Monday 6th December,200411757العددالأثنين 24 ,شوال 1425

     أول صحيفة سعودية تصدرعلى شبكة الانترنت

انت في "مقـالات"

النمطية العربية النمطية العربية
د. عبدالرحمن الحبيب

نحن مسكونون في مجتمعاتنا العربية بفكرة النمط الواحد.. الجماعة الواحدة، التقليد الواحد، القيمة الواحدة، الفكر الواحد.. لتضمحل المبادرة الفردية والحرية الشخصية وخصوصية الفرد وحقه في الاختلاف الشخصي مع الآخرين.
وبغياب الاستقلالية الفردية نفتقد إحدى البنى الأساسية للإبداع والابتكار، إضافة لخنق روح المواطنة في الفرد ومشاركته في اتخاذ القرار. فالمواطنة ليست غرضاً إجرائياً نطالب به فقط، بل هي أيضاً قناعات وسلوك ونمط معيشة. صحيح أن هناك تشريعات وأنظمة وضوابط تلزم أفراد المجتمع باتباعها، ومن واجب الفرد الالتزام بها، إلا أن الحديث هنا عمّا تركته الأنظمة خياراً متاحاً للحرية الشخصية، ناهيك عن أن تفسير كثير من الأنظمة والضوابط الاجتماعية يخضع لسقف التصور النمطي الضحل ليصل إلى حدٍّ من الضيق لم تقصده تلك الأنظمة.
على المستوى الاجتماعي، كم نسبة الشباب الذين لا حرية لهم في اختيار: تخصصاتهم الجامعية، هواياتهم، طريقة عيشهم، زوجة المستقبل، ملبسهم، مأكلهم.. الخ، وكم من الشابات اللواتي لا حق لهن أصلاً في هذه الاختيارات؟ كم من زوج وقع على وثيقة خاصة بزوجته دون مشورتها مفترضاً أنه قراره لا قرارها؟ لماذا يصر الوالدان والجماعة أنهم معنيون باختيار زوجة الشاب الذي ينتمي إليهم أكثر منه؟ لماذا يقرر أحد الوالدين أو كلاهما على تحديد مستقبل ابنهم المهني أو الدراسي باعتباره مستقبلهما لا مستقبله هو؟ كل هذه الحقوق المسلوبة وانتزاع القرارات الخاصة لم يقره لا تشريع ولا نظام إنما هو العرف والنمطية التقليدية في السلوك. وذلك ينطبق على المعلم الذي أسبغ على نفسه حق تفسيره الأبوي في مصادرة كثير من هوايات الطلبة، أو إجباره الطلاب على تبني وجهة نظره الفكرية أو السياسية الخاصة به، وعلى المسؤول الذي يصدر من القرارات التعسفية وفق نظرته الفردية، ويطلق تعاميم فوقية لا تكترث بآراء الموظفين أو مشاعرهم..
تحاصرنا على المستوى الفكري العام نمطية ذهنية وثوابت فكرية وهمية ومحضورات لا تحصى.. فهنا الأصل في الاختلاف المنع!! حيث تكون الاستنتاجات غير النمطية في دراسة الأفكار الفلانية ممنوعة قطعياً شكلاً ومضموناً، وتناول المواضيع الثقافية والاجتماعية الحساسة يمنع الاقتراب منه. وفي الحوارات الفكرية التي تتم والاجتماعات المهمة، غالباً نسمع أنه لا خلاف بين المتحاورين وأن كل شيء على ما يرام. بينما الحوارات تتم عادة للتثاقف بين مختلفين أو متخاصمين وإلا كانت مجرد محاضرات تلقى للتعليم ولا تبحث في تناحرات أو إشكاليات واقعية.. فالاختلاف مسألة طبيعية صحية، والاعتراف بها وتشريعها يعمل على تفعيل وتنشيط الحياة الاجتماعية والاقتصادية، بها ينال الأفراد والجماعات حقهم في الاختيار وعدم الإقصاء وتلافي الاحتقان الداخلي، ويتوفر للوطن الاستقرار الاجتماعي وفرص التنوع المبدع وانتقاء الأفضل من الخيارات المتعددة.
وتفريعاً من المستوى الفكري العام، نجد من يخرج عن سرب النمطية الأدبية (تقليدية كانت أو حداثية)، يواجه هجوم الكتاب النمطيين بقسوة، مما أدى إلى التراجع الكبير على المستوى الثقافي لحركة الإبداع والأدب والفن والتفاعل مع حضارات الآخرين وتجدد الأجيال.
وفي الجانب السياسي فإن من يطرح تصوراً سياسياً مخالفاً في قضايانا القومية تلصق به التهم. فأغلب المثقفين العرب لا يناقش معك القضايا السياسية إلا من باب التأييد المتبادل، ففي ما يخص القضية الفلسطينية، إذا انتقدت عسكرة الانتفاضة أو انتقدت مقاطعة التيارات المعتدلة في صفوف الخصم أو انتقدت مسيرة الكفاح المسلح مطالباً بالمقاومة السلمية.. الخ، فأنت متهم أو ربما مدان سلفاً!!
لا وجود للحرية الفكرية للفرد وحق الاختلاف والنقاش حوله، بل نمط واحد يتم تأكيده بغض النظر عن فشله الذريع أو نجاحه الرائع أو ما بينهما... مجتمعات لا تحترم الحق في الاختلاف ولا التجديد.. وغالباً ما يكون البطش من الأصدقاء المثقفين وارتيابهم العصابي قبل الجهة الرسمية وجهازها البيروقراطي.
لم يعد بمقدور شطر واسع من المعنيين بالثقافة والفكر أن ينخرطوا في القضايا المستجدة إلا من باب الذعر من التجديد والتوجس من مؤامرة الآخر المتفوق الذي يصدِّر تكنولوجيا غريبة تتقدم كالإعصار وعولمة تصهر الأمم في بوتقتها.. فالتكنولوجيا المادية تغييب للروح وتغريب للذات، ومعلوماتية ما بعد الحداثة تسليع للإنسان، والرقميات الإلكترونية تسطيح للمعرفة، والعولمة تضييع للهوية، والخصخصة مؤامرة رأسمالية، والشركات العابرة للقارات هيمنة إمبريالة.. وكل تغيير قادم فتنة عارمة.. والإبداع باب للشر!! الغريب أن أفق التنوع في مجالنا الثقافي العربي يكاد أن يغدو مسدوداً نتيجة المثقفين حراس الفضائل والقيم أكثر مما هو نتيجة الأنظمة حراس الحدود والأمن.
إن منح المجال لفكرة جديدة أو لمنهج مخالف لا يعني كرماً إنسانياً أو مثالياً من الطرف المسيطر بقدر ما يعني ضرورة إتاحة الفرصة للجميع لبناء المجتمع وتسييره في الاتجاه المناسب.. إنها المشاركة في تسويغ فكرة أو منهج ما يتحمله الجميع أو الأغلبية، ومن ثم فإن مسؤولية الخطأ تقع على هذه الأغلبية.. وهي في ذات الوقت إفساح المجال لفكرة أو منهج آخر قد ينجح حين يفشل الطرف المسيطر.. فتنوع الآراء هو إثراء لأصحاب القرار كي يختاروا الفكرة الأنفع ، وهو في ذات الوقت إفساح المجال لتبني فكرة أخرى حال فشل الفكرة المستخدمة.. مما يعني فتح المجال لنظريات إبداعية قد تسعف وقت الحاجة.
فتنوع الآراء ليس ترفاً بقدر ما هو تنويع للخيارات المصيرية!!
لا اعتراض ولا خلاف أن يكون لأي مجتمع أو جماعة نمطها وعاداتها وتقاليدها من مأكل وملبس ومسكن وقناعات وأفكار، بل هذا هو المألوف، إنما الاعتراض على حرمان الفرد من حقه في الاختلاف الشخصي في زمن المدن وثورة الاتصالات وانفجار المعلومات.
استبداد النمطية ومصادرة الحرية الشخصية وسلب المبادرة الفردية هي من مظاهر القمع في أساس البنية التحتية للمجتمعات العربية، التي نرى انعكاساتها المباشرة وغير المباشرة على كافة المستويات من تربوية وثقافية وسياسية وإدارية..


[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][الأرشيف][الجزيرة]
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الىchief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الىadmin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت
Copyright, 1997 - 2002 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved