Wednesday 26th January,200511808العددالاربعاء 16 ,ذو الحجة 1425

     أول صحيفة سعودية تصدرعلى شبكة الانترنت

 

انت في "مقـالات"

سوريا وأمريكا: الانزلاق نحو المواجهةسوريا وأمريكا: الانزلاق نحو المواجهة
علي العبد الله (*)

لم تشهد العلاقات الأمريكية السورية هذا المستوى من التوتر، رغم وضع سورية منذ عقود على القائمة الأمريكية للدول التي ترعى الإرهاب، إلا مع الإدارة الأمريكية الحالية، التي تتبنى وجهة نظر عقائدية مشبعة برؤى دينية وأسطورية، ونزعة عسكرية صرفة. حيث قاد احتلال العراق إلى قيام بيئة إقليمية جديدة وضعت سورية بين المطرقة الأمريكية والسندان الإسرائيلي. فمن جهة دعوات أمريكية للتكيف مع الإستراتيجية الأمريكية الجديدة في المنطقة ومن جهة أخرى شروط إسرائيلية غير مواتية لتسوية الصراع، جعلتها أكثر تعرضية.
مع تصاعد الاستعدادات الأمريكية لغزو العراق بداية عام 2003 شعرت السلطة السورية بالخطر على كيانها، وحاولت استثمار المناخ الدولي الرافض للقرار الأمريكي بالذهاب إلى الحرب، فدخلت في اشتباك دبلوماسي مع الإدارة الأمريكية، خاصة وأنها كانت عضوا في مجلس الأمن، وعبرت عن موقفها بلغة حادة جسدها حديث الوزير فاروق الشرع عن أجندة أمريكية خاصة تريد تحقيقها في العراق، ووصفه للعدوان الأمريكي (بالسطو المسلح). وسمحت للقوى السياسية والاجتماعية السورية بالتعبير عن رفضها للعدوان الأمريكي على العراق.
حاولت واشنطن دفع السلطة السورية إلى تقبّل غزوها العراق، بالتهديد تارة واللين أخرى بإرسال دبلوماسيين ونواب وشيوخ من الكونغرس، مع إصرار على المطالب، فقد طالب كولن باول دمشق في زيارته لها يوم 1-5-2003 أن تدرك مغزى التغيير في جوارها الجغرافي، وتعيد النظر في سياساتها وفقا لذلك. وقال في مؤتمر صحفي قبل لقاء الرئيس السوري: (سأحثهم على مراجعة هذه التغييرات وإلقاء نظرة على بعض السياسات التي اتبعوها في الماضي ليروا إن كان لهذه السياسات صلة بالواقع في ضوء الوضع الجديد) وقال: (إن احتلال العراق وخطة خارطة الطريق تخلقان دينامية إستراتيجية جديدة في المنطقة).
وقد حددت واشنطن شكواها من السياسة السورية ب: سماحها لمتطوعين عرب بدخول العراق لمحاربة القوات الأمريكية، ومساعدة الحكومة العراقية عن طريق تهريب معدات عسكرية من بينها أجهزة رؤية ليلية، وإيواء هاربين عراقيين، وأضافت بعد سقوط بغداد إلى مآخذها، استضافة منظمات فلسطينية تصفها واشنطن بالإرهابية، وتأييد حزب الله الذي تدرجه على قائمة الإرهاب، ووجود قوات سورية في لبنان، بالإضافة إلى السعي لامتلاك أسلحة دمار شامل( أسلحة كيماوية). والحديث عن نقل أسلحة الدمار الشامل العراقية إلى سورية واعتبار ذلك سببا لاستهداف سورية عسكريا كما أعلن ريتشارد بيرل يوم 12-4 -2003.وقد توعّد الرئيس الأمريكي السلطة السورية (إن لم تتعاون).
ردّت السلطة السورية بنفي التهم الأمريكية، خاصة قضية تقديم مساعدات عسكرية للعراق وامتلاك أسلحة دمار شامل، وأوضحت أن وجودها في لبنان منظم باتفاقية أمنية بين البلدين، ووجود المنظمات الفلسطينية وجود إعلامي ورمزي، وهي لا تقوم بعمليات عسكرية ضد إسرائيل من سورية، ودعت واشنطن إلى (التخلي عن أسلوب تقديم الطلبات وإجراء حوار بين الطرفين) حسب قول الوزير فاروق الشرع.
لم يستطع الطرفان الالتقاء عند نقطة، فتجددت الانتقادات المتبادلة حيث وصف رئيس الأركان السوري السياسة الأمريكية في المنطقة (بالفاشلة). وتمسك الرئيس السوري بمعارضته احتلال العراق، والانحياز لإسرائيل وأعلن أن واشنطن أصبحت - لأول مرة- مصدر عدم استقرار في الشرق الأوسط. بينما حركت الإدارة الأمريكية قانون محاسبة سورية واستعادة سيادة لبنان، الذي أجازه الكونغرس ووقعه الرئيس الأمريكي يوم 12- 12- 2003 باعتباره دليلا على تصميم واشنطن على الرد على الدعم السوري للفصائل الفلسطينية وحزب الله، والتواجد في لبنان والسعي للحصول على أسلحة كيماوية، وعملها على تقويض الجهود الأمريكية في العراق.
فسّر عدد من المحللين المأزق الذي تعيشه العلاقات السورية الأمريكية، بالتباين الكبير في الرؤى والأساليب، حيث تنطلق الإدارة الأمريكية من نظرة عسكرية ترى فيها طريقة سهلة وحاسمة في تحقيق الأهداف، وتعطي الأولوية للأمن ومحاربة الإرهاب. لذا تبنت موقفا رافضا لكل مساومة، على خلفية الإدعاء بأن ما تطلبه من سورية ليس أكثر من إصلاح سياسة خاطئة اعتمدتها سورية في العقود الماضية، وهي- واشنطن- غير مستعدة لدفع ثمن لذلك.
ركزت واشنطن بعد التحولات الدرامية في السياسة الخارجية الليبية، الضغط على دمشق، ووضعتها أمام خيارين: النموذج العراقي والنموذج الليبي، حيث دعاها السيناتور توم لانتوس 19-8 - 2004 للاقتداء بليبيا، وعززت ضغطها بطرح مشروع الشرق الأوسط الكبير، والذي يعني من بين أشياء كثيرة، تضحية واشنطن بالاستقرار في المنطقة لحساب التغيير المُسيطر عليه.
ولإغلاق الدائرة لجأت الإدارة الأمريكية إلى مجلس الأمن الدولي، واستصدرت القرار 1559 يوم 2-9-2004 الذي انطوى على عدة دلالات حادة ومباشرة.
لعل أهمها اعتبار الوجود العسكري السوري في لبنان، وبقاء ميليشيات لحزب الله غير شرعيين، وإعطاء انسحاب القوات السورية أولوية.
وقد جاء كلام وليم بيرنز في دمشق حول سحب القوات السورية من لبنان وإنهاء تدخلها في الشؤون الداخلية اللبنانية، والسماح للقوات اللبنانية والحكومة ببسط سلطتها على كل الأراضي اللبنانية. واعتبار السفارة الأمريكية في بيروت التمديد للرئيس لحود (خرقا) للقرار 1559، تكثيفا للضغوط على السلطة السورية وضعها في موقف دقيق جدا.
في المقابل ربطت السلطة السورية الأمن بالسلام ودعت إلى عدم تجزئة حلول القضايا الهامة مثل قضايا الاحتلال، وإلى حل عادل وشامل، كي تكون المفاوضات وسيلة للسلام والأمن لا غاية لذاتها، وميّز الرئيس السوري يوم 1-12-2003 بين تواجد القوات الأمريكية في العراق والدور الذي ستلعبه. وأعلن أنه لا يعارض وجود هذه القوات لكنه يخشى أن تكون عامل زعزعة لاستقرار المنطقة.
وقد ترتب على ذلك سعي السلطة السورية للتوصل إلى اتفاق رزمة تحصل فيه على بعض ما تريد وتقدم للطرف الآخر مقابلا معقولا.
لذا توجه رئيس الجمهورية إلى قطر واليونان ومصر وتركيا باحثا عن وساطة مع الإدارة الأمريكية، وأطلق دعوات ووعودا تعكس مرونة في التعاطي مع ملف الصراع العربي الإسرائيلي، وسمح بتعاون أمني مع المخابرات الأمريكية في محاربة الإرهاب (مقابلة الرئيس السوري مع نيويورك تايمز1- 12- 2003) علّها تكون مدخله إلى قلب واشنطن.
غير أن الإدارة الأمريكية، وبسبب بنيتها العقائدية، لم تقبل أنصاف الحلول، (والمثال الليبي ما زال ماثلا حيث طالبت ليبيا بإجراء تعديلات على بنية النظام الداخلية ). لذا تجاهلت اقتراحا سوريا بتسيير دوريات مشتركة على الحدود مع العراق، وكلفت متشددا أمريكيا بالملف السوري (وزير الدفاع رامسفيلد). ونقلت سورية من مجال القيادة الأوربية إلى مجال القيادة المركزية، أي وضعتها ضمن نطاق عمليات العراق. وكررت المطالب الأمريكية عبر تصريحات متعددة المستويات، وأرسلت سفيرا جديدا لإعطاء انطباع بأن التفاهم ممكن ولكن بالشروط الأمريكية، دون أية مرونة للحيلولة دون تغذية أية أوهام لدى السلطة السورية بإمكان الإفلات من الضغط والاحتفاظ بالأدوار الإقليمية.
وافقت السلطة السورية أثناء زيارة وليم بيرنز إلى دمشق على عقد اجتماعات عسكرية مع مسؤولين عسكريين وأمنيين أمريكيين حضرها مساعد وزير الدفاع لشؤون الأمن الدولي بيتر رودمان والجنرال كيميت الناطق باسم القوات الأمريكية في العراق لوضع آليات لمراقبة الحدود السورية العراقية. كما اتفقت مع وزير الداخلية العراقي الذي زار دمشق مؤخرا حول ضبط الحدود بين البلدين. وألمحت - دمشق- إلى إمكانية تحولها إلى بوابة لحكومة إياد علاوي إلى العالم العربي من جهة. ومن جهة أخرى مباركة الرئيس السوري للتحرك المصري لإنجاح خطة القاتل شارون للانفصال من طرف واحد. حيث أعلن الرئيسان مبارك والأسد في دمشق: (إن على الفصائل الفلسطينية العمل من أجل تنفيذ التزاماتها نحو إقامة دولة فلسطينية مستقلة) وربطا الالتزامات باستحقاقات خطة خارطة الطريق أي وقف العمل المسلح ونزع سلاح الفصائل الفلسطينية، ناهيك عن إعادة نشر القوات السورية في لبنان وسحب بعضها إلى الأراضي السورية.
مع تصاعد عمليات المقاومة في العراق تجددت الاتهامات الأمريكية للسلطة السورية التي- حسب واشنطن- لم تقم باللازم لمنع تسلل المجاهدين إلى العراق. وقد ربطت واشنطن تصاعد العمليات مؤخرا بوجود أعضاء من النظام السابق في سورية يشرفون على تدريب وتمويل هذه العمليات من أموال سرقوها قبيل سقوط النظام، جاءت تصريحات الرئيس الأمريكي التي قال فيها: (إن سورية ضعيفة، وكل الخيارات مفتوحة في التعامل معها). والسيناريوهات التي سربتها الإدارة الأمريكية للإعلام والتي تتضمن القيام بعمليات عسكرية في دمشق لخطف أعضاء النظام العراقي السابق، بالإضافة إلى دخول رئيس الوزراء البريطاني الذي أعلن في إسرائيل أن سورية تشارك في قتل جنود التحالف، وإطلاق مسؤولين عراقيين تهما مباشرة بما فيها إعلان أسماء ضباط سوريين يشرفون على تدريب المجاهدين وإرسالهم إلى العراق في معسكرات تدريب في سورية, جاءت هذه التصريحات لتعكس اتساع الهوة وتنذر بخطر الانزلاق إلى مواجهة مباشرة، وأن تكون محدودة، للتعبير عن جدية التهديدات الأمريكية. لقد كان واضحا أن دمشق قد راهنت على الإرباك الذي تواجهه الإدارة الأمريكية في العراق، وعلى الانتخابات الأمريكية، علّها تأتي بإدارة أمريكية جديدة يمكن التفاهم معها، وهي مراهنة (مقامرة) عكست عدم إدراك السلطة السورية لطبيعة النظام الأمريكي، فالولايات المتحدة، حسب عدد من المعلقين، لن تتخلى عن مخططها حتى لو تغيرت الإدارة الحالية، حيث يمكن أن يتغير الأسلوب دون أن يتغير الهدف والاكتفاء باستخدام القوة اللينة ( نمط الحياة الأمريكية، الثقافة الأمريكية، السينما، التقنية الحديثة) وعدم استخدام القوة الصلبة (الاقتصاد والقوة العسكرية). لذا قد تأتي إدارة ديمقراطية تتبع الأسلوب الأول (القوة اللينة) لكن سيبقى هدف تحقيق المصالح الأمريكية المتمثلة بالإمساك بالنفط العالمي، وتحقيق أمن إسرائيل عبر إعادة صياغة الإقليم قائما وثابتا. غير أن التجديد للرئيس الأمريكي والإشارات التي أرسلتها تسميات وزراء الفترة الرئاسية الثانية، والتي عكست تكريس التشدد والنزعة العسكرية، وضعت السلطة السورية أمام خيارات صعبة، أما القبول بالمطالب الأمريكية أو الدخول في مواجهة مباشرة عبر دعم المقاومة العراقية.
وكلا الخيارين ينطوي على نهايات خطرة فدعم المقاومة العراقية يقود إلى الاصطدام العسكري المباشر مع القوات الأمريكية في العراق أو مع إسرائيل، وتصاعد المقاومة ودفع القوات الأمريكية إلى الانسحاب (الهزيمة ينطوي على خطر سيادة حالة فوضى في العراق) حرب أهلية قد تمتد نارها إلى الداخل السوري أو إلى تقسيم العراق وقيام سلطات أصولية في أجزائه لا تحمل ودا للسلطة السورية.
إن هذا يستدعي من السلطات السورية تحركا إقليميا ودوليا لتهدئة التوتر والالتفات إلى الأوضاع الداخلية وإجراء حوار حول كل القضايا التي خلقت حالة التوتر علّها تشق طريقا للخروج من هذا النفق المظلم.

(*) كاتب سوري

 


[للاتصال بنا] [الإعلانات] [الاشتراكات] [الأرشيف] [الجزيرة]
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت
Copyright, 1997 - 2002 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved