Sunday 22nd August,200411651العددالأحد 6 ,رجب 1425

     أول صحيفة سعودية تصدرعلى شبكة الانترنت

انت في "محليــات"

دفق قلم دفق قلم
من وراء القرون
عبدالرحمن بن صالح العشماوي

أدعو القراء الكرام إلى هذه الرحلة السريعة التي نجوب بها فيافي الأزمان، ونتجاوز بها جبال القرون الماضيات، لنصل إلى نهر البلاغة العربية المتدفق، ونقف على ضفافه الجميلة، نشم أريج أزهارها، ونستمع إلى وشوشة ماء النهر إليها، وإلى مناجاة حفيف الأغصان لها.
رحلة سريعة لا تكلفنا إلا قراءة هذه السطور التي أحببت أن تشاركوني فيها، وهي مقاطع من مقدمة كتاب لطيف ظريف عنوانه (البرصان والعرجان والعميان والحولان) لأبي عثمان عمرو بن بحر الجاحظ، وهو كتاب جمع أخبار البارزين علماً وحكمةً وشجاعةً وحلماً ووفاءً وريادةً من أصحاب الآفات الذين قدَّمهم الناس، وقدَّروهم وانقادوا لهم، فما أخّرتهم عن المجد آفة، ولاحطَّتْ من أقدارهم عاهة.
يسلِّم عليكم الجاحظ ويقول: وهب الله لك حبَّ الاستماع، وأشعر قلبك حُسن التبيُّن، وجعل أحسن الأمور في عينك، وأحلاها في صدرك، وأبقاها أثراً عليك في دينك ودنياك، علماً تقيِّده، وضالاً تُرشده، وباباً من الخير تفتحه، وأعاذك من التكلُّف، وعصمك من التلوُّن، وبغَّض إليك اللِّجاج، وكرَّه إليك الاستبداد ونزَّهك عن الفضول، وعرَّفك سوء عاقبة المراء.
فاجعل محاسبة نفسك صناعةً تعتقدها، وتفقُّد حالاتك عُقدةً ترجع إليها، حتى تخرج أفعالُك مقسومةً محصَّلة، وألفاظُك موزونةً معدَّلة، ومعانيها مصفَّاةً مهذَّبة، ومخارجُ أمورك مقبولةً محبَّبة، فمتى كنت كذلك كانت رقّتك على الجاهل الغبيّ بقدر غِلْظتِكَ على المعاند الذكيّ، وتُحبُّ الجماعة بقَدْر بُغْضك للفُرقة، وترغب في الاستخارةِ والاستشارةِ بقدر زهدك في الاستبداد واللَّجاجة، وتبدأ من العلم بما لا يسع جهله، قبل التطوُّع بما يسع جهله.
ولا تلتمس الفروع إلا بعد إِحكام الأصول، ولا تنظر في الطُّرَف والغرائب، وتُؤثِر رواية المُلح والنوادر، وكلَّ ما خفَّ على قلوبِ الفُرَّاغ، وراقَ أسماعَ الأغمار، إلاَّ بعد إقامة العمود، والبصر بما يثلم من ذلك العمود، فإنَّ بعض من يَكْلَفُ برواية الأشعار بدأ بروايةِ شعر هذيل قبل رواية شعر العباس بن الأحنف، ورواية شعر ابن أحمَرَ قبل رواية شعر أبي نواس، وناسٌ من أصحاب الفُتْيا نظروا في العين والدَّين قبل أن يرووا الاختلافَ في طلاق السنّة.
وأنا أحذِّرك اللِّجاج والتتايُعَ - أي التهافت والوقوع في الشر - وأرغب إلى الله لك في السلامة من التلوُّن والتزيُّد، ومن الاستطراف والتكلُّف، فإن اللِّجاج لا يكون إلا من خَلَل القوّة، وإلاَّ من نقصانٍ قد دخل على التمكين، فاعرف فَصْل ما بين التصرُّفِ والتلوُّن، وليس الاعتراض من صفة اللِّجاج، وقد يكون الاعتراض محموداً ومذموماً ولا يكون اللِّجاج إلاّ مذموماً.
والتلوُّن أن يكون سرعةُ رجوعه عن الصواب كسرعة رجوعه عن الخطأ واللِّجاج، وأن يكون ثباتُ عزمه على إِمضاء الخطأ كثبوت عزمه على إِمضاء الصواب النافع. قيل لبعض العلماء: مَنْ أسوأ الناس حالاً؟ قال: من لا يثق بأحدٍ لسوء ظنّه، ولا يثق به أحد لسوء فعله.
وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: لن ينتفع بعقله حتى ينتفع بظنِّه.
وليكن أحبُّ العلم إليك أَطْوَعُه لله، فإن لم تفعل فأكسَبُه للحال الجميلة.
عذراً لقرائي الكرام، فهنا انتهتْ رحلتنا السريعة، وما عليكم إلا التأمُّل حتى يتضح لنا مدى تقصيرنا في شأن لغتنا وبياننا العربي الأصيل في هذا العصر الذي تفتك فيه معظم وسائل الإعلام بلغة القرآن.
إشارة:


وأبغي صواب الظنِّ أعلم أنه
إذا طاش ظنُّ المرء طاشت مقادره


[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][الأرشيف][الجزيرة]
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الىchief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الىadmin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت
Copyright, 1997 - 2002 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved