Tuesday 23rd November,200411744العددالثلاثاء 11 ,شوال 1425

     أول صحيفة سعودية تصدرعلى شبكة الانترنت

انت في "مقـالات"

الأزمنة الأزمنة
شيء من ذكريات رمضان والعيد
عبدالله بن إدريس

كنا في صبانا وأثناء ما كنا نحاول أو يحاول بعضنا إتقان تلاوة القرآن دون أخطاء تذكر، نتنافس فيما بيننا في عدد ختمات القرآن الكريم في (رمضان) والذي يختم القرآن خمس مرات فما فوق يعتبر مبرزاً في هذا المجال.. ويفرح به أهله ويشجعونه بالكلمات (الحلوة) بدل (الحلوى) التي لا يوجد منها سوى حبات (الملبس) والتي هيهات أن نحصل عليها إلا إذا جاءت (أم المناخل)، وهي دلالة لا يعرف اسمها إلا هكذا (أم المناخل)، تحمل فوق رأسها (زبيلاً) أو زنبيلاً فيه أقمشة نسائية، وشيء من حبات (الملبس) وحب القرع المصبّغ، التي يسيل لها لعابنا ونلح على الوالدة - رحمها الله - أن تشتري لنا من هذا (الملبس) كجائزة على كثرة ما ختمنا من القرآن في هذا الشهر المبارك، وتحاول الوالدة أن تقنعنا بأنها لا تستطيع أن تشتري، فليس عندها (بياز) كعملة قديمة ولكن هيهات أن يقتنع الصبيان ذكوراً وإناثاً بحجة العدم، فالمثل أو الحكمة تقول: (المرأة والطفل الصغير يحسبون الرجل على كل شيء قدير).
وقد ندرك مرادنا بالبكاء، فتأخذ من الدلالة عدة حبات توزعها علينا، وقيمتها مؤجلة إلى أن يأتي الوالد - رحمه الله - من إحدى سفراته فيعطيها ما تيسر لتسدد منه بعض الحاجات التي اشترتها في غيبته مسافراً.
تكون المنافسة بيننا في قراءة القرآن بالمساجد أحياناً بين مجموعة وأحياناً بين اثنين وهو الغالب.
وأذكر أن المنافس لي واسمه (ن) لما رآني قد تجاوزته بصفحات مفرود، عمد إلى القفز من حيث قرأ إلى ما هو أكثر مما قرأت فرفضت المنافسة معه لأنه غشّ وكذّب.. وحاول بقوله (تكفى يا عبدالله، أجل لا تعلم أحد) وما علّمت أحداً عن هذا الغش التنافسي إلا هذا اليوم!
كانت همتنا - صغاراً وكباراً - في رمضان أكبر بكثير من همتنا في هذه العقود المتأخرة رغم ما أسبغ الله علينا من نعمه التي لا تعد ولا تحصى.
كانت المساجد كخلايا النحل للتالين للقرآن الكريم من صبيان وشباب وكهول وشيوخ مع ما هم عليه من ملاحقة لقمة العيش للكفاف وما دون الكفاف، وكان الإفطار تمرات (وطيس) الماء المبرد في القربة والعشاء بعد المغرب أو بعد العشاء، كل حسب ظروفه، أما الإمكانات المادية فأغلبها الكفاف فما دونه..!
لم يعرف أحد ممن عاش قبل (ستين) عاماً - شيئاً من متع الحياة ورفاهيتها، اللهم إلا الملوك والأمراء والأثرياء.. وهم قلة قليلة حتى تلك الرفاهية كانت محدودة النوع والعدد..فقد كان الفقر والعوز سيدي الحياة ولكن مع احتفاظ المجتمع بكامل القيم والمثل والأخلاق، حتى لو أشرف عليهم الموت جوعاً وحاجة على حد المثل العربي: (تموت الحرة ولا تأكل بثدييها)!
* * *
كانت صلاة التراويح والقيام (وسط) الليل تختلف من إمام إلى آخر قصراً وطولاً.. فبعضهم يتعب الكبار السن من طول القراءة في التهجد، ويتكئ بعضهم على العصي وعلى أعمدة المسجد.. أما نحن الصبيان فلا نبالي بطول القراءة خاصة أننا نتعلم منها مزيداً من المعرفة وتحري المعاني للمفردات القرآنية.
ولم أنسَ حتى الساعة أن إمام مسجد عسيلة طلب من أحد جيران المسجد أن ينوب عنه في صلاة التهجد فقرأ في الركعة الأولى من (التسليمة الأولى) من بداية سورة البقرة حتى نهاية الجزء الثاني.. وفي الركعة الثانية قرأ آخر البقرة وسورة آل عمران أي قرابة (4) أجزاء في الركعتين الأوليين من القيام.
بطبيعة الحال كانت السرعة في القراءة حينذاك هي سيدة الموقف في قيام رمضان، وبعد أن سلم هذا الإمام المؤقت نبه برفق بعض المصلين الذين تعبوا كثيراً من هذا التطويل الشاق عليهم.. فغير طريقته في مستقبل الليالي وخفف على المصلين - رحمهم الله رحمة واسعة - وهذا الاجتهاد في إطالة القراءة في صلاة القيام باعثه أمران: الأول البحث عن الأفضلية والمزيد من الأجر.. الأمر الثاني الحرص والتنافس على عدد ختم القرآن بالمصلين رجالاً ونساءً.. بالرغم مما هم عليه من ضعف الغذاء ومشقة العمل اليومي خاصة الفلاحين منهم والجمالين - رحمهم الله وأثابهم -.
* * *
ليلة العيد وما أدراك ما هي..!
إن ليلة العيد وبخاصة عيد الفطر.. تعتبر معلماً من معالم السعادة والسرور في العام كله.. ويتمثل ذلك ببساطة متناهية في (القطة) بين الشباب من (ربع ريال) فما دون، لشراء كمية من الشاهي والسكر والزنجبيل ثم الاجتماع في (قهوات) متعددة للاستئناس واحتساء (الحلو) والمنادمات البريئة.. اللهم إلا من بعض كبار الشباب المدخنين.
أما بالنسبة لنا نحن الصغار ذكوراً وإناثاً فأهم شيء نسهر عليه ليلة العيد، هو ملاحقة الأمهات - رحمهن الله - في إنجاز ملابسنا التي تخيطها الأم، وقد تعاونها بعض الصديقات في إنجاز ما لم ينجز منها، وكل أعمال الخياطة في ذلك الزمان باليد قبل وجود مكينة الخياطة التي أصبحت في بداية ظهورها عندنا محل (فرجة) واستغراب.
ومع الثوب الأبيض الذي يسمونه (المقزور) نُلبس الشماغ القافز والطاقية المزركشة، أما الحذاء فلا وجود له في دنيانا تلك.
ليلة العيد لغير الساهرين على شرب (الحلو).. هي ليلة رباط لحراسة وحماية (المُعَيَّد) أي تقاطع الشوارع الذي تزين جدرانه بالنقوش الجميلة بمادة (المغر) البني المستخرج من بعض الجبال هناك.
وتقوم حول هذه المعيدات حروب بالمراجيم والمقاليع كسلاح المقاومين الفلسطينيين.!
وكثيراً ما يعمد أصحاب هذا المعيد إلى إفساد نقشة المعيد المنافس لهم.
وعند صلاة العيد يذهب الكبار ومعهم بعض أولادهم.. ويبقى آخرون لحراسة الثغور!! فإذا قضيت الصلاة توجه الجميع إلى أماكن التجمع، ثم أتى كل بوجبة عيده، ووضعوها على الفرش المطروحة في تقاطع الشوارع.. وأخذوا يتنقلون من صحن إلى آخر.. يتذوقون طعومها ويقارنون بينها، وهي غالباً من الجريش والرز.
وتعتبر هذه الأكلة الجماعية السنوية معلماً آخر من معالم العيد يفرح بها الصغار والكبار على السواء، حيث التنافس الشديد و(التغابن) بين ربات البيوت في صناعة وجبة العيد..! فا(الغابنة) هي التي يرجع إناؤها وليس فيه شيء.. (والمغبونة) من يرجع إناؤها موفوراً..!!
***
نسيت أن أذكر اليوم الذي يسبق يوم العيد الذي نسميه (الحوامة) حيث نطرق الأبواب التي نظن بها خيراً، ونطلق النشيد الصبياني:
عطوني عيدي.. عادت عليكم في حالٍ زينة
فإن فتحت صاحبة البيت باب بيتها ودعتنا للدخول وقد وضعت في ردن ثوبها ما تيسر من القريض وحب القرع الملون، والكليجا والفتيت تصبه في (مخابينا) مغتبطةً ونحن مغتبطون، وبعضهن تدخل يدها في جيب الصبي كأنها تعطيه وهي تسرق منه - غفر الله لهن - وفي النهاية يستمعن إلى نشيد الشكر:
(عشاكم شط الفاطر، وإدامه سمنٍ ساكر، وأم محمد تبلّه، والحايل قفرة له).. أما إن أُقفل الباب دوننا ولم نُعطَ شيئاً، فليبشروا بالهجاء المر..! وهو عبارة عن كلمات عاكسة لكلمات الشكر. ولا أريد أن أذكر نصها لما فيها من قسوة الهجاء الضاحكة..! وكثير من البيوت تحرص على درء هذا الهجاء بإحضار ما تيسر وما يسد الألسنة حتى ولو كانت حالتهن المادية بائسة..
إنها رموز أخلاق كريمة في تلك السنين الغنية بالقيم وإن افتقرت إلى المادة..

يتبع


[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][الأرشيف][الجزيرة]
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الىchief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الىadmin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت
Copyright, 1997 - 2002 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved