Monday 12th July,200411610العددالأثنين 24 ,جمادى الاولى 1425

     أول صحيفة سعودية تصدرعلى شبكة الانترنت

انت في "مقـالات"

الحب ليس شعوراً الحب ليس شعوراً
د.عبد الرحمن الحبيب

(الحياة صعبة.. هذه حقيقة عظيمة، وأحد أعظم الحقائق.. فهي حقيقة عظيمة لأننا حين نرى هذه الحقيقة بصدق فإننا نتجاوزها.. عندما نعلم بصدق أن الحياة صعبة، عندما نفهم بصدق ونقبل ذلك، عندها لن تغدو الحياة صعبة.. لأنها حين تُقبل، فإن حقيقة صعوبة الحياة لا تغدو مهمة)..
بهذه الكلمات البسيطة والصياغة التلقائية التي لا تخلو من ركاكة افتتحت عالم النفس سكوت بك (Scott Peck) كتابه (The Road Less Traveled) (الطريق الأقل ارتياداً) قبل نحو ربع قرن.. ولم يكن المؤلف معروفاً آنئذ، إنما كتابه نال رواجاً لا نظير له من أي كتاب آخر، وما انفك يعد من أكثر الكتب مبيعاً عالمياً.. ومؤخراً، نشر المؤلف كتابه بحلة جديدة وبإضافة للعنوان.. وتبدو فرادة الكتاب لجمعه بين علم النفس وأكثر المفاهيم النفسية والروحية غموضاً، مع تأثر المؤلف بالقيم الروحانية البوذية. آخر طبعة من ذلك الكتاب أهدانيها صديق، وطالبني بإلحاح أن استعرضه في مقالة لما فيه من أفكار غرائبية مثيرة للجدل وللتأمل، ولكني اعتذرت متوقعاً أن الكتاب لابد أن يكون استعرض باللغة العربية عدة مرات، خلال هذه المدة الطويلة من طبعته الأولى، رغم اني لم أجد ما يؤكد هذا التوقع خلال بحثي في الإنترنت.. هذا الكتاب الذي حصل على الترتيب الأول للكتب الأكثر مبيعاً، لمدة اثني عشرة سنة قالت عنه الواشنطن بوست انه ليس مجرد كتاب بل عمل عفوي من الإبداع كتبه مؤلف متوجهاً نحو القارئ بغرض مشاركته بشيء أكبر من نفسه ذاتها.. وفي استعراض نقدي للنيويورك تايمز ذكر أنه محاولة طموحة فعلا للجمع بين المعارف الروحية القديمة وعلم النفس الحديث.. والكتاب يتناول الالتزام السلوكي مدعوماً بوسائل تمكننا من تقبل المسؤولية لمسيرة حياتنا، ويشرح الحب باعتباره عملاً وإرادة، ليصل إلى نتيجة بأن الحب ليس مشاعر!! وهذه الأخيرة هي ما تدعو للدهشة ومن أكثر الأفكار غرابة وطرافة، فاجأ المؤلف بها القراء.. لذا رأيت أن أترجم وبتصرف أهم جزء منها المعنون ب(الحب ليس شعورا)، دون تعليق أو تحليل تاركاً للقارئ هذه المهمة، مع الأخذ بالاعتبار ثقافة المؤلف الغربية ومجتمعه الأمريكي.
(سبق أن قلت ان الحب تصرف ونشاط.. وهذا يقود إلى توضيح أهم مفهوم خاطئ عن الحب.. العديد من الناس يسيطر على الشعور بالحب بل ويتصرف استجابة لنشاط هذا الشعور بكل الأساليب غير المرتبطة بالحب.. ومن ناحية أخرى، فإن الحب الحقيقي الفردي عادة ما يأخذ الحب والفعل البناء تجاه الشخص الذي لا يحبه في وعيه المباشر.الشعور بالحب هو إحساس يتلازم مع خبرة الكاثكت (cathecting).. والكاثكت هو تقدم العملية التي يصبح بها الشيء أو الشخص مهماً لنا.. وبمجرد تكثؤ الشيء (ما يقال:أصبح محبوباً) فإنه يستثمر أو يوظف مع طاقتنا تجاه الشيء أو الشخص المحبوب، وكأنه جزء من أنفسنا، وهذه العلاقة بيننا وبين هذا الشيء المستثمر هو ما يطلق عليه كاثكس (cathexis) (تركيز الطاقة النفسية على شخص أو شيء).. ولأننا قد نملك العديد من هذه العلاقات التي تستمر في نفس الوقت، نتكلم عن كاثكسنا (طاقتنا التركيزية).. والمفهوم الخاطئ بأن الحب هو شعور ناتج من الخلط المربك بين الكاثكت والحب.. هذا الخلط بين الحالتين متوقع لأنهما عمليتان متشابهتان، لكنهما أيضاً مختلفتان.. أولاً، نحن قد نكثؤ (نركز طاقتنا النفسية) تجاه أي شيء حي أو جماد، بروح أو بلا روح.. لذا فإن الشخص قد يكثؤ للبورصة أو لقطعة من المجوهرات، وقد يشعر بحب هذه الأشياء.. ثانياً، حقيقة أننا نكثئ على شخص آخر لا تعني أننا نهتم بتطوره الروحي.. إن الأم التي تصرّ على أخذ ابنها المدلل من وإلى المدرسة هي بالطبع تكثؤ على ابنها، الذي يهمها كثيراً ولكن لا يهمها تطوره النفسي والروحي.. ثالثاً، إن تكثيف هذا الكاثكت لا علاقة له بالعقلانية والالتزام.. قد يلتقي غريبان (رجل وامرأة) في حانة - بلا موعد مسبق ولا التزام محدد ولا استقرار عائلي - ويتكاثآن بطريقة لا شيء فيها أكثر أهمية من علاقتهما الجنسية.. أخيرا، فإن تكثؤنا قد يتلاشى ويكون خاطفاً.. ففي المثال للمرأة الرجل وبعد علاقة جنسية، قد يرى كل منهما أن الآخر غير جذاب وغير مرغوب فيه.
من ناحية أخرى، فالحب الحقيقي أو الأصيل يتضمن الالتزام وممارسة العقلانية.. عندما نهتم بالنمو النفسي والروحي لشخص ما، نعلم أن ضعف الالتزام تجاهه ربما يؤذيه، لذا الالتزام له قد يكون ضرورياً لنا لاستثمار اهتمامنا بكفاءة.. ولهذا السبب فإن الالتزام هو حجر الزاوية في العلاقة مع المعالج النفسي.. فمن المستحيل للمريض النفسي أن يتحسن دون (التحالف العلاجي) مع المعالج، فلابد أن يشعر المريض بالمقدرة والطمأنينة الناتجة عن القناعة بأن المعالج حليف ثابت ومستقر.. ليحصل هذا الحلف، لا بد للمعالج أن يوضح للمريض، مراراً وتكراراً، اهتمامه الثابت الذي لن يأتي إلا من الالتزام.. هذا لا يعني أن المعالج دائما يشعر برغبة الاستماع للمريض.. الالتزام يعني أن على المعالج أن يستمع للمريض، رغب بذلك أم لا.. هذا لا يختلف عن الزواج.. تشييد العلاقة الزوجية مثل تشييد العلاقة العلاجية النفسية، فعلى الزوجين بشكل مستمر أن يلازما بعضهما وعلاقتهما بغض النظر عن شعورهما.. وغالباً ما يتلاشى الحب، هنا حين تزوي الغريزة تبدأ الفرصة لظهور الحب الحقيقي.. وعندما يشعر القرينان بأنهما لا يحبذان أن يستمرا قرب بعضهما طوال الوقت، ويفضلا الابتعاد لبعض الفترات، فإن حبهما يتم امتحانه وسيجدا أن الحب حاضر بينهما أم غائب.
هذا يعني أن الحب الحقيقي يتفوق على الكاثكت (التركيز).. عندما يوجد الحب فإنه يحصل بالكاثكت أو بدونه، وبالشعور بالحب أو بدونه، مع أنه من الأسهل والألطف أن تحب مع التكثؤ، وهذا هو إنجاز هذه الاحتمالية بأن الحب الحقيقي المتفوق يتم تمييزه بالتكاثكت البسيط.. الكلمة المفتاح لتمييز الحب هي (الإرادة) أو الفعل.. لقد عرّفتُ الحب بأنه الإرادة لتقييم الذات بغرض تعزيز النمو الروحي أو النفسي للذات أو الآخر.. الحب الحقيقي هو عمل إرادي أكثر منه عاطفي.. الشخص الذي يحب فعلاً، يتصرف بموجب قرار اتخذه بأن يحب.. هذا الشخص عمل التزاماً بالحب سواء كان الشعور بالحب موجوداً أو غائباً.. إنه من الضروري للشخص المحب أن يتجنب التصرف الذي يمليه شعوره بالحب.. أنا قد أصادف امرأة وأشعر نحوها بانجذاب شديد كشعور الحب، لكن لأن ذلك سيدمر حياتي الزوجية إذا أقمت علاقة عشق معها، سأقول في نفسي من داخل قلبي:(إنني أشعر بحب لك، لكنني لن أفعل) .. مشابه لذلك، عند استقبال مريض جديد رغم أنه قد يكون مريضاً مناسباً، فإني أرفض علاجه لأن وقتي لا يسمح بذلك فأنا ملتزم مع مرضى آخرين أقل أهمية وأكثر صعوبة.. مشاعري بالحب قد تكون غير مقيدة، لكن قدرتي على أن أكون محباً محدودة.. لذا عليّ الاختيار بين من أركز هذه القدرة، إنه نحو من توجهني إرادتي كي أحب.. الحب الحقيقي ليس شعوراً يسيطر علينا، بل التزام وقرار مفكر فيه.
التوجه العام في الخلط بين الحب والشعور بالحب يمنح الناس خداع النفس.. مدمن الكحول، في الوقت الذي تحتاجه زوجته وأطفاله بشدة تجده يشرب ويهذي للناس بمقدار حبه القوي لعائلته ويبكي متأثراً.. ولكن لأن الحب الحقيقي هو سلوك إرادي يتفوق على الشعور الخاطف بالحب أو الكاثكس (التركيز)، فمن الصحيح القول (الحب هو فعل الحب).. الحب واللاحب، مثل الخير والشر، هي ظواهر موضوعية (مدركة بالحواس) وليست ذاتية خالصة.


[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][الأرشيف][الجزيرة]
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الىchief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الىadmin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت
Copyright, 1997 - 2002 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved