Sunday 6th June,200411574العددالأحد 18 ,ربيع الثاني 1425

     أول صحيفة سعودية تصدرعلى شبكة الانترنت

انت في "الرأي"

ناقوس النصر والحداد في القوقاز ناقوس النصر والحداد في القوقاز
جانبي فروقة

يدق الروس كل عام في التاسع من مايو ناقوس الفرح بانتصار الاتحاد السوفيتي على ألمانيا النازية في الحرب العالمية الثانية بينما تدق شعوب شمال القوقاز ناقوس الحزن في الحادي والعشرين من مايو والذي يمثل يوم الحداد لشعوب شمال القوقاز في ذكرى الحرب الروسية القوقازية الدامية في 21 مايو عام 1864م. والتي تحكي فصولها القصص المروعة عن قصة تهجير وإبادة لشعوب شمال القوقاز. وفي الذكرى السنوية ليوم النصر الروسي على النازية من هذا العام اختلط التاريخان بعضهما ببعض في انفجار القنبلة في إستاد العاصمة الشيشانية غروزني (مدينة الحزن) مما أدى إلى سقوط 32 قتيلاً بينهم الرئيس الشيشاني أحمد قاديروف وقائد القوات الروسية في القوقاز الجنرال فاليري بارانوف بالإضافة إلى العشرات من الجرحى.
وقضية الشيشان ما زالت تشكل تحدياً كبيراً للرئيس الروسي فلاديمير بوتين ولا سيما أنه قبل عدة أيام فقط أدى القسم لولاية رئاسية ثانية وكان قد وعد سابقاً وقبل توليه الرئاسة أنه سينهي الحرب الروسية الشيشانية في غضون أيام معدودة.
إن العنف يولد العنف ولا يخرج السلام العادل من تحت عباءة الحرب، والملف الشيشاني يحكي قصة جرح لم يندمل في القوقاز، فلم ترصد عدسة مصور أو قلم محرر مجازر في القوقاز ووحشية الروس خلال الحرب الروسية القوقازية التي امتدت رحاها لقرنين من الزمن وطوى التاريخ كعادته بين غياهبه دراما فناء الكثير من شعوب شمال القوقاز وتهجيرهم القسري عن وطنهم الأم.
تمتد سهول وجبال القوقاز الخضراء على شكل شريط يمتد من البحر الأسود إلى بحر قزوين مشكلة حاجزاً وفاصلاً طبيعياً بين أوروبا وآسيا، ومن يزور منطقة القوقاز (القفقاس) يدرك نفسه في جنة خضراء أبدعتها يد الخالق (ويطلق علها المؤرخون لقب جنة الله على الأرض) وكان يقطن تلك الجبال قبائل من الشراكس الذين كتب عنهم الرحالة الإيطالي جيورجيا انتريانو ( من رحالة عصر النهضة في القرن 13- 14 ميلادي): يطلق على سكان القوقاز اسم Zikhs (زيخس) في اللاتينية ويطلق التتار عليهم اسم (الشراكس) (circassian) وبينما هم يدعون انفسهم بالأديغة، والأديغة تنقسم إلى قبائل من الشابسوغ الوبخ (الذين انقرضوا) والبجدوغ والأبزاخ القبرطاي والأبخاز وينضوي تحت لواء الشركس الشيشان، الداغستان أيضاً، ويعتقد علماء الآثار أن الناس ظهروا في مناطق شمال القوقاز قبل حوالي 870 ألف عام في بداية العصر البرونزي.
لم تسلم القوقاز من نوائب الغدر ويعود مسلسل دراما الصراع في القوقاز إلى القرن الرابع قبل الميلاد في اهتمام وغزو البيزنطيين للمنطقة ونشرهم المسيحية فيها، وفي القرن العاشر الميلادي عام 971م قامت فرقة من الروس السلاف بالتحرش على الحدود مع شعوب شمال القوقاز ومات حوالي 55 ألف شخص في هذه السجالات. وفي القرن الحادي عشر وقعت مجزرة بين الشراكس والروس (حيث كان قائدهم الأمير مستيسلاف) راح ضحيتها أكثر من 20 ألف شخص من الشراكسة وبعد هذه الحادثة اعتصرت الأطماع والغزوات منطقة القوقاز عبر الزمان وعلى مر القرون وذلك يرجع إلى الأهمية الاستراتيجية الجغرافية والاقتصادية للمنطقة من حيث إن جبالها موانع وحدود طبيعية فاصلة بين القارة الأوروبية والآسيوية. ولموقعها الاستراتيجي المطل على المنافذ البحرية التي تشكل للروس أهمية كبرى وكون القوقاز سلة زراعية كبيرة ومبشرة باحتوائها على مكامن الثروات الطبيعية من ماس ونفط وغاز والتي ظهرت خلال القرن الأخير تباعاً، كل الغزوات التي تعرضت لها المنطقة طبعت حياة الشعوب البسيطة القاطنة الجبال بسمة الحرب مما دعا إلى خلق نموذج المحارب القوقازي (المعروف بزيه الحربي الجميل - الممتشق خنجره التي يدعوها قامة وسط خصره) والذي يتخذ من سيفه نديمه ومن فرسه خليله الذي يكن له الوفاء ويعتبرهما رمزين لكرامته.
حتى أن الأطفال الذكور كانوا ينشؤون قبل أن يشبوا عن الطوق بعيداً عن ذويهم في بيوت يستزيدون فيها من فنون القتال وألوانها.
وتعاقبت القرون لتخضع كامل منطقة القوقاز إلى نفوذ السلطة العثمانية في القرن الثامن عشر ففي عام 1742م بدأ الإسلام ينتشر في مناطق الشمال ولا سيما الغرب القوقازي وحاولت روسيا جاهدة أن تتخذ من ذلك حجة لتبرير عملياتها العسكرية في المنطقة بحجة وقف المد الإسلامي لأوروبا في محاولة لزل قدم أوروبا في الصراع بإيقاظ مخاوفها من الإسلام، وحدث التصادم الرئيسي في عام 1772م بين قوات بطرس والأمير الشركسي أصلان كايتوكا وقد حدث الصدام في قلعة كزلر للروس في داغستان حيث كانت تحوي أكثر من عشرة آلاف جندي ووقع العديد من القتلى بين الطرفين وانسحب الروس، وخلال حقبة حكم كاترينا الثانية تم إرسال جيش قوامه 120 ألف إلى القوقاز وحصدت المعارك 30 ألفاً من الشراكسة وفي عام 1774م أرسلت الإمبراطورية العثمانية جيشاً للمساندة إلى القوقاز ولكن الوقت كان متأخراً جداً وكان الروس قد استولوا على الكوبان وشبه جزيرة التامن وعادت القوات العثمانية بدون ان تدخر أي جهد في محاولة لاستعادة الأرض القوقازية واستمر هذا الوضع حتى عام 1794م حيث تم توقيع معاهدة بلغراد التي تم الاتفاق فيها بين الروس والسلطنة العثمانية على ضمان استقلال المنطقة ولكن لم تذق المنطقة نعيم الاستقلال.
تأرجحت القوقاز بين جذب العثمانيين ومصالحهم ومقارعة الروس بإمبراطوريتهم المدججة بالسلاح والعتاد لما يزيد عن مائتي عام وفي عام 1808م تم منح السلطة العسكرية في بطرسبرج اليد المطلقة للآلة العسكرية لمحق المقاومة القوقازية ونزع السلاح من منطقة القوقاز وإجبار السكان على النزول من الجبال إلى السهول المنبسطة مما يضعف من قدرتهم على المقاومة. وكما تم (بالاتفاق السري مع يد الغدر من الباب العالي للدولة العثمانية) إجبار شعوب شمال القوقاز (الشراكسة) على النزوح إلى الدولة العثمانية والتوزع في أمصارها.
وفي عام 1829م وافقت السلطنة العثمانية رسمياً على منح الروس كامل الحق في بسط نفوذها على كامل مناطق القوقاز وهكذا لم تسلم شعوب شمال القوقاز (الشراكسة) من غدر إخوانهم في الدين في الدولة العثمانية وتغاضي الدول الأوروبية عما يحيق بهذا الشعب المسكين من مكائد كانت أكبر من طاقته حتى أن اللورد بالمرستون أعلن أمام مجلس العموم الإنجليزي قائلاً: ( لا يعلم هذا الشعب المسكين ما فعلناه به) وفي يوم الحزن والحداد 21 مايو عام 1864م يوم وضعت الحرب أوزارها وتم أسر قائد المقاومة أسد القوقاز الشيخ شامل الذي قارع الروس ردحاً طويلاً من الزمن حاولت شعوب القوقاز التفاوض مع الروس وعلق المفوض الروسي يومها قائلاً: (توصلنا في اتفاقنا مع الأتراك إلى أننا لن نمنع أولئك الذين يودون الرحيل إلى تركيا وأما من سيبقى فإنه سيرحل إلى حيث نشاء).
وفي يونيو من نفس العام أعلن: يجب على كل القاطنين في القوقاز أن يتركوا منازلهم ويرحلوا خلال شهر وإلا سيعتبرون خونة ويهجرون إلى سيبيريا، وتم بالفعل نزوح ما يقارب المليون ونصف المليون شركسي من القوقاز ( استناداً إلى موسوعة المعرفة التركية) وقضى الكثير منهم نحبه في طريق الهجرة (طريق القبور) وقد علق البروفيسور كمال كاربات عضو الجمعية العلمية للباحثين في جامعة ويسكونسن الأمريكية قائلاً: بعد الوصول لأرشيف الحكومة التركية وجدنا انه تم نزوح مليون وأربعمائة ألف قوقازي من شمال القوقاز بين عامي 1859 و 1879م ولم يصل إلا مليون فقط إلى تركيا، وكان المرض والجوع قد حصد الكثير منهم.
واستمرت يد العجن والتمزيق في القوقاز خلال الحقبة السوفيتية التي عملت على خلق كوكتيل عرقي في القوقاز في خلاطة الأيديولوجية الشيوعية وذلك باللعب بمورثات التوزع الديموغرافي للبقية الباقية من شعوب شمال القوقاز وزرع القزق (وهم طبقة الفلاحين والمحاربين من الروس) بين جنبات القوقاز في محاولة لإجهاض أي حلم أو حركة مستقبلية لقيام دولة مستقلة لشعوب شمال القوقاز وعودة المهجرين إليها من دول الشتات.
وحتى بعد ان تقوض عرش السوفييت وأسدل الستار الحديدي على بلاد أصابها الصدأ السياسي اشتعلت نيران الحقد فيها من جديد وورث الروس العرش بكل إرهاصاته وتم انفجار الوضع في الشيشان في حربين خلال العقد الأخير والمنطقة برمتها عامت على بحر من الحقد التاريخي نتيجة الظلم وجذوة القوميات تستعر تحت سطح الحياة منذرة دائماً بتفجر الوضع.
ومنطقة القوقاز الآن تعاظمت أهميتها لسطوع نجم الثروات الطبيعية فيها وتكاثر الذئاب حول وليمتها وروسيا لن تتخلى عن جنوبها المسلم الذي يشكل لها مصدر الخير في المستقبل والذي يمدها الآن بثمره وخيره.
وبدعوى مكافحة الإرهاب الكوني والمتمثل بالإسلاميين المتطرفين في الشيشان حصلت روسيا على التأييد لتفعل ما تريد في الشيشان وهذا ما صرح به المستشار الألماني غير هارد شرودر عقب أحداث الحادي عشر من سبتمبر وخسر الشيشانيون أسهماً كبيرة في قضيتهم من أجل حقهم وعاود مسلسل الصراع أحداثه وكأن التاريخ يعيد نفسه.


[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][الأرشيف][الجزيرة]
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الىchief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الىadmin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت
Copyright, 1997 - 2002 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved