Saturday 18th December,200411769العددالسبت 6 ,ذو القعدة 1425

     أول صحيفة سعودية تصدرعلى شبكة الانترنت

انت في "مقـالات"

المنشود المنشود
الحق المستباح!!
رقية الهويريني

لم يكن شمس الدين الوحيد من العمال الذي أراه مع إشراقة الصباح وأنا متجهة إلى عملي، بل يصافح عينيَّ أسطول كامل من عمال النظافة من حين خروجي من منزلي حتى وصولي لعملي، ويعتريني الأسى ويعتصرني الألم حين أرى تلك السحنات (الشاحبة)، والنظرات الحائرة، وقلة الحيلة والضعف الذي يعتري أولئك الرجال، وهم بالفعل رجال أجبرتهم ظروف الحياة على تنظيف وكنس شوارعنا ورفع نفاياتنا التي تحوي إسرافنا وبطرنا! بينما (شمس الدين) وزملاؤه قد لا تتوفر لهم وجبة واحدة هانئة.
قادتني دوافعي الإنسانية - إبان شهر يوليو الفائت (جمادى الآخرة) في درجة حرارة تقترب من الخمسين - إلى أن أمنح شمس الدين، الموكل له نظافة شارعنا، فطيرة مغلَّفة وكأساً من العصير البارد، فتناولهما بامتنان. وعاودتُ هذا العمل حين رأيته أمام منزلي وهو يكنس الشارع، فاستبطأني قليلاً وسلَّمني ورقة مهترئة، وأذهلني ما اشتملت عليه الورقة؛ اسم مؤسسة النظافة واسم العامل ومقدار الراتب وعدد ساعات العمل بالتفصيل (ثماني ساعات في واحد وثلاثين يوماً)، وفي ذيل الورقة صافي الراتب (مائة وخمسة وعشرون ريالاً)، والتأمينات (خمسة وسبعون ريالاً)، ثم توقيع العامل على الاستلام!!
وقد اطلعت كغيري على لائحة تنظيم وزارة العمل بخصوص تنظيم حقوق العمال والمعروضة على مجلس الشورى الذي أقرها بأغلبية الأعضاء. وأُشيد بموقف وزير العمل الشجاع ووقوفه الصامد لتحسين وضع العمالة الوطنية والوافدة. وأعدُّها فرصة لأطرح الأمر على وزير العمل، وهو الأديب الأريب، الشاعر صاحب المشاعر، حامل هموم العمالة، وعلى أمين مدينة الرياض؛ لكشف الغطاء عن إهدار حقوق عمال (النظافة) بوجه خاص، ومَن هو المسؤول الحقيقي عن متابعة استلامهم حقوقهم كاملة، ونحن نعلم أن أولئك العمال عوانٌ لدينا وفي ذمتنا، فكيف يكونون في بلادنا بينما تقوم فئة من شركات النظافة بامتصاص جهدهم، ومصادرة حقوقهم، وأكل أموالهم بالباطل؟! (مائة وخمسة وعشرون ريالاً مرتب شهري)؛ أي أربعة ريالات في اليوم! ماذا عساها أن تفعل يا معالي الوزير ويا سمو الأمير الأمين؟! وهل تكفي لشراء وجبة إفطار هزيلة لعامل يكدح ثماني ساعات؟!
ونحن نسمع ونقرأ بين آنٍ وآخر عن هروب عمال من كفلائهم أو مداهمة مساكن شعبية يقوم فيها آخرون بتصنيع الخمور، أَوَلَمْ نتساءل قط عن الأسباب والدوافع التي جعلتهم يعمدون للقيام بتلك الأعمال المخالفة؟! أليس من المنطق والإنصاف أن نعطيهم حقوقهم كاملة؛ حتى لا يتجهوا للقيام بمخالفات وإفساد في الأرض؟! وكيف نعاقبهم ونحن لم نمنحهم حقوقهم كاملة؟! والتاريخ الإسلامي ينقل لنا عن الخليفة الزاهد والإداري الناجح عمر بن عبد العزيز قيامه برفع أجور العمال؛ حتى لا يعمدوا إلى أخذ الرشوة!!
وعليه، فلا بدَّ أن يدرك الكفلاء أن عليهم واجب الالتزام بمفردات العقد وتسليم العمال رواتبهم كاملة؛ لأن عدم الوفاء به يدفع العمال إلى نهج سلوكيات خاطئة وخطيرة! والله تعالى يقول: {أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ}، وعدم إعطاء الأجير أجره يُحدث مشاكل عديدة شرعية وأمنية، هذا عدا الخوف من عقاب الله وسخطه حين لا يُعطى العامل أجره كاملاً!! مع مراعاة الغلاء الذي يسيطر على العالم ونحن جزء منه وفيه!! ألا يكفي تجرُّع مرارة الشقاء في أفواههم، ومضغ ألم البُعد عن أُسرهم، ومعاناة الغربة عن بلادهم؟! ثم يُجهز عليهم بتأخر استلام رواتبهم والحسم منها!! في حين يحرص أصحاب الشركات على استلام حقوقهم من الجهات الحكومية كاملة، بينما لا يمنحون العمال إلا الفتات!!
ولا غرو- إذاً- أن سبب هروب العمال هو تأخر كفلائهم عن دفع المرتبات (الضئيلة) التي تصل إلى الشهور، متناسين أن لهم احتياجات والتزامات مالية، ولديهم أسر تعتمد في معيشتها اعتماداً كلياً على رواتبهم الشهرية.
ولعلنا نتفق أن العمالة لم تحضر وتتكبَّد الغربة والحرمان إلا لأجل المال، والمال وحده! ومَن يعتقد أن المعاملة الحسنة - وحدَها- دون تسليم الراتب كاملاً في حينه يجعل العامل يتحمل ويقدِّر الأوضاع الاقتصادية للمؤسسة أو الشركة أو الأسرة فهو واهم مهما كانت تلك الأوضاع!! على أن تسلُّط رؤساء العمال عليهم ومعاملتهم بقسوة والحسم من مرتباتهم البائسة يعدُّ من الأسباب التي تؤدي إلى هروبهم. ولعلها دعوة لأفراد المجتمع -عموماً- إلى دفع صدقاتهم وما تجود به نفوسهم لهؤلاء العمال، فهم أولى من المتسولين، لحين استيقاظ ضمائر كفلائهم، ومتابعة وزارة العمل لأوضاعهم، والمطالبة برفع أجورهم المتدنية!!
وبعد، هل نجيد -حقاً- الأسلوب المثالي في التعامل مع العمالة بشكلها المتعارف عليه دولياً وحضارياً، وقبل ذلك إسلامياً؟!!
وهل عرفنا -الآن- لماذا يهربون أو يخالفون؟!

ص.ب 260564 الرياض 11342


[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][الأرشيف][الجزيرة]
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الىchief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الىadmin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت
Copyright, 1997 - 2002 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved