Thursday 8th July,200411606العددالخميس 20 ,جمادى الاولى 1425

     أول صحيفة سعودية تصدرعلى شبكة الانترنت

انت في "مقـالات"

دعونا نحلم دعونا نحلم
د. فوزية عبد الله أبو خالد

أصحو على لوعة العمر كل صباح، وأحسُّ الساعات والأسابيع والسنوات تتسرَّب من بين أصابعي دون أن أستطيع ملاحقة تلك الأحلام الجامحة التي تستبدُّ بحياتي مرحلة مرحلة، فيبدو وكأن رياح الوقت تعاندني وتحركها عكس أشرعتي. فتتركني أشق طريقي إلى لحدي وحدي دون صحبة تلك الحزمة الحارقة من أحلام الصحو والمنام التي طالما أكل هاجس الكتابة عنها خلايا كفي.
- في مرحلة الطفولة كان من أحلامي الشخصية أن أصحو وأجد ريشا ملونا كسا لحمي فأحرِّك جناحي، أطير دون أن أحتاج إلى المشي. وكان من أحلامي وأحلام بنات وأبناء جيلي إلى جانب أحلامهم الخاصة الصغيرة حلم مشترك هو تحرير فلسطين واستعادة القدس. هل من لا يزال يذكر ذلك الحلم أو يحمله محمل الاحتمال غير المستحيل؟! ومع أننا لم نكن نعرف عن فلسطين إلا من أولئك المعلمات اليافعات المشتعلات غضبا وحبا لها فقد أصبح حلم تحريرها يضاهي أحلامنا المنزوعة الأظافر التي لم تكن تتجاوز أحلام بعضنا الطفولية بركوب الطائرة أو الذهاب إلى لبنان لركوب التلفريك أو المشاركة في برنامج الأطفال التلفزيوني الأبيض والأسود كبرنامج بابا علي، أو بابا أمين، وبرنامج ماما أسما الإذاعي، أو الحصول على سيكل هدية للنجاح وان يكون عند العائلة سيارة بوكس للصعود على جبل الهدا.
- في مرحلة المراهقة كان من أحلامي إلى جانب حلم أن تكون المدارس بدون حصص وبدون واجبات.. حلم ان اكتشف محلولا يحيلني الى سحاب في النهار فلا احتاج أن اقبع خلف الباب بعد أن يدق جرس نهاية اليوم المدرسي، ويحيلني الى سراب في الليل فأقرأ ما أشاء من الشعر والروايات والقصص دون ان يمسكني أهلي متلبسة بالسهر، أو يعرفوا أنني خرجت على طاعة سلطان النوم بتمرد الأرواح على ضيق الأجساد. كنت أحلم أن أشفي شظف الربع الخالي والنفوذ والدهناء بعزايم الحبر التي أحلبهاحرفاً حرفاً من رغوة كتب أخبِّئها عن أعينهم، وعن أعين غيرهم من الرقباء والغرباء في ثنايا كتب المقررات. كنت أكتب وأمزِّق الأوراق بحلم بسيط كمحلول السكر والماء في مقاومة الجفاف بأن فتاة صغيرة من أرض الجزيرة العربية يمكن أن تمدَّ يدها من رمل الرمضاء وتكتب اسمها واسم بلادها بعسيب النخل على شفى السماء مثل تلك الأسماء في السموات الأخرى القريبة والبعيدة التي كانت تقرأ بنهم بصمات أصابعهن في عالم الإبداع والنساء معا. فكانت مرة تعيد سيرة نساء صغيرات مثل لويز الكوت، مرة تتيمن بمي زيادة، فتوقع باسم مي الصغيرة ومرات ومرات تحلم بكتابة تكتب الرياض وجدة ومكة المكرمة والطائف وحريملا والحسا كما كتبت دمشق كتابات كوليت خوري وأمل جراح، وكما كتبت بيروت قصص غادة السمان، وكما كتبت فلسطين قصائد فدوى طوقان، وكما كتبت أحلام مصر الشاسعة لطيفة الزيات. تكتب بحبر أبيض كما جربت فرجينيا وولف واميلي برونتي وتتجرأ على القافية والوزان لتعيد دوزنت صبابات النساء والصبايا الصغيرات بإيقاع أشد قسوة وبأساً وافتتاناً بالتجريب مما فعلت نازك الملائكة أو سلفيا بلاث.
- في أول شرارات الشباب كان بالإضافة إلى حلمي الشخصي في لبس خاتم الخطوبة على أوسم الشباب شريطة أن يشبه أبي ملامحا وسمرة وشهامة وسخاء مع إنجاب نصف دستة من البنات والأولاد، كان الحلم المشترك لجيلي أن نوحد الوطن العربي ونستعيد مجدنا العربي في الأندلس ولا نقف عن حدود بوردو بل نذهب بعيدا لاستعادة مشروع الحداثة والعلم الذي شرعنا فيه عندما كان الغرب يعيش في العصور المظلمة. كان هناك الحلم العربي المشترك بالحرية والخبز وببلاد العرب أوطاني من جدة الى وجدة ومن وهران الى الظهران ومن حضرموت الى بيروت. كما كان هناك حلم التحدي للاحتلال الصهيوني لأرض فلسطين وسينا والجولان بما كانت ترمز له قصيدة المقاومة سجل أنا عربي..كان هناك مشترك الحلم الذي أججت به نشوة هزيمة أمريكا أمام شعب فيتنام بامكانية الانتصار على إسرائيل. فما الذي بقي من بروق احلام تلك المراحل غير تخطف البصر وطعنات الخاصرة وهيبة الخيبات؟ هل بقي من يقبض على جمرة تلك الأحلام النقية الغرة بعد أن اكتوينا بغزو الكويت وسقوط بغداد. لابد اننا لم نكن نعلم ونحن في حمى حياكة الأحلام من حرير وحرائق أحلى أياما انه كان علينا ان نحرر أحلامنا قليلاً على الأقل من سطوة المرحلة الجيلية التي ننتمي اليها ونطلق العنان لخيالنا نحو فضاءات اوسع بما لا يحد من طاقة الأحلام في هذا الخطاب السياسي والايدولوجي، او ذاك من الخطابات التي كانت اسيرة التمسك بالسلطة او شهوة توسلها.
- قريبا من يعد منتصف العمر، والله أعلم صار حلمنا ألاَّ نصحو ونجد أن أوطاننا لم تعد مكانهاتحت وطأة ضغط مشروع الشرق الأوسط الكبير، أو غيره من المشاريع المشبوهة وأن اختلفت المسميات كما حدث مع أجدادنا وآبائنا عشية افتضاح معاهدة سايكس بيكو. فهل كنا حقا فشلنا كل هذا الفشل الذريع في الذود عن أحلامنا على مدى قرن من الزمان؟! أم أننا كنا نعيش أحلاماً انتحلناها، ولذا لم نستطع النجاح في مواجهة تحدياتها؟. وفي هذه الحالة هل يمكن ان نكف عن الحلم ام أن ليس لنا إلا أن نحلم من جديد؟! وإذا كان الأديب السعودي ابن الحجاز أحمد سباعي قد صرخ في نفسه وجيله وهو يرقب تذبذبهم بين النهوض وبين الكبوات تلك الصرخة الجريئة بمقاييس ذلك العصر (دعونا نمشي)فهل يحق لنا ألا نكون أقل شجاعة من تلك الأجيال، فنقول: دعونا نحلم. إن وحدة المملكة العربية السعودية تحت راية لا إله إلا الله والتي تضم ذلك التعدد البشري من مختلف الخلفيات الجغرافية والعرقية والاجتماعية والثقافية والتراثية في كيان وطني موحد تقف اليوم كشاهد وحيد وعنيد على امتداد الوطن العربي على إرادة الوحدة. وهذا بحد ذاته يمكن أن يمدنا بالثقة في طاقة الحلم على تحقيق ما قد يعد في لحظة تاريخية معينة من المعجزات أو المستحيلات. فدعونا نحلم بالإصلاح.. دعونا نحلم بمصالحة وطنية تعترف بحلال الأحلام وحلاوة التشارك في تحقيقها.. دعونا نحلم بالحرية في الحق وبالتلاحم والتحاور والتشاور للبناء. وحدها الشعوب التي تحرم نعمة الحلم والتي لا تجدد أحلامها بما يليق بجذوة الخيال لدى الأجيال الجديدة وبما يستجيب لتحديات مرحلتها ترفل في فشل الخيال وتعيش تبكيت خيانة الحلم. فهل لنا إلا ألا نحرم أنفسنا من نعمة الأحلام المباحة في حب الوطن وفي الحفاظ على حرمته من العاديات المحيقة؟
هذا.. ولله الأمر من قبل ومن بعد.


[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][الأرشيف][الجزيرة]
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الىchief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الىadmin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت
Copyright, 1997 - 2002 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved