لقد كتبت القصة بمحض الصدفة، فقد كنت أعد نفسي منذ البداية لكتابة المسرحية، دون أن أعرف كيف ولماذا ولمن؟!
عندما استرجع هذه الرغبة -الآن- أضحك كثيراً، فمقومات المسرح عموماً لم تكن موجودة حيث كنت أعيش في المدينة المنورة، باستثناء عروض بدائية، كانت تقام في الأحياء احتفالاً بالليالي الرمضانية، وفي المدارس الثانوية، وهي عروض سطحية على وجه العموم، يقوم عليها من الألف إلى الياء مدرسون لديهم اعتقاد بأنهم من الفنانين الشموليين في الاخراج والتمثيل والكتابة وإدارة المجاميع. ورغم وجود هذه النشاطات المسرحية البدائية، إلا انني لم أشارك في أي منها، بل انني لم أكتب في أي وقت في صحيفة حائطية، من تلك التي يتسابق الطلاب المميزون على الكتابة فيها، ولا ينسى كل واحد منهم -بطبيعة الحال- أن تكون صورته مصحوبة بخواطره التي يقدمها بإلحاح لمن يتولى أمر هذه الصحيفة! لقد كنت بعيداً عن المشاركة في أي شيء، خجولاً وصامتاً، وكنت طالباً بسيطاً، فلا أنا فوق ولا أنا تحت، انني في منطقة الوسط، وهذه المنطقة حققت لي عدة مزايا، أولاها أن لا تكون عين المدرس باتجاهي حالما يدخل الفصل، وثانيها وهو المهم بالنسبة لي، عدم تعرضي لتأنيب الذات لعدم وصولي إلى قائمة الأوائل، فقد كان شعاري النجاح أولاً وأخيراً، بغض النظر عن درجة هذا النجاح، ومع ذلك فقد تعثرت كثيراً دون أن يشعر بي أحد، ألم أقل لكم أن رجال الظل محظوظون!!
هذه الخيبات الدراسية التي بدأت تزورني بين وقت وآخر، ليست بسبب المرض، أو لانشغال بالبحث عن طريق إلى لقمة العيش، ولكن لها عدة أسباب أخذت تطل على التوالي، وقد بدأت بهواية جمع الطوابع والصور أو المناظر الطبيعية من دول العالم، كانت تستهويني هذه الهواية كثيراً، فهي على الأقل تعزيني عن رغبتي العارمة في معرفة الدنيا أو زيارة مدن غير مدينتي، كنت أبذل كل قرش يدخل جيبي عن طيب خاطر لشراء طابع جديد أو منظر معروض في فنترينات المكتبات البسيطة التي تتناثر في شارع العينية وأمام باب السلام، وزدت على ذلك انغماسي في هواية رديفه وهي المراسلة، فهذه المراسلة طريق جديد للامدادات الصورية والطوابعية، إضافة إلى كونها تجعلني أتخاطب جواباً لجواب، مع الشباب والشابات من كافة الدول العربية، فقد كانت الرسائل تتوالى من الجنسين، وكنت أحبس نفسي بالساعات في غرفة السطوح، للرد على هذه الرسائل، وتزويد كل رسالة بما تيسر من الطوابع والمناظر الطبيعية، وفوق كل ذلك صورتي الشخصية بالمعطف والنظارة السوداء واليد على الخد، مع الاستغناء عن الطاقية والغترة، فقد كانت هذه الطريقة قمة الحداثة والتمرد على العرف والتقاليد، رغم أن كل هذه الأفعال الطائشة كانت للتصوير فقط، فقد كنا نستعير الكرافتة والنظارة والكوت وفوق ذلك الكريم الذي يجعل الشعر أكثر نعومة ولمعاناً في الصورة.. الذي يرى الصورة يتخيل أننا لا نلبس الثياب ولم يكن يدري أننا نضع الكرافتة في حلق الثوب!
كانت هذه الهوايات الصغيرة أشبه بالممر الذي اجتزته، خلال سنوات قصيرة امتدت من نهاية المرحلة الابتدائية، وحتى نهاية المرحلة المتوسطة، لكي أصل إلى الهواية التي امتدت بعروقها في داخلي، كما تمتد النخلة في باطن الأرض، لتصرفني عن الطوابع والمناظر الطبيعية والمراسلة، ولتحبسني بالساعات الطويلة داخل جدران أربعة، وليتحرك في داخلي من جديد الهاجس المسرحي، مضافاً إليه هذه المرة هاجس أكثر واقعية وصرامة وحدة، وهو الهاجس النقدي، فقد أصبحت مغرماً بالقراءات المسرحية، التهمت مجموعة كاملة من سلسلة عن المسرح العالمي، كان الكتاب ينتهي في ساعات لأبدأ في كتاب جديد، في شهور كنت أجهزت على مسرحيات ل(تشيكوف)، برنارد شو، بريخت، ميللر، اهرنبرغ، سارتر، كامو، لوركا، إضافة إلى مسرحيات لتوفيق الحكيم، الفريد فرج، ميخائيل رومان، جورج شحاتة والعشرات غيرهم، كنت أقرأ بمتعة في النهار، لاحارب وأنا متمدد فوق سطح بيتنا طواحين الهواء في الليل، كنت أتخيل نفسي ممثلا ومخرجا وكاتبا لا يشق له غبار، مع انني على أرض الواقع لدي الاستعداد التام للبقاء صامتاً بالساعات أمام أي ثرثار، كان ميلي إلى الصمت والخجل يقض مضجعي، هذه العادة لم أستطع التخلص منها إلا بشق النفس، وهو تخلص لم يكن تاماً وباتراً، ربما تمشياً مع مقولة أجدادنا من (شب على شيء شاب عليه!)، فقد كنت مقموعاً منذ صغري، فلماذا أقمع الناس بعد أن شببت عن الطوق!!
وإلى جانب النصوص المسرحية، كنت أقرأ وبانتظام مؤلفات مارون عبود اللاذعة، وبعده انتقلت إلى مؤلفات طه حسين والعقاد وغالي شكري وأحمد الشايب ومحمد يوسف ونجم ومحمد الجزائري ويحيى حقي ومحمود أمين العالم، كل هذه القراءات والاهتمامات كنت أقبل عليها، وكانت تتمحور في داخلي على شكل نظريات ودراسات، أحمد الله أنه لم يظهر أي شيء منها على أرض الواقع، فقد كنت آخر الناس في الاقدام على الكوارث النقدية، كان أي كتاب من هذه الكتب التي كنت أقدم عليها أشبه بساحة معركة، تستخدم فيها كافة الأسلحة، بما فيها الأسلحة الجرثومية، ولم يبق في ذاكرتي إلا أقل القليل من هذه الدراسات فقد كان اللدد في الخصومة النقدية لا حد له، ولا أحد يعرف أسبابه أو أهدافه، إلا ان كل كاتب من هؤلاء كان يعتقد أنه سوف يصلح حال الأدب العربي، بمقالة أو دراسة أو توجيه هو أولى الكتاب به!
فاكس 014533173
|