Sunday 27th June,200411595العددالأحد 09 ,جمادى الاولى 1425

     أول صحيفة سعودية تصدرعلى شبكة الانترنت

انت في "الرأي"

الحدث ودورته اليومية الحدث ودورته اليومية
سعود سعد الصعب/الرياض

شمس حارقة.. وسيارات متزاحمة.. أبخرة متصاعده.. وسموم جافة.. ضجة محركات.. وأبواق سيارات في طنين متواصل.. يظهر في مقاعد هذه السيارات.. رجل ينهر أولاده بصراخ ولسان حاله يقول (ليتني بقيت بلا أولاد).. واخر يمسح عرقه بشماغه وعلى وجهه علامات تعب.. تتخللها علامات شوق الى سرير هادئ بارد.. وثالث يحاسب زوجته بعنف. متناسيا تلك الأنثى التي أمضت سنوات في رعايته وتلبية طلباته.. ورابع ممسك بهاتفه المحمول وابتسامة كبيرة معلقة بين شفتيه.. وخامس وحيد.. ينظر إلى مرآة سيارته ويتفقد وجهه متفاديا حدوث أي تغير في بشرته.. (لا قدر الله)..
مجموعة من السيارات تتحرك كسيل جارف.. وبعد دقائق تقف مجموعة أخرى.. في روتين متواصل ومدروس..
يدير هذه المجموعات.. ضوء أحمر.. وضوء أخضر..
السيارات في لحظة وقوف.. والضوء الأحمر يسيطر على من أمامه.. كأنه زعيم وقف شامخا أمام جنوده.. هناك طفل صغير يتجول بين سيارة واخرى.. وحيداً في مكانه.. ملابسه قديمة متسخة.. حافي القدمين.. قد غطى السواد اسفل قدميه الصغيرتين.. فلم يعد يشعر بحرارة هذا الشارع وسخونته.. فاعتياده أزال إحساسه بالألم.. دمعة تجري على خده.. تؤثر في البعض.. وتضحك البعض الآخر.. يطرق زجاج كل سيارة.. وقد وضح على وجهه الصغير ما يحمله صدره من هموم متراكمة.
يستجيب له صاحب السيارة الأولى.. وينهره صاحب السيارة الثانية.. يطرق النافذة على صاحب السيارة الثالثة.. فيشير الرجل بسبابته الى السماء.. وكأنه يقول (الله يعطيك).. ينتقل الى السيارة الرابعة.. يجد شاباً من طائفة حاملي الهاتف المحمول.. يبتسم له.. ثم يفتح النافذة.. ويقول بسخرية (تصدق أن ما معي نص اللي معك).. ثم يقفل نافذته.. ويعود ليكمل مكالمته المستمرة طويلا.. يظهر على بعد امتار قليلة.. رجل المرور.. جامداً لا يتحرك.. باستثناء حركته المعتادة في تعديل نظارته الشمسية.. يتطلع إلى الموقف بطل إمعان وهدوء.. وكأن ما يحصل هو مسلسل يومي.. قد أمضى وقتا طويلا في متابعته.
يختفي الضوء الأحمر.. ويظهر الضوء الأخضر.. تنتشر الحركة في المكان.. فتصرخ الإطارات بشدة.. وتتحرك السيارات بسرعة.. وكأنها في سباق مثير.. جائزته احدى كنوز قارون.. غير مهتمة ببعض الأرواح الموجودة في هذا الازدحام.. ولا مبالية بالطفل الصغير والذي فرَّ بجسده قبل ان تنهيه احدى هذه السيارات.. وتساويه بطريق مرصوف.
ينطلق الطفل الى أمه سريعا في الرصيف المقابل.. فتحتضنه وتقبله.. وتحمد الله على نجاة ابنها.. متجاهلة تماما ما يحمله منظرها ومنظر ابنها.. تسد كل طرق التفكير في حياة أفضل.. وكأنها ليست هي المسئولة عما كان سيحدث لابنها.. وما يحيطها من ذل ومهانة.. ورجل المرور.. لايزال ساكنا.. يكمل ماتبقى من مسلسله اليومي.. يؤدي عمله اليوم فقط.. متجاهلا دوره الإنساني في ردع او حتى توجيه هؤلاء المتسولين.. ربما لا ذنب لرجل المرور في هذا.. فتفكير بسيط من إدارة المرور.. وتنفيذ قرار تعاون بين المرور ومكافحة التسول.. قد يزيل كثيراً من شوائب هذه الطرق.
يعود الجمود.. ويعود الضوء الأحمر.. وتعود أم الطفل لتشير الى ابنها بالعودة الى التسول وكأن ما حصل قبل دقائق هو روتين يومي متوقع.
يعود الطفل إلى نشاطه المعتاد.. بين نافذة وأخرى.. يتلقى بعض الريالات.. ثم بعض السخريات.. وقد تبلد إحساسه.. فلم تعد السخرية والإهانة.. تحرك فيه أي ساكن.. يتحول سريعا.. لينهي مرحلة الضوء الأحمر قبل قدوم الضوء الأخضر.
ظهر اللون الأخضر.. وانطلقت السيارات.. وانطلق الطفل يجري سريعا.. بين سيارة واخرى.. الأم تنظر برهبة وخوف..والطفل يبحث عن مفر ليصل الى الرصيف المقابل وبر الأمان.. ليصل الى أمه.. يجد مخرجا خاليا من السيارات.. ينطلق بكل سرعته.. يحاول عبور هذا الفراغ الخالي.. ثم فجأة.. صوت مكابح سيارة يصرخ بقوة كصرخات أم ضعيفة قد بدأت في عملية المخاض والولادة.. ينظر الطفل الى السيارة وكأنه يمنحها آخر نظرة في حياته.. ثم صوت اصطدام.. فصرخة أنثوية تحمل كل ما تعنيه الأمومة.. ودماء تنزف.. ثم موجة سكون تحتاج المكان..
تنطلق الأم إلى ابنها والصدمة تسري في بدنها.. تحتضنه.. وقد بدأت دماؤه تلطخ يديها وثيابها.. وتعاود الأم الصراخ.. ثم تضع أذنها على قلبه.. فتسمع دقات قلبه في هدوء متقطع.. وأنفاس سريعة.. فيتحول الصراخ الى نشيج.. ثم يتحول النشيج الى بكاء شديد وتلطيم.. وندم واضح.. على هذه اللامبالاة.. ثم اتصال سريع الى الإسعاف.. وتمضي الدقائق تلوالدقائق.. والمشهد لايزال مستمراً.. وعلامات التعجب واضحة.. تجف دماء الطفل.. ويمل المشاهدون المتجمهرون حول الموقف.. اخيرا.. تظهر من بعيد سيارة الإسعاف قادمة.. تتقدم.. كطالب علم حرم من سباته العميق في يومه الدراسي.. تصل سيارة الإسعاف بحمد الله على سلامتها.. وتنقل هذا الطفل.. وقد أصبح جثة هامدة.
إلى هنا وانتهى دوري.. فأنا الحدث المتواصل.. وهذه دورة حياتي اليومية.. في بعض الأماكن.


[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][الأرشيف][الجزيرة]
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الىchief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الىadmin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت
Copyright, 1997 - 2002 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved