Sunday 14th November,200411735العددالأحد 2 ,شوال 1425

     أول صحيفة سعودية تصدرعلى شبكة الانترنت

انت في "مقـالات"

(ياسر عرفات) .. صاحب التهكم الفلسطيني (ياسر عرفات) .. صاحب التهكم الفلسطيني
نادر عبد الله (*)

كنا ذات يوم يساريين ، وكان عرفات يمينيا ، وبالفعل حينما كنا نمر بجانب مواقع اليمين المنتشرة في كل مكان تقريبا ، وبأشكال متعددة لا تحصى ، داخل المخيمات ، وخارجها ، كنت أنظر إليهم, بوصفهم شيء ما هجيني ، والغريب أنني حينها لم أكن مثقفا ، كما أنني لم أكن قد قرأت شيئا يذكر بعد ، حتى في المجال اليساري نفسه ، وأن المسألة لا تتعدى مجرد هذا الانتماء الذي أعلن عن نفسه منذ البدء في دخيلتي بموقف شبه حاسم ، يقسم العالم إلى معسكرين ، والمجتمعات إلى طبقتين ، والثورة الفلسطينية إلى يمين ويسار ، لكنهم علمونا في التنظيم منذ البداية مفردة جديدة لم أكن أسمع بها من قبل (القاسم المشترك الوطني) ،
قبل ذلك ومنذ الطفولة حين اشتركت بأول مسيرة غاضبة ، أحمل علما وأركض خلف ثلاثة جثامين رمزية (شهداء فرداي) وكان كل شيء حولي فتحاوياً ، دون أن أعرف ذلك أو أعيه أو أميزه ، السيارات ، الأناشيد ، الأغاني الوطنية ، الشعارات ، صور أبو عمار والقادة الثلاث ( لكمالين والنجار) وذاك القائد الغامض الملوع إلى أقصى حد - أبو علي إياد - في مخيلتي الطفولية آنذاك ، ولا تزال هذه الشخصية إلى اليوم في مخيلتي تائهة ، بمنتهى العزيمة والإصرار في أحراش الأردن ، يومها وعلى نحو عفوي وغير واع ٍ إطلاقا ترسبت فلسطين في ضميري ووجداني بهذا المشهد - سيظل هذا المشهد مثل تميمة محيرة ، أحملها في دخيلتي ولا أستطيع الاستغناء عنها ، رغم تأففي (السياسي) لوقت طويل منها- ، وهكذا فإنني لاحقا حين انتهيت إلى اليسار الفلسطيني مدفوعا بنزعة توقية ، عشقية للماركسية كمفهوم لعالم بدائي ساحرا ومؤكدا ويقينيا ، وصرت أنظر لجماعة عرفات بوصفهم (هجينة) ، فهذا لأن اليقين الماركسي في دخيلتي بدأ ينظر لكل شيء خارجه بوصفه حالة ما قبل جنينية ليس بمقدورها أبدا - بحكم رؤيتها ووعيها القاصر للعالم ، أن تتحول إلى هذا الجنين الذي نمثله ، وعما قليل سيستحيل مارداً.
هكذا بالفعل ، فقد كنت أنظر حينها إلى ذاك (الهجين اليميني) بوصفه عدوا جوهريا للفكرة التي أحملها ، وبالتالي للتنظيم الذي أنتمي له ، إذ برغم أن التنظيم كان قد لقننا مفهوم (المشترك الوطني) إلا أنه راح يغذي بداخلنا على نحو حثيث نزعة كارهة للآخر بشكل عام ، وكل ذلك انطلاقا من البنية الأيديولوجية النقية التي نتمتع بها نحن بالذات ، وكان هذا الكره يعبر عن نفسه بالتهكم من الآخر وازدرائه في اجتماعاتنا ، وأمسياتنا ودواويننا ، وبالفعل فإنني لاحقا اكتشفت أن نميمة التهكم على الآخر - الفصائل الأخرى - كانت واحدة من أهم نواميس الثورة الفلسطينية ، التي حافظت على الوحدة الوطنية ، إذ ان كل تنظيم كان يقبل الآخر انطلاقا من استعلائية تهكمية ضمنية.
وفي الحقيقة فإن جوهر هذا التهكم هو المعادلة التي فرضها الواقع النضالي الفلسطيني نفسه ، فكل تنظيم كان مضطرا للانخراط في المشترك العام النضالي - اليومي ، وبنفس الوقت كي يحافظ على أعضائه من التسرب إلى التنظيمات الأخرى بسبب هذا التداخل والاحتكاك ، زودهم بهذه العنصرية التنظيمية الاستعلائية التهكمية ، فالتهكم كان يسمح ليس فقط بمعاشرة الآخر دون الخوف من تأثيراته ، بل والسماح له بقيادتنا والتسليم له ، وللكثير من قراراته ، انطلاقا من هذا الضمر التهكمي اتجاهه ، فمثلا كنا نقول لبعضنا ما يشبه التالي : (هكذا يريد المزاج الجماهيري ، واليمين ذكي بامتطاء هذا المزاج) ، (هكذا يريد اليمين لأن عرب أمريكا أوعزوا له بذلك) ، (هكذا يريد أبو عمار ، والرب وحده لا يعرف لماذا ؟ والسبب أن اليمين بدأ يقلق على موطأ قدمه) وهكذا .. نلاحظ هنا أن التهكم من اليمين كان يتضمن على نحو غير واع وعلى نحو واع أيضا التسليم له ولقيادته ، إذا نحن نذعن لقراراته بطريقة التهكم الذي يتضمن التسليم له والاستعلاء عليه في نفس الوقت.
وأذكر أننا كنا ذات يوم في مواقع عسكرية مشتركة لعدد من الفصائل وكانت معركة عابرة صغيرة دائرة بيننا وبين الحداديين - نسبة إلى سعد حداد - لعدة أيام فجاءت أوامر أبو عمار لوقف إطلاق النار من جانبنا ، وفعلا التزمنا بالقرار فورا ، في حين ظلت المدفعية الحدادية تدك مواقعنا, وبعد مرور نحو ثلاث ساعات جاءت الأوامر من قيادة أحد الفصائل بعدم الإذعان لقرار وقف إطلاق النار الذي أخذته (القيادة اليمينية المشبوهة) ، كما عبر عنه أعضائه في الكواليس ، وبعد جدل ومشاكسات بين هؤلاء وجماعة عرفات كادت أن تدفع باتجاه صدام مسلح تمكن العرفاتيون بالتهديد والوعيد والعين الحمراء من تثبيت وقف إطلاق النار ، لاحقا أيضا انتبهت إلى أن هذا الفصيل هو الوحيد تقريبا الذي لم يستطع أن يغذي في دخيلة أعضائه نزعة التهكم ، وإن نزعة الحقد والكره قادته بعد سنوات إلى صدام دموي رهيب مع عرفات ، ولا شك ان هذا الصدام كان خارجا تماما عن إرادة عرفات ، ووقع رغما عنه ، لأنه ضمن الشروط الجديدة كانت نزعة أخرى هي التي تتحكم بالقرار ، وليس نزعة التهكم التي اعتقد أن أبا عمار صاحبها ومؤسسها الأول في الساحة الفلسطينية ، والتي كانت تحول دائما دون صدامات دموية كبيرة ،
في ذلك الزمن رحت أضيق ذرعا بتنظيمي ، حيث وجدت نفسي متورطا ببرنامج عمل يومي لا ينتهي ، كنت أنظر إلى جيراننا الفتحاويين وأغبطهم على الهناءة التي ينعمون بها ، لا اجتماعات ، لا حلقات فكرية ، لا مناقشة افتتاحيتي التنظيم وجريدة السفير كل يوم ، لا تلميع البساطير العسكرية وإبقائها ما أمكن نظيفة, كانوا يحتذون بساطير كتانية ، لا تشحيم الأسلحة كل يوم للتعود على النظام وتنفيذ البرنامج ، والأكثر من ذلك لا التزام صارم في المعسكرات ، لقد كانوا بالفعل أحرارا ، وهكذا صار ينبعث من داخل تهكمنا على حياتهم العسكرية الفوضوية ، من وجهة نظرنا ، شعور مضمر بالحسد بحيث أننا أقلعنا عن مشاكستهم عندما يمرون من جانبنا ويسألوننا بتهكم : ما هي أخبار لينين اليوم ؟ يا رفاق شو أخبار الرفيقة ؟ وعلى ضوء ذلك أتساءل اليوم لماذا ظل أغلب الفتحاويين ، ما عدا قلة ذات نزعات سياسية محددة ، وخلفهم الشعب الفلسطيني ، يكنون لأبي عمار محبة ومودة خالصة ؟
من السرد السابق يتضح جانبا من السبب ، فبرنامج شبه حديدي كالذي كنا نمارسه ينفع فئة صغيرة تضم معسكراتها دوما شبانا دون العشرين ، بينما كان أبو عمار قائدا للشعب الفلسطيني ، ففي معسكراته كان هناك مختلف الأعمار ومختلف الآراء والمعتقدات السياسية حتى أنني اليوم عندما أستعيد تلك الأيام أكتشف أن ما كان يطمئنني في وحشة المعسكرات الخلفية للطبيعة اللبنانية الجنوبية هو رؤيتي للكوفيات العرفاتية التي يعتمرها حولنا رجالا كانوا في عمر والدي ، إضافة إلى ان الصراع العسكري مع إسرائيل كان ينضوي من وجهة نظر العرفاتيين بغير قصد واع ، تحت مفهوم التهكم نفسه ، فهم كانوا يعرفون ، أو يمارسون دون أن يعرفوا إثبات الوجود فقط وهذه النقطة : إثبات الوجود هي التي كانت قاسما مشتركا بين عرفات وجنوده ، كان قاسما متفقا عليه ضمنا لأنه قاسما صميميا لدى كل منهما ، وما تبقى لا أحد يسأل أحدا عن شيء ، لذلك فان العرفاتي كان بإمكانه ان يعيش حريته كاملة انطلاقا من مبدأ التهكم نفسه.
وأذكر أنه في صيف عام 1979 كنت أتناول الغداء مع صديق فتحاوي في معسكر لفتح جنوب الصرفند ، وكنا نلاحظ من موقعنا عناصر أحد الفصائل وهم يعملون بدأب في سفوح جرف جبلي عالي ، يصنعون في جوفه أنفاقا فعلق رجل فتحاوي مسن قائلا : أعانهم الله على عقولهم ، ما فائدة الانفاق إذا لم تستطع حمايتها من احتلال مباشر ، وبالفعل فإنني لحظتها ولأول مرة رحت أتخيل الجنود الإسرائيليين وهم يتناولون الطعام في المكان الذي كنا فيه ،
إذا نلاحظ ان العرفاتيين كانوا يدركون الوهم الذي يحيط بالمكان ، فكان الرد ليس الاندفاع في أعمال حمقاء أو الاستسلام والهزيمة بل التهكم ، فبمقدور العرفاتي أن يتهكم على عيشته وعلى سلاحه وعلى معسكره وعلى أفكاره ، وأيضا على قضيته بنفسها وضمنها ياسر عرفات ، وليس مطلوبا منه سوى حضوره ، حضوره في المعسكر أحيانا ، وحضوره في التنظيم دون أي صلة سوى حضوره نفسه ، وحضوره في الفضاء الفلسطيني العام ، كانت فتح تشبه المجتمع الفلسطيني ، فكما في المجتمع طبقات أغنياء وفقراء كانت فتح أيضا كذلك ، بيد أن الأب لم يكن فقط يرضي الجميع ويحقق القدر المطلوب من العدالة التي يسعى إليها الفقراء دائما ، بل كان ينتمي بسلوكه ومعاشه إليهم ، وراح يخيل إليهم كحقيقة أكيدة أنه يرتاد معهم مختلف الأسواق والمطاعم الشعبية الهامشية وأزقة المخيمات والمعسكرات النائية ، والمهرجانات الجماهيرية على مستوى مخيم واحد ، نعم كان الفلسطيني بشكل عام يعتقد أنه إذا ما مد يده ستكون على كتف أبو عمار ، رغم أنه يسخر له بنفس اللحظة قسطا مهما من التهكم ، التهكم حتى من مشروعية وجدوى كل ما يقوم به ، إن أبو عمار الذي قاد الشعب الفلسطيني ، كما ظل يقال بثلاث أو أربع مقاطع قرآنية كريمة وعددا من الديباجات من نمط (نحن في مجرى التاريخ وسننتصر طال الزمن أو قصر) ، (يا جبل ما يهزك ريح) ، هو في الحقيقة كان يقود الشعب الفلسطيني بالتهكم ، لكنه بالنهاية التهكم الذي تنتجه مأساة فريدة تعتمد على استمرار الوجود والأمل ، والأمل في الحالة الفلسطينية لا يخلقه التنظير السياسي للقائد أمام شعبه وجنوده ، ولا بالتنظيم الحديدي ، ولا أي نوع من أنواع الصدامية الديماغوجية ، أو التزمت العصامي الأخلاقي, كان يحتاج إلى رصانة مختلفة ، ينابيعها الوجود والأمل وموضوعها المأساة والتراجيديا ، وأسلوبها التهكم المضمر الذي يفرضه هذا النوسان بين الحقيقة والوهم , لكنه الخالق للحماسة وشيء من العمل والاعتداد ، حماسة لطالما قطفتها من أفواه العامة ، من داخل تهكمهم ، وحتى تشبيهاتهم التهكمية الكثيرة التي يطلقونها على أبو عمار نفسه ، كانوا يقولون (الله يسعدو) كانوا يقولونها برضى ومودة ونقاء سريرة ، وكل ذلك مشوبا بتحد لشيء ما غامض ، لأعداء كثيرين .

(*) كاتب فلسطيني مقيم في دمشق


[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][الأرشيف][الجزيرة]
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الىchief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الىadmin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت
Copyright, 1997 - 2002 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved