Tuesday 28th September,200411688العددالثلاثاء 14 ,شعبان 1425

     أول صحيفة سعودية تصدرعلى شبكة الانترنت

انت في "الرأي"

صرخة في زمن الضعفاء صرخة في زمن الضعفاء
حفصة العبد الواحد

كان الناس ولا يزالون.. يشبهون الشاعر بالساحر.. والذي تعلو درجة حساسيته للأشياء عن سائر البشر فيصل إلى الدقيق من أحاسيسهم فيعبر عنها ولا يستطيعون.. ولقد صدق الناس.. ولا يزالون.. والشاعر ليس من ينظم القوافي وتستقيم له الأوزان فقط.. بل هو من يرقص القلب.. ويدغدغ الأحاسيس.. وهذا يكفيه.. وهو من يصل بكلماته وحروفه الغنّاء إلى مدى لا تستطيع أن تصل إليه نغمات الموسيقى.. وهذا يكفيه.. وهو من يوقظ بكلماته هذا الشجن الراقد في نفوسنا.. أو يزف إلينا الفرحة الضالة عن أرواحنا.. وهذا يكفيه.. وهو من تترقب العيون إشراقة أحرف اسمه على أي مطبوعة بتلهف وشوق.. وهذا يكفيه.. وهو من كان اسمه الأول جبران.. والثاني خليل.. والثالث جبران.. وهذا لن يكفيه.. فجبران خليل جبران لم يكفه من الشهرة أن يكون شاعراً أو أديباً أو موسيقياً أو أمثالهم من العظماء.. فهو يصل بنظره إلى ما بعد الغيوم.. وهم ينظرون إلى الرياض المعشبة والسهول النابضة بالحياة.. وهو من يصل بصدى همسه إلى أبعد مما يصلون إليه بصدى صرخاتهم، فيملأ الوديان ويعلو الجبال والهضاب وينتشر في الفيافي والقفار.. وهو n بكل هذا الجهد n يريد أن يوصل إلى مسامعنا كلمة واحدة.. كلمة واحدة ولكنها بمئات.. بل بآلاف الكلمات.. الحروف.. ويالها من كلمة لم تسمعوها ولن تسمعوها لأنه لا توجد هناك أي لغة صوتية تتحملها.. بل تتحملها لغة المعاني والأفكار فتدخل شغاف القلوب، وتعلق في حنايا العقول.. وربما تُوهم للحظة.. أو مرّ في ذهنه طيف يشير إليه بأنه لم يقل ما يريد.. فتدارك الأمر وقال: (جئت لأقول كلمة وسأقولها، وإذا أرجعني الموت قبل أن ألفظها يقولها الغد.. فالغد لا يترك سراً مكنوناً في كتاب اللانهاية).
ولكنه في الحقيقة قد أوصل الكلمة بكل أمانة وصدق وحب.. ولا يزال.. اقرأ ما تشاء من حروفه.. وارتشف ما فيها من معانٍ.. وحينها فقط ستسمع صدى هذه الكلمة.. إذ لا يوجد من يستطيع أن يبوح لك بها.. أو من يكتبها لك لتقرأها.. فهي كلمة تُستشعر ولا تُسمع..!! كلمة متفاوتة الانفعالات.. فهي حينا هادئة رقيقة.. وحيناً أخرى ثائرة غاضبة، ولكن ثورتها كانت دائماً في الحق.. ولا تزال.. استشعر إحدى ثوراته العظيمة والعنيفة والتي لقبها ب (يا بني أمتي).
حين أطلق الصرخات تلو الصرخات علّ النيام يستيقظون.. فلم يتنبه له أحد، فما كان منه إلا أن جمع كل ما لديه من عتاد ليصنع مرآة سليمة معافاة تعكس الواقع كما هو لا كما يريدون.. دون زيف أو خداع، فنجح.. وأخذ يرسم صورة مطابقة لواقع أمته، وأشار إلى موضع الداء موضعاً موضعاً.. وأخذ يدل على دواء كل موضع.. فكانت رغبته وإرادته تسعى لعلاجهم.. ولكن لا إرادة لهم ولا رغبة.. فما كان منه إلا أن قذف بالحقيقة التي تختلج في صدره.. تخنقه فتقض مضجعه.. بعد يأس منهم واعتلاله بسبب سلبيتهم واستسلامهم.. فكانت صرخة مؤلمة وجارحة: (أنا أكرهكم يا بني أمتي لأنكم تكرهون المجد والعظمة.. أنا أحتقركم لأنكم تحتقرون أنفسكم.. أنا عدو لكم لأنكم أعداء الإله ولكن لا تعلمون..!!) ولكنه مات.. مات وأصبحت صرخته مجرد صدى ثم تناسى نقلها الهواء.. مات دون أن ترتاح نفسه، ودون أن يحقق أمانيه.. مات كغيره، وقُبِر كغيره، ولكن ما ميزه عن غيره صدقه المتناهي وأمانيه الفريدة، وحبه الحقيقي لأمته والذي يرفض بسببه إلا أن يراها عظيمة بهية ذات مجد وسيادة.. وهذا لن يكفيه.. استمع إليه والحيرة الممزوجة بالأسى تلقي بشباكها على كلامه وهو يقول: (أتريدون أن أبني لكم من المواعيد الفارغة قصوراً مزخرفة بالكلام وهياكل مسقوفة بالأحلام، أم تريدون أهدم ما بناه الكاذبون والجبناء وأنفض ما رفعه المراؤون والخبثاء؟) وبعد نقاش طويل وعقيم، وبعد شد وجذب، ومد وجزر، لم يملك سوى أن يستعين بمرآته لتكون شاهدة مع الزمن على سلبيتهم وانكماشهم بعيداً عن ساحات البطولة، فيصف لهم حالهم وهم يرونها حتى تكون كلماته اشد وقعاً وأعظم أثراً: (هلموا وتأملوا فقد جعل الخوف شعور رؤوسكم كالرماد، وعرك السهر عيونكم فأصبحتم كالحفرة المظلمة، ولمست الجبانة خدودكم فبانت كالخرق المجعدة، وقبل الموت شفاهكم فأمست صفراء كأوراق الخريف). ثم انقض بكل ما في قلبه من استنكار وغضب بسيفه الحاد على هذا الحاجز الصفيق الأسود الذي يغلف الواقع ويحجبه عن الأنظار فأوقفهم على الحقيقة وهم على حافة الانهيار علّ هم يبعثون.. علّهم يعون هذا الواقع المؤلم المر.. فقذف صرخته بكل ثورة وعنف: (دينكم رياء ودنياكم ادعاء وآخرتكم هباء، فلماذا تحيون والموت راحة الأشقياء؟؟). ولكنه عاد صفر اليدين يصحب نفساً كسيرة وقلباً بائساً.. لأن قومه لا رغبة لهم ولا إرادة تتملكهم لتعينهم على تغيير حالهم أو إصلاح شأنهم، {إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ}. وأنا الآن أعيد صرخته.. وأشاركه نداءه.. فهل ستعقلونها؟؟ أم ستذهب صرختي أنا أيضاً أدراج الرياح؟


[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][الأرشيف][الجزيرة]
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الىchief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الىadmin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت
Copyright, 1997 - 2002 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved