Monday 14th June,200411582العددالأثنين 26 ,ربيع الثاني 1425

     أول صحيفة سعودية تصدرعلى شبكة الانترنت

انت في "الطبية"

د. خالد التركاوي استشاري طب الأطفال. . يطرح الإجابة العلمية للسؤال المُر: د. خالد التركاوي استشاري طب الأطفال. . يطرح الإجابة العلمية للسؤال المُر:
لماذا يولد بعض الأطفال منغوليين؟

  حينما يولد طفل منغولي في عائلة ما، يتساءل الأهل في غمرة حزنهم كيف حصل ذلك؟وهل من وسيلة لمعرفة إذا ما كنا سنرزق بأولاد مصابين بهذا المرض مرة أخرى؟ وغيرها من الأسئلة المغلفة بالمرارة والخوف على مستقبل هذا الطفل المنغولي، لكن ماهي المنغولية؟ وأسباب حدوث أو الإصابة بهذا المرض؟ وسبل تشخيصه قبل وبعد ولادة الطفل المنغولي؟ وعشرات الأسئلة الأخرى التي نطرحها على د. خالد التركاوي استشاري الأطفال وحديثي الولادة بمستشفى الحمادي بالرياض، والحائز على شهادة البورد الأمريكي في طب الأطفال، من خلال هذا الحوار:
* نبدأ بالسؤال ماهي المنغولية؟ ولماذا يولد طفل منغولي؟
- المنغولية هي أكثر أمراض الصبغيات (الكروموزومات) انتشاراً في الإنسان، إذ يصاب به واحد من كل 700 مولود حي، وقد نشر ج.ل.داون J. L. DOWN أول وصف مفصل لهذا المرض عام 1866 وبفضل مقالته تلك ارتبط اسمه بهذا الداء الذي أصبح معروفاً في الأوساط العلمية بمتلازمة داون (كلمة متلازمة هي المقابل بالعربي لكلمة SYNDROME، التي تعني مجموعة مظاهر مرضية تشاهد في سياق واحد، وهي أبلغ في الدلالة على المعنى من كلمة تناذر التي كانت تستخدم سابقاً)، ومع هذا فلم يتم اكتشاف علاقة هذا المرض بالصبغي 21 حتى عام 1959، وليتسنى لنا فهم كيفية حدوث هذا المرض وطرق الوقاية منه إن أمكن، لابد لنا أن نلقي الضوء على بنية الصبغيات وآلية عملها، فالخلية كما نعلم هي وحدة البناء الأساسية في الجسم وتختلف شكلاً ووظيفة باختلاف موقعها والعضو الذي تنتمي إليه، وتحتوي كل خلية في مركزها على مايعرف بالنواة (باستثناء الكريات الحمر التي تفقد نواها أثناء عملية تكونها)، ويتوضع في النواة عدد محدد من الجسيمات تسمى بالصبغيات وهي مايميز كل كائن حي عما سواه بما تحويه من معلومات وراثية (الجينات GENES)، مدونة بلغة كيميائية فائقة الروعة.
ويختلف عدد الصبغيات في خلية كائن ماعنه في خلية كائن من نوع آخر، لكنها دوماً ثابتة العدد في النوع الواحد (أربعون في الفأر، 46 في الإنسان)، وقد تم ترتيب صبغيات الخلية الإنسانية في 23 زوجاً اعتماداً على خواصها الشكلية، وبينما يتشابه صبغياً كل زوج من الأزواج الاثنين والعشرين الأولى (رغم انحدار كل منهما من أحد الأبوين) يختلف صبغياً الزوج الأخير المسؤول عن تحديد الجنس، لذا سميا بالصبغيات الجنسية تمييزاً لهما عن باقي الصبغيات التي دعيت بالصبغيات الجسمية.
وحينما تتكاثر الخلايا سواء للنمو أو لتعويض النسج التالفة (كما يحدث عند اندمال الجروح مثلاً)، تنقسم الخلايا المعنية بالأمر إلى خليتين، وليحدث هذا لابد للخلية الأم من أن تستنسخ المعلومات الوراثية المدونة على صبغياتها بحيث تحتوي كل خلية فتية على العدد نفسه في نواتها، وتتكرر هذه العملية المتقنة مرات ومرات حسب الحاجة ويكون الناتج في كل مرة خلايا تشبه الخلية الأصلية من حيث الوظيفة والشكل والمخزون الوراثي. وتختلف القصة بعض الشيء حينما يتعلق الأمر بإنتاج النطف أو البويضات إذ تنقسم الخلية الأم عبر سلسلة من الخطوات لتنتج خلايا فتية يحتوي كل منها على نصف العدد الأصلي في الصبغيات (ومن هنا جاءت تسمية هذه العملية بالانقسام المنصف)، عندها تصبح النطفة أو البويضة حاملة لثلاثة وعشرين صبغياً بدلاً من ستة وأربعين، وعندما تتحد النطفة بالبويضة يعود مجموع الصبغيات في نواة الخلية الجديدة (البويضة الملقحة) إلى ماكان عليه قبل الانقسام أي ستة وأربعين، وبفضل هذا التعاقب المتكرر من الانقسام المنصف والتلقيح يتاح للكائنات الحية فرصة هائلة للتنوع والتميز مع كل جيل جديد.
وتبدأ مأساة الطفل المنغولي غالباً عندما يحدث خلل في عملية الانقسام المنصف، فتنتج نطفة أو بويضة تحتوي نسخة زائدة من الصبغي الحادي والعشرين مما يرفع عدد صبغياتها إلى أربعة وعشرين بدلاً من ثلاثة وعشرين كما هو مفترض، ولدى اتحاد هذه الخلية الشاذة مع نصفها الآخر ينتج لدينا بويضة ملقحة حاوية على سبعة وأربعين صبغياً، وبآلية لم تكتشف بعد يعمل وجود هذه النسخة الزائدة من الصبغي 21 على إنتاج مظاهر المرض، بل يبدو أن وجود نسخة زائدة من جزء معين من هذا الصبغي (وليس كله) كاف لإطلاق العملية المرضية من عقالها.
* لكن هل ثمة علاقة بين عمر الأم الحامل واحتمالات ولادة طفل منغولي؟
- من الأمور الجديرة بالتأمل ازدياد معدل حدوث المنغولية بازدياد عمر الأم الحامل إذ تصل نسبة حدوثه لدى حامل بعد سن الأربعين 2-5% تقريباً، أما بالنسبة لأم شابة في العشرينات من عمرها، فإن نسبة حدوث هذا المرض تقارب واحداً في كل 1500 مولود حي، في حين لم تلاحظ أي علاقة مشابهة بين سن الأب ومعدل حدوث المرض، ولايوجد أي تفسير مقنع لهذا التفاوت حتى الآن.
* وماهي أبرز الصفات التي يمكن تمييز الطفل المنغولي بها بعد ولادته مباشرة؟
- هذا الداء اكتسب اسمه الشائع للتشابه الكبير بين سحنة المصاب وسحنة المنحدر من أصل منغولي، ويتشابه المرضى به فيما بينهم حتى ليحسبهم الناظر أخوة توائم، ومن أبرز الصفات الشكلية التي تلحظها عندهم صغر الرأس وتسطح القفا وقصر الرقبة وتشوه الآذان مع ارتكازها بشكل واطىء، وصغر الأنف مع انخفاض عند قاعدته، ونعومة الشعر وخفته بالإضافة إلى تشوهات في الكفين والقدمين ورخاوة في العضلات، وليونة في المفاصل وانفتاح شبه دائم للفم مع تبارز اللسان وخشونة الصوت، ولايقتصر الأمرعلى التشوهات الظاهرة بل يتعداه إلى الأعضاء الداخلية كالقلب، كما لوحظ عند هؤلاء المرضى ميل زائد لاضطرابات الغدة الدرقية ولسرطانات الدم، وعدم ثبات المفصل المحوري الأطلسي (وهي نقطة الاتصال بين قاعدة الجمجمة والعمود الفقري).
ولعل أسوأ ما في الداء هو التخلف العقلي المصاحب إذ يتراوح معدل الذكاء لدى المصابين به مابين 25-50%، ونادراً مايرتفع عند البعض إلى قرب الحدود الطبيعية (أي 70% وهو الحد الأدنى للذكاء العادي)، وهؤلاء المرضى المحظوظون يعانون غالباً من شكل خاص من المنغولية حيث تكون خلايا أجسامهم منقسمة إلى خلايا سليمة (46صبغياً) وأخرى مريضة (47صبغياً)، ورغم الإعاقة الذهنية التي ذكرنا، فإن الطفل المنغولي مرح وودود على الغالب، يستمتع بصحبة الآخرين ويشاركهم لعبهم.
والنمو لدى مرضى المنغولية أبطأ منه عند الأصحاء، ويصل أحدهم إلى منتهى نموه في عمر الخامسة عشرة تقريباً، وتتحسن الرخاوة العضلية مع مرور الزمن، إلا أن القدرة على تنسيق الحركات تبقى ضعيفة، ونادراً ماينضج الذكور جنسياً والعقم هو القاعدة لديهم، أما في الإناث فالنضج أكمل وقد تحيض الفتاة وربما أصبحت قادرة على الإنجاب.
* وهل ثمة علاج أو وسائل وقائية من هذا المرض؟
- حقيقة لايوجد علاج شاف حتى الآن والتحسن البسيط الذي يصاحب العلاج الفيزيائي في السنين الأولى من العمر كان مخيباً للآمال على المدى البعيد، وينصب العلاج أساساً على علاج الحالات المرافقة كآفات القلب الخلقية وتصحيحها جراحياً، ومعالجة مشاكل الغدة الدرقية عند حصولها، والوقاية من انضغاط الحبل الشوكي الذي قد ينجم عند تعرض المفصل المحوري الأطلسي إلى الخلع بسبب الرضوض المعتدلة الشدة، ويلعب التدريب المهني وفصول التثقيف الخاصة دوراً كبيراً في إغناء حياة هؤلاء الأطفال ومساعدتهم على تحصيل أقصى مايستطيعون الحصول عليه، وبسبب هذا الإخفاق في حقل العلاج تركز الجهد على محاولة تشخيص المرض قبل الولادة، وإسداء المشورة الوراثية لمن يرزق بمولود مصاب.
* وكيف يتم تشخيص المرض قبل الولادة؟
- يعتمد تشخيص المرض قبل ولادة الطفل على قياس عدة مركبات في دم الأم الحامل إذ يرتفع بعضها (HCG)، وينخفض البعض الآخر (ALPHA FP ,FREE ESTRIOL)، وعلى الفحص بالأمواج الصوتية (USS) وغالباً ماتجري هذه الفحوص مجتمعة لتعطي قدراً أكبر من الثقة بصحة التشخيص.
أما الفحص الدامغ والمشخص للمرض فهو إجراء بزل السائل الأمنيوسي المحيط بالجنين، وأخذ عينة من خلايا الأغشية المحيطة به، ومن ثم معرفة حالة الصبغيات في هذه الخلايا، وتقرير ماإذا كان الجنين مصاباً أم لا.
والسؤال المقلق الذي يطرح نفسه هنا ثم ماذا؟ ماالعمل إذا لم يكن هناك من علاج؟ ماالفائدة من المعرفة المسبقة لمرض الجنين إذا لم يكن باستطاعتنا مساعدته؟ لا توجد إجابة سهلة على تساؤلات كهذه، لكن هذا يقودنا إلى ماندعوه بالمشورة الوراثية.
*وماهي هذه المشورة الوراثية؟
- حينما يولد طفل منغولي في عائلة ما يتساءل الأهل ترى كيف حصل ذلك؟ ولماذا نحن؟ وهل من وسيلة لمعرفة، إذا ما كنا سنرزق بأولاد مصابين آخرين؟ ولإعطاء إجابة علمية دقيقة يجب أولاً معرفة نوع الإصابة لدى هذا الطفل المنغولي فقد أسلفنا أن معظمهم (96%) يولد حاملاً في خلاياه لـ 47 صبغياً (منها ثلاث نسخ من الصبغي 21)، واحتمال ولادة طفل آخر مصاب بالمنغولية في عائلة كهذه لايختلف عنه لدى أية عائلة أخرى وتقدر بـ 1%.
أما الحالات ال 4% المتبقية، فهي حالات ناجمة عن اضطراب صبغي يدعى انتقال المواقع الصبغية TRANSLOCATION، ونصف هذه الحالات أي 2% ناجم عن أب وأم حامل لهذا الاضطراب الصبغي لكنه غير مصاب، وهذه الحالات هي محط اهتمامنا، لأن نوع الاضطراب وجنس الوالد يلعبان دوراً في تحديد نسبة الإصابة مستقبلاً، فانتقال المواقع بين الصبغيين 14و21يتوقع أن ينتقل إلى أجنة الحمول التالية بنسبة 10-15% إذا كانت الأم هي مصدر الاضطراب، و 3-5% إذا كان الأب هو المصدر، ويكون 33-45% من المواليد حاملين لاضطراب الصبغي بدون إصابة تماما كالوالد الناقل للمرض، أما انتقال المواقع بين الصبغين 21و21 فهو يورث إلى كل الأجنة بغض النظر عن المصدر، ويكون الأطفال جميعاً مصابين في هذه الحالة.
وهذا يقودنا إلى توصية مهمة أن ولادة طفل مصاب بالمنغولية يجب أن يكون بداية لبحث منظم يستهدف معرفة نوع الإصابة لدى الطفل أولاً، فإذا وجد أنه من الحالات القليلة الناجمة عن انتقال المواقع الصبغية وجب عندها فحص الوالدين ومعرفة أيهما كان مصدر الاضطراب الصبغي، وماهو نوع الآفة (انتقال مواقع 21 - 14 أو 21 - 21) ثم إسداء المشورة حسب الحال تاركين للوالدين أن يتخذا قرارهما بعد التأكد من أنهما فهما تماماً عواقب ماسيقرران .
*وماذا عن آفاق علاج هذا المرض في المستقبل؟
- كثيراً ما يطرح مثل هذا السؤال بكثير من المرارة، وحيرة تعكس عجزاً عن كنه المجهول فضلاً عن رده، وهذا هو واقع الحال بالنسبة لكثير من الأهل، لكن المستقبل يعد بالكثير، فالبحث العلمي الهادىء والمتأني سيصل بإذن الله إلى إجابات أكثر وضوحاً، ولنتذكر قوله- صلى الله عليه وسلم- ( تداووا عباد الله فإن الله ما أنزل من داء إلا وأنزل له دواء).


[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][الأرشيف][الجزيرة]
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الىchief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الىadmin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت
Copyright, 1997 - 2002 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved