامي صور ما كانت تحمله من خيرات للقريات، وهي قادمة من الأردن.. حدثتها عن ذلك اليوم.. لكنها صامتة.. إنها قطعة من حديد لا تحس بهمسي قلت:
بقيت وأبقيت ذاكرة لجيل.. وأنت الآن خارج الذاكرة.. كنت تحملين لنا كل خير.. قد حملت فرحنا وطفت به بين القرى.. نبت عن الأهل في حمل المتاع وأراحت أجسادهم وأقدامهم من الارتحال وسط قفار الأرض.. أنت باقية حية.. لكن من حملتيهم أين هم؟؟
انطفأت وأنت من كنت تملئين فضاءنا.. وسكنت عيوننا.. من يذكرك، ومن يتذكرك!! هل بقي منهم أحد؟ انه الخريف المتعب.. تساقطت أوراق كثيرة وغابت وجوه كثيرة، وتلك الجذوع النضرة بخضرة جريدها استحالت إلى حطام.. إلى هم وتغيرت ملامح بلدة عرفتك وسرت بين طرقاتها ذات يوم.. قد طحنتنا الأيام، وبقيت أنت شامخة.. مضى يومك واستحلت إلى أثر يُحدث.. مضت أيام أفقدتنا الذاكرة.. لم تعد لدينا ذاكرة..!! لا نريد أن نتذكر.
في أي اتجاه تخطو.. تشاهد بقايا ومعالم للأمس.. على مرمى حجر تشاهد (الخزان) أو كما كنا نسميه آنذاك ب(الحاووز) والخاص بمشروع المياه الذي نفذ بالقريات كأول مدينة شمالية تحظى بمشروع كهذا لنقل المياه عبر شبكة منظمة وليغطي أحياء المدينة في ذلك الوقت، وبلغت تكلفة المشروع آنذاك مائة ألف ريال (100.000) ونفذته شركة الراشد، كان هذا في أوائل الثمانينيات الهجرية.. بقي الخزان معلما لكن الماء شح، والمواسير أصيبت بالصدأ وتآكلت وانتهى المشروع.. إلى ذاكرة محفوظة.
في حضرة الاستيقاظ ترى الوجوه التي تغيّبت.. وتقرأ الصفحات المتاحة بتأنٍ علّ النهار يتمرد.. قد يطول.. قد يكسر (حدودة الزمنة).. قد يتجاوز حدود غفوتنا.. لتشرع الأبواب كي ندخل في فضاء أمسنا.. نستعيد من زمننا المفقود لحظات نستعيد فيها حلمنا الذي تشظّى.. ذاب.. أحرقنا فيه أوراق عوزنا.. قد كان حلما أضأنا فيه ظلمة ليل، وأنرنا فيه فتائل الخيال، وأسرجنا للعاطفة أحصنة السبق.
هنا غار (العمة) قبالة مبنى شرطة القريات.. كان نائيا عن الناس.. بعيدا على الأقدام لأن تصله.. وها هو اليوم محاط بالعمران.. بالتمدد.. محاط بالبناء.. هنا كانت وجوه تلتئم عند كل مساء في هذا المكان.. لتبث في جنباته نبض الحياة.. وتكسر حدة الصمت بإضاءات الأنس. أناس قد أناروا عتمة ليل صيفي بسامرية شقت سواده وتنهد الصبح على إيقاع (طار) صاحب المتسامرين في ترديدهم.
(والبارحة يا مل الزين جاني
محد درى عن سواياه بية)
قد تحول هذا المنتدى إلى مكان موبوء بمياه الصرف.. تركوه، بعد أن تفرق الجميع وطوحت بهم الأيام هنا أو هناك.. لم يعد ذلك المكان.. ولم ترتده تلك الوجوه سكنته الوحدة وعشش في أطرافه الظلام.. وطاب للوحشة سكناه.
على أهداب العين غربا شعيب (حصيدة الغربية) حيث كان له حضوره الزاهي في حياة القريات المجتمعية، فكلما تدفق السيل وفاض الوادي في الرشراشية أزهرت الأرض ونثرت بنوار طلعها، وتحولت إلى مروج خضراء.. وبدلت المسايل ملابس الجفاف، وتزينت بكل ألوان الجمال.. زان للأهل (القيلة) وأن يقضوا فسحة من نهار.. سحابة يوم من أيامهم الربيعية في تلك الأماكن بين غدير و(ثميلة) واخضرار يبهج.. ترى تقاطرهم صوب (غار العويسي) أو (القلات) حيث تتحول الى (برك) من مياه الأمطارطيلة أيام الشتاء والصيف.. أو تحت أشجار (الغرب) النضرة التي افتقدها الوادي اليوم بفعل التجريف الجائر للتربة والعبث غيرالمسؤول بطبيعته, حتى أفقدوا الوادي مكوناته الطبيعية.. تشاهدهم يرتوون من (ثمايل الشعيب)، وحين تتجه صوب الشمال منه تصافحك فيضة الرشراشية.. تعانقك روائح (البابونج) و(الرشاد) والازاهير العطرية الأخرى.. وصور اخضرار الحقول البعلية، وجهد آبائنا وهم يحرثونها ويزرعونها بالحبوب.. تتذكر تلك الوجوه وتلك السواعد التي ما بخلت في الكفاح والعطاء في ظل قلة الحيلة ومحدودية الموارد والامكانات المتواضعة.
** تلاطفك نسائمها الشمالية المعطرة بالنوار.. مثل صباحاتها المتمردة على (الندى).
** ها هي القريات.. أمس.. وأمكنة ووجوه.. وتاريخ لا يخجل منه.
** كثيرة هي الأماكن.. نحملها.. قد تتغير سحنتها بتغير الظروف مثل (إنسان اليوم وواقعه.. وفي ازدرائه للأمس والتنكر له).. لكنك لا تستطيع تغييب صورة ما تذكر.. صور ارتبطنا بها.. نألفها.. نحس بها.. تتدفق الذاكرة عنها.. تشعرنا بالانسجام.. بالراحة.. ونحن نتأمل.. تذكرنا.. لنسأل.. هل تغير شيء؟؟
** في الأماكن التي ترتبط معها تجيد محاورتها.. مخاطبتها.. توقظ فيك الحزن وتستحضر الفرح.. تمنحك الطمأنينة.. الانس.. وتشرق على هامتك ومضات الأمس بكل ألوان الطيف.. في طرف الوطن الشمالي (القريات) حيث ترى ما لا يرى في مناطق أخرى.
** يقولون :إن مناطق الأطراف دائما ما تكون أكثر انفتاحا على الآخر..، وهذا ما هو مجسد في القريات.. طينة متجانسة، وإن اختلفت نوعياتها وطباع متأصلة ومجتمع غير منكفئ.. بل هو متواصل مع كل الاتجاهات والتوجهات.. قد أسهم هذا التنوع الذي كان للموقع الدور الأهم في تشكيله.. في بروزه.. خلق ثقافة مغايرة.. مجتمع أكثر تفتحا.. أكثر انصهاراً مع الآخر.. والأكثر تقبلا.. لأنهم يطالعون كل الاتجاهات بلا عوائق.. عقد..
** تبقى القريات المؤثرة والمتأثرة.. جواً وأرضاً وإنساناً.. مكانا شرحا وإنسانا أكثر انشراحا وطباعا تغلب عليها الطيبة إلى حد بعيد.. بعيد.
** جزء مسكون بالأحلام ودهشة تطعمك حد التخمة.. تمنحك منها لذة الافتتان بها وقرى تتناثر على ضفاف واد كان متنعما.. تتراقص كلما هزها برد الشتاء.. تغتسل حين تسقيها الغوادي، وتلثم أوجان أرضها ديمية أرخت هطلها فانساحت أمامك صور الجمال وبهاء المناظر الطبيعية.
** إنسان يعشق أرضه ويهيم بها.. وهذه الأرض أشبهها بالأم.. هي أمنا وهي حضننا الدافئ حين يصافحنا يتمنا.. ويعانقنا عوزنا.. وحين يعيقنا الهم المتسربل فينا..
** لضحكات الفجر هنا حيث يولد النهار مع بعض الوجوه.. احتفالية. طقوس وصور لحقب من أيام.. وسحب من ذكريات وسلال من عشق، تمكن من الأوردة.
** أمكنة كثيرة تستيقظ من سباتها.. ومعالم لم تمت.. لم تأت عليها الأيام وشريط ذاكرة لم يضق بما حفظه.. ترى بقايا نثايل (بير الياس) بين كاف وأم الأجراس.. ألم يرددوا..
الركايب مرّن قليب الياس
وقصر العقيلة تعدنّة
** وتشاهد (أم الأجراس) بمهابتها و(الثغرة) وهي معبر للإبل في رحلة القفل.. و(قبر الحصان) ذلك البئر الدارس و(طيّة أم عياش) وقصص أغرب من أن تصدق.. و(تل رضوى) وما يكتنفه من غموض أثري و(مقل) المتربع على كرسيه في (شامة) الاخضرار وإطلالته المهابة على كل الاتجاهات، وممارسته دور الدليلة لمن أضاع الطريق و(أبو علية)، وما يخفيه من أثر بين حجارته البازلتية حيث كان (الترك) يعسكرون في جنباتها و(حرة المحيضر) وذئابها التي قال فيها (خلف الأذن).
ذيب المحيضر مخضّب عقب ما جاع
مكيّف يلعب على أبو عتابه
** تعود إلى الغرب حيث (الحديثة) التي عمرها الأنباط واستوطنوها وخلدوا تاريخهم بأروع نظم الري وشقوا القنوات تحت الأرض بنظام هندسي فريد.
** تبقى القريات (بوابة الحلم) شمعة (الثغور) وديدحانة الفلا.. كيف تأتي.. كيف تغيب؟؟ وكيف وكيف..؟ تبقى هي إرواء لنا حين نبحث عمن يطفئ ظمأنا.. حيث نحتمي بها من وهج القيظ.. وديعة كأهلها.. متوقدة مثلهم.. حلم ننسج منه الحكايات وإغفاءة على ركبة (جدة) قضت من الليل شطرا في حكاية (المسارة) و(خُرّيفيّة) (السلعو).. في أهازيج الراعي، وهو يخطو بين قطيعة (المستفلي) بين سهول الاخضرار.
** هي حالة من الزهو.. في قلائجها التي تزين جيدها على امتداد خاصرة الوادي وادي السرحان) وفي صور الربيع الذي يكسو وهادها.. تتراقص له كانثناءة غصن (لاطفة) عليل الفجر أو إشراقة مطر وسمي بلل تلالها السود فبدت ضاحكة.. تناجي الغيم الذي غطى سماءها.. طوق خاصرتها فنثر في فلاها حبيبات (البرد) ونثر (القطن الأبيض) الثلج على آكامها.. ابتسامة صبح بهي الطلعة.. بهيج المنظر.. تبتسم الأرض فتعطي لنا.. ما يفتننا بها عن غيرها.. ما يغرسنا بها.. ما يشبثنا بها.
** رحلة بين ذاكرة الوجوه وذاكرة الأمكنة.. العودة إلى الأماكن القديمة.. مثلما هو عنوان ديوان معالي د. غازي القصيبي (العودة إلى الأماكن القديمة).
** من الصعب أن تتذكر كل شيء.. أن ترى الوجوه كلها.. أن تجد الأمكنة، كما عرفتها.. أن تغوص في عمق الحياة هنا.. أن تغترف من النبع.. أن تجسر الفجوة وتردم الهوة.. هي رحلة بين مواطن الذكريات ومراتع الصبا.. أسئلة كثيرة.. موجعة.. موجعة.. أين هي الوجوه التي تذكر، وأين هي الأماكن التي رأيت؟؟ مؤلم أن ترى المكان ولا ترى الوجوه فيه.. تشعر بسطوة الفجيعة وقسوة اللحظة حين تصافح المكان ولا ينكرك.. لا يتنكر لك.. لا يشعرك بوحشته.. ولكن إلى أين تفضي بنا الأمكنة؟؟ وما فائدة أن نذكر أو نتذكر؟ هل هو لمجرد إيقاظ الوجع..؟ هل نستطيع إعادة عقارب الساعة إلى الوراء؟ أبدا.. لن يكون ذلك ممكنا.
** في هذا الركن القصي من الوطن.. الذي عبرته.. ومرت به.. واستوطنته مئات الوجوه كان إكسير الحياة.. رغد العيش.. يتنفس الهواء، ويرى على امتداد البصر.. والإنسان فيه يغرد كيفما شاء.. أناس تجمعوا من كل المنابت في هذا المكان.. فكان عنوانا للنماء.. للبقاء.. في اليوم.. كل الأماكن صارت ذكريات، وحتى والوجوه تاهت مع الأيام، وأصبحت من الذكريات أيضا.. لكننا وبإمكاننا القدرة على أن نصوغ من أمسنا البهي وأماكنه المخصبة ما يستنبت لنا حلمنا الأخضر، وأن ننقش بسواعدنا على خد صحرائنا كل ما هو جميل، وأن نعيد ما هرب منا إلى موقعه.. وأن ننيخ الركاب هنا في فضاء أرضنا.. كي نبقى مستمتعين بتفاصيل حياتنا وتبقى الأماكن والوجوه حاضرة.. تشحذ فينا العزيمة، وتجعلنا أكثر قدرة على المبادرة.. ولنعيد لها ذلك التوهج الذي كان وما زال يتقد تحت رماد الانكسار الذي أوجدناه نحن...!!


[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][الأرشيف][الجزيرة]
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الىchief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الىadmin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت
Copyright, 1997 - 2002 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved