Thursday 30th September,200411690العددالخميس 16 ,شعبان 1425

     أول صحيفة سعودية تصدرعلى شبكة الانترنت

انت في "سماء النجوم"

واشرح لها واشرح لها
قصة: منصور المهوس

تسربت هذه الكلمات في منحدرات أذني اليمنى ومنعطفاتها، اخترقت غشاء طبلتها امتصتها جمجمتي ناصعة البياض:
- هذا محمد الذي يجيد أبوه التطبيل.
رد خالي عليه:
- نعم.. لدرجة ان تطبيله يشرخ الزجاج.
انجذبت عيناي الصغيرتان الى خالي، استفزني العجب، أردت ان أسأله عن مهارة أبي في التطبيل من أين له تلك؟!
لكنه انصرف قبل أن أسأله.
(يجيد التطبيل) والله عجيب!!
أنا أعرف أبي جيداً، لا يجيد هذا العمل، بل يترفع عنه، لم أره يوما يحمل طبلا ويقرعه حتى في مكتبته التي يمكث فيها طويلا
هي خالية تماماً من الطبل، آه.. أيمكن أن يمارسها بخفية مع أصدقائه والذي خالي واحد منهم؟
نعم يمكن ذلك وربما هم الذين يوفرون له الطبل.
والله عجيب (يجيد الطبل) أذكر أنه في كل سنة أنجح فيها يعرض عليَّ أن يشتري لي طبلاً خاصاً بالأطفال، آخرها هذه السنة عندما انتقلت الى الصف السادس، وفي كل مرة أهز رأسي بالموافقة لكن أمي تستهجن الفكرة وتتمتم بكلمات مبهمة.
(يجيد التطبيل) عجيب.. كلمة تلتهم قطع العجب المنتشرة في مستطيل الذاكرة.. صحيح أنه أحيانا إذا كان فرحا يطبل على أي شيء أمامه:
فوق طاولة الطعام، على باب الثلاجة، وأحيانا على ظهري وأنا أمشي، لا يحدث ذلك إلا عندما يخرج من مكتبته ومعه أوراق، أراها تضطرب بين أصابعه كالسعفة اليابسة، يأتي بهن الينا ونحن جلوس في غرفتي، يقول لأمي يفرح يشبه فرحي بالأشياء الصغيرة:
- لقد حبكت الحروف في جسد هذه الأوراق حبكاً سيذهلهم، وبه أتفوق على المنافسين.. اسمعي.. اسمعي.
يهدر أبي.. فيتقافز الى سمعنا صوت شرخ أكواب الماء الزجاجية، الحظ أمي فإذا الامتعاض يسبح في خريطة وجهها.. يهدر أبي، لا أفهم من كلامه شيئاً.. لا يتشبث في أشواك ذاكرتي من حروف أوراقه إلا قول:
(صاحب المعالي.. صاحب السعادة) في الحقيقة كلمات أعجبتني.. لأن أبي ينطقها بنبرة صافية صادقة مفعمة بالهناء، يزداد اهتياج أبي، ويزداد عمق الشرخ في الأكواب الزجاجية، فتتعمد أمي قرص أخي الصغير الخادر في حجرها فينفجر باكياً، لكن أبي لا يتوقف بل يواصل متمتماً في نفسه ومتمايلاً، تتموج أمي تحت سياط من جمر لا أعلم مصدره، فجأة يضرب أبي الطاولة بيديه مطبلاً، متمايلاً.. مطوحا رأسه يمنة ويسرة، وعلى ايقاع تطبيله المنتظم يغني بصوت ممطوط:
(واشرح لها عن حالتي) ثم ينصرف..
امتد وميض عيني نحو أمي مستفهماً عن ذلك، لكن مساحة الامتعاض ما تزال رابضة في محيط وجهها.. لا أحب وجه أمي عندما يستولي عليه الامتعاض.. أتأمل وجهها فتنهرني آمرة لي بأن أكمل واجب المادة الفنية: رسم نخلة، فوقها عصفور وبجوارها نهر.. رسمت النخلة وخوصها باللون الأحمر، مباشرة نظرت الى أمي فلم تقل شيئاً، تناولت اللون لاكفن به جذعها، فإذا أبي يدلف علينا مترنحاً بالفرح والأوراق تصفق بين يديه، لمح لون العسبان فصرخ متعجباً:
- عسبان النخلة حمراء لا يمكن ذلك!
أنت تخالف الطبيعة، يا ولدي كن واقعياً، هززت رأسي متأسفاً فواصل:
- يا ولدي اجعلها كما خلقها الله، ثم ما هذا العصفور؟ إنه جميل، لكن لماذا جعلت له رأساً؟ أما علمت أن ذلك لا يجوز؟ أطمسه، ولون العسبان باللون الأخضر.
ثم خرج قائلاً بنبرة تتدحرج حروفها خلفه:
- عسبان حمراء ورأس عصفور.. لا يمكن أن يجتمعا في لوحة.. رمقت أمي مستعيناً برأيها فقالت ونظراتها معلقة بمصراعي الباب:
- صدق أبوك.. كن واقعياً.
- ورأس العصفور؟
لم تزل نظراتها هناك ولم تجب.
استلقى العجب في باحة عقلي، لابد من طرح السؤال على خالي حتى أسيطر على الشرخ النابت في أوردتي، زارنا فسألته وعيناي تسرح مع نملة تتجه نحو قدمه:
- خالي.. أنت قلت قبل أيام بأن أبي يجيد التطبيل ولم أره يوماً يحمل طبلاً ويقرعه؟
قهقه خالي في وجهي بعنف، تراجع تحت تأثير هزات القهقهة بجسده وتراجعت أمام زحف الشرخ نحو أعماقي، شاهدت النملة تدور وتدور مصروعة من صوت القهقهات، واصل خالي القهقهة، ايقاعها المنتظم يتناغم مع تطبيل أبي وغنائه:
واشرح لها عن حالتي.


[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][الأرشيف][الجزيرة]
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الىchief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الىadmin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت
Copyright, 1997 - 2002 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved