الوداع الحار والحضور المهيب

الوداع المهيب للزعيم ياسر عرفات يعكس التقدير والاحترام للرجل ولطريقته المُثلى في النضال ولمبادئه التي دافع عنها وهي مبادئ نابعة من صلب المحيط الفلسطيني تعبّر عنه من جهة انطلاقها من الثوابت في النضال والصمود والتسوية العادلة، كما أنها تحظى بقبولٍ دولي واسع النطاق باعتبار أنها انعكاسٌ لتطلعات الإنسانية في الانعتاق والتحرر من الهيمنة وكل ما يكبل النزوع البشري نحو الحياة الحرة الكريمة، وتجسد هذا التجاوب الدولي مع عرفات في الحضور المكثّف لوداع الرجل الذي أجمع الجميع على أن وفاته تمثل فاصلة مهمة في تاريخ المنطقة والعالم.
ومن اللافت الإشارة إلى أن وداع عرفات تم في ثلاثة مواقع أقيمت فيها مراسم تشييع رسمية في كلٍ من باريس والقاهرة والمشهد الأخير للوداع الحار بين أبناء شعبه.
لقد احترم العالم الرجل لأنه لم يحاول النكوص عن قناعاته الواضحة والعادلة للتسوية ولأنه عمل بجدٍ على تجميع كل أسباب الدعم للقضية الفلسطينية من خلال نهج معتدل وصارم يلتزم بالثوابت التي لا تتنازل عن الحق الفلسطيني بما في ذلك أهمية عودة القدس وعودة ملايين اللاجئين إلى أرضهم التي طردوا منها.
هذا الحضور الكبير والواسع الذي تمثّل أيضاً في المشاركة في برقيات العزاء وكلمات التأبين وإيراد مناقب الرجل هو أبلغ ردٍ على سوء التعاطي الإسرائيلي مع عرفات من خلال حصاره لمدة ثلاث سنوات في مقره الرئاسي المدمر في رام الله والمحاولات المستمرة للتقليل من شأنه.
ولهذا ولغيره فإن عرفات، وهو ميت، لا يزال يقلق إسرائيل ولا تملك حكومة شارون فكاكاً من هذا الهاجس المتمثّل في طيف عرفات، وهاهي ترى بأم عينيها وبال ما أقدمت عليه حينما حاولت نفي الرجل وإسقاط وجوده من مسرح السلام والتسوية، وهاهي ترى العالم كله يتحدث عن رجل السلام والشخص الأكثر أهليةً للتعاطي معه في هذا الشأن، كما يتحدث العالم عن ضياع فرصة السلام الحقيقي مع وجود عرفات.
وبينما يتحدثون الآن في إسرائيل والولايات المتحدة عن فرص أوسع للسلام مع غياب عرفات إمعاناً في محاولة إبعاد الحضور القوي له حتى وهو ميت، فإن وقائع التشييع وما سبقه من متابعة لصيقة لظروف مرض عرفات قد أوضحت الارتباط الوثيق للشعب الفلسطيني بمختلف فصائله بياسر عرفات، وهو ارتباطٌ تجسد في شكل مشاعر جياشة عبّرت عن نفسها بقوةٍ وعنفوان وحزنٍ عاصف ساعة الإعلان عن وفاة الرجل، وفي كل ذلك وغيره تأكيدٌ واضح على المدى البعيد لارتباط الفلسطينيين بنهج عرفات وقناعتهم بصوابيته، ورفض كل الترهات الإسرائيلية المدعومة أمريكياً عن قيادة بديلة تقبل التنازل عن الثوابت الفلسطينية التي كان عرفات يعض عليها بالنواجذ.