Monday 14th March,200511855العددالأثنين 4 ,صفر 1426

     أول صحيفة سعودية تصدرعلى شبكة الانترنت

 

انت في "الرأي"

فقر المشاعر بين الطلاب والمعلمينفقر المشاعر بين الطلاب والمعلمين
محمد بن إبراهيم الحمد / الزلفي-- جامعة القصيم

هذه الطبقة تمثل شريحة كبرى من الناس فأكثرهم ما بين معلم أو متعلم، أو من قد كان كذلك، ولا ريب أن هذا الميدان من أرحب الميادين للقاء، والتأثير، والفائدة سواء للأفراد أو للأمة، ومع ذلك تجد أن لغة المشاعر تكاد تضمر عند بعض المنتسبين إلى هذا الميدان العظيم، فترى من بعض الطلاب قلة احترام للمعلمين، وتجد فيهم من يطلق لسانه في ثلبهم وعيبهم، وتجد من لا يحسن التعامل، ولا عرض السؤال، ولا التأدب بأدب التلقي عموما، فربما تأخر عن الدرس، وربما أحرج أستاذه بالأسئلة التي لا يريد من ورائها إلا التعنت، وربما أشاح بوجهه عن المعلم وهو يلقي الدرس، وربما اشتغل عن الدرس بجريدة أو كتابٍ، والمعلم يراه وهو على هذه الحال.
فهذه مظاهر توحي بأن من يقع فيها لم يعرف حق العلم، ولم يتأدب بأدب أهله، وهي - في الوقت نفسه - توهي حبال الود بين المعلمين والطلاب.
وكذلك تجد عند بعض المعلمين تعسفا وشدة خارجة عن طورها، فتراه لا يلقي للطلاب بالا، ولا يخاطبهم إلا بعبارات الاحتقار والتنقص والجفاء، كما ذكر العلامة الشيخ محمد الطاهر بن عاشور عن بعض مؤدبي القرون أنه كان يلقي على الصبيان شيئا من الأدب، ويخاطبهم عند الغضب بقوله:


يا فراخ المزابل
ونتاج الأراذل
اقرؤوا لا قرأتم
غيرَ سحر وباطل
روَّح الله منكم
عاجلاً غير آجل

وما هكذا تورد الإبل، وما هكذا تكون العلاقة بين الطلاب ومعلمهم، وإذا سارت على هذا النحو فما المنتظر من الجيل الذي يتربى على تلك المعاملة؟
ولهذا فإنه جدير بالطلاب تبجيل معلميهم، واحترامهم، وإن كانوا ناقصين في نظرهم فخذ - أيها الطالب - ما عند معلمك من خير، وعليك بتوجيبه، والدعاء له، والثناء عليه، وإلا فلا أقل من أن تُقصر عن ذمّه وعيبه، ثم إذا أردت نقاشه في موضوع ما فليكن ذلك بأدب، وحسن تأتٍ بعيداً عن رفع الصوت أو الإسفاف.
ثم إذا وقع معلمك في خطأ ما، وأردت لفت نظره إلى ذلك؛ فلا تقل له: أخطأت، أو نحو ذلك، ولا تفرح بخطئه وإنما تأكد من ذلك، وليكن تنبيهك بأجمل عبارة، وألطف إشارة يدرك بها المعلم خطأه دون أن تشوش عليه قلبه. ثم الزم أدب الطلب معه، فلا تقاطعه إذا تحدث، ولا تنشغل عنه إذا شرع في الدرس، وإذا أردت أن تكسب الود، وتستولي على الأمد - فراع أدب المحادثة مع معلمك، فإذا شرع في حديث فلا تكمله، وإذا عجّبك فاعجب، وإذا فكّهك فاطرب، وإذا أفادك بفائدة فأظهر الفرح إلى غير ذلك مما تستجلب به المحبة، وتطرد السآمة والوحشة.
ثم إنه حقيقٌ على المعلمين أن يعوا جانب المشاعر الصادقة وأثرها، وأن يكونوا لطلابهم مثل الوالد مع الولد، فإذا أردت - أيها المعلم - أن يحبك طلابك فأحببهم، وإذا رغبت بأن يعاملوك وكأنك أب لهم فعاملهم وكأنهم أبناء لك، فإن من الطباع اللازمة للطلاب أنهم يحبون من يتحبب إليهم، ويميلون إلى من يحسن إليهم، ويأنسون بمن يعاملهم بالرفق، ويقابلهم بالبشاشة والبشر، فما لم يشعر الطالب أن معلمه يحبه، ويحب الخير له فلن يُقبل على التلقي منه، ولو أيقن أن الخير عنده، وأي خير يمكن أن يتم بغير حب؟
فجدير بالمربي الحاذق المخلص، إذا أراد أن يصل إلى نفوس طلابه من أقرب طريق، وأن يصلح نزعاتهم بأيسر كلفة، وأن يحملهم على طاعته وامتثال أمره بأسهل وسيلة، أن يتحبب إليهم، ويقابلهم بوجه متهلل، ويبادلهم التحية بأحسن منها، ويحادثهم بلطف وبشاشة، ويظهر لهم من الحنان والعطف ما يحملهم على محبته، فإذا أحبوه أطاعوا أمره، وإذا أطاعوا أمره وصل في توجيههم في الصالحات إلى ما يريد، وتمكن من حملهم على الاستقامة، وطَبْعِهم على الخير والفضيلة.
فإذا ملك نفوسهم بهذه الطريقة حبب إليهم المدرسة، والقراءة والعلم، فالطالب لا يفلح في التربية، ولا ينجح في الدراسة إلا إذا أحب معلمه حبه أبويه، وأحب المدرسة حبه بيته، وكثيراً ما ترى من الطلاب الذين يربيهم معلموهم على هذه الطريقة الحكيمة يباهي أحدهم تِرْبَه بِقِسْمِه ومعلمه، ويباهي زميله من مدرسة أخرى بمدرسته كما يتباهون في العادة بالآباء والبيوت، وما ذلك إلا أثر من آثار المعاملة من المعلم.
هذا ومما يرسخ المحبة وينميها بين المعلم وطلابه زيادة على ما مضى ما يلي:
أ - العناية بمصالح الطلاب وأحوالهم؛ قال ابن جماعة - رحمه الله -: (وينبغي أن يعنى بمصالح الطالب)، وقال: (ويؤنسهم بسؤالهم عن أحوالهم وأحوال من يتعلق بهم).
ب - الصبر على بعض ما يصدر من الطلاب؛ فإن لذلك أثراً في محبة الطلاب لمعلمهم، إذ يدركون أن ذلك نابع من محبته لهم، وشفقته عليهم.
قال الإمام النووي - رحمه الله -: (ويجريه مجرى ولده في الشفقة عليه، والصبر على جفائه، وسوء أدبه، ويعذره في سوء أدب وجفوة تعرض منه في بعض الأحيان، فإن الإنسان معرض للنقائص).
ج - احترام الطلاب ومراعاة مشاعرهم؛ فالمعلم النبيل ذو المروءة والأدب هو من يحترم طلابه، ويراعي مشاعرهم، فلا يؤذيهم بكلمة، أو إشارة، بل يحفظ عليهم عزتهم وكرامتهم طالما أنهم يسيرون على حد الأدب.
قال ابن عباس - رضي الله عنهما -: (أعز الناس عليَّ جليسي الذي يتخطى الناس إليَّ، أما والله إن الذباب يقع عليه فيشق عليَّ).
ولقد كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أكرم الناس لجلسائه، فقد كان يعطي كل واحد منهم نصيبه، ولا يحسب جليسه أن أحداً أكرم عليه منه.
د - التعرف على أسماء الطلاب؛ لأن ذلك يشعرهم بقيمتهم واعتبارهم.
قال ابن جماعة - رحمه الله -: (وينبغي أن يستعلم أسماءهم، وأنسابهم، ومواطنهم، وأحوالهم).
هـ - مخاطبتهم بكناهم وأحب الأسماء إليهم؛ وفي هذا مزيد احترام وتقدير لهم.
قال ابن جماعة: (وينبغي أن يخاطب كلا منهم ولا سيما الفاضل المتميز بكنيته ونحوها من أحب الأسماء إليه، وما فيه له تعظيم وتوقير، فعن عائشة - رضي الله عنها - (كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يكني أصحابه، إكراماً لهم).
و - استشارتهم ببعض الأمور؛ فذلك مما يزرع الثقة في نفوس الطلاب، ومما ينمي الألفة والمحبة بينهم وبين معلمهم.
ز - معرفة الطبائع وفهم العقليات؛ فبذلك تعامل الطالب بما يوائمه، وتعالجه بالدواء الذي يلائمه.
ح - صفاء السريرة للطلاب؛ فإذا كان المعلم صافي السريرة سليم الصدر للطلاب أحبه الطلاب، وعلموا منه الإخلاص لهم، والرحمة بهم، ولو كان يؤدبهم ويعاقبهم على أخطائهم.
فلا ينبغي أن يستهان بإضمار المحبة للطلاب والشفقة عليهم، بحجة أنهم لا يدركون ذلك. لا، بل إنهم يدركون ويميزون، ويلحظون ذلك من نظرات العيون.
وصدق من قال:


والعين تنطق والأفواه صامتة
حتى ترى من ضمير القلب تبيانا
العين تبدي الذي في نفس
من العداوة أو ودٍّ إذا كانا

ومن قال:


إن العيون على القلوب شواهد
فَبَغِيْضُها لك بَيِّنٌ وحبيبُها
وإذا تلاحظت العيونُ تفاوضت
وتحدّثتْ عمَّا تُجنُّ قلوبها
ينْطِقْنَ والأفواهُ صامتةٌ فما
يخفى عليك بريئُها ومريبها

ومن قال:


لا تسألنَّ المرء عما عنده
واسْتمْلِ ما في قلبه من قلبكا
إن كان بغضاً كان عندك مثلُهُ
أو كان حباً فاز منك بحبُكا

هذه بعض الأمور التي تحبب المعلم لطلابه، وتحببهم به، فإذا أحببت الطلاب وأحبوك وجدت سعادتك بينهم أكثر مما تجدها في البيت وبين الأصحاب.
وإليك نبذة عن أحوال المعلمين مع الطلاب، وأحوال الطلاب مع المعلمين فقد روى الذين دوّنوا ترجمة الإمام الفاتح أسد بن الفرات، أنه لما كان يأخذ العلم عن الإمام محمد بن الحسن الشيباني، تلميذ الإمام أبي حنيفة كان الإمام محمد بن الحسن إذا رأى تلميذه أسد ابن الفرات غلب عليه النوم وهو يسهر في تلقي العلم عنه نضح على وجهه رشاشا من الماء، ليجدد له نشاطه، شفقة منه عليه، ورغبة منه في أن ينهض إلى مستوى الإمامة في العلم.
ولولا أن محمد بن الحسن تأدب بأدب الإسلام، وعمل بالمبدأ المحمدي في أن يكون لتلميذه كما يكون الوالد لولده لانتهز فرصة غلبة النوم على تلميذه، وأرجأ الدرس إلى الليلة الثانية، هذا مع ما عُلم من مقام الإمام محمد بن الحسن في الدولة، وكثرة أعماله العلمية، لكنه لما كان يعلم أن من أدب الإسلام أن يكون التلميذ بمنزلة الولد من الوالد التزم مع أسد بن الفرات هذا الأدب الرحيم، وكان من نتيجة ذلك نبوغُ أسد بن الفرات وقيامه للملة الإسلامية بما لا يقوم بمثله إلا أفذاذ النوابغ من صفوة البشر.
(ويقص علينا التاريخ أن في الأساتذة من يحرص على أن يرتقي طلابه في العلم إلى الذروة، ولا يجد في نفسه حرجاً من أن يظهر عليه أحدهم في بحث أو محاورة.
يذكرون أن العلامة أبا عبد الله الشريف التلمساني كان يحمل كلام الطلبة على أحسن وجوهه، ويبرزه في أحسن صوره.
ويروى أن أبا عبد الله هذا كان قد تجاذب مع أستاذه أبي زيد ابن الإمام الكلام في مسألة، وطال البحث اعتراضا وجوابا، حتى ظهر أبو عبد الله على أستاذه أبي زيد، فاعترف له الأستاذ بالإصابة، وأنشد مداعباً:


أعلمه الرماية كل يوم
فلما اشتد ساعده رماني)

والذي يقرأ مثل هذه السير تهتز في نفسه عاطفة احترام لمن أقر بالخطأ، أو اعترف لخصمه بخصلة حمد، وربما كان إكبارهم لمن اقر بالخطأ فوق إكبارهم لمن خالفه فأصاب, وسبب هذا الإكبار عظمة الإنصاف، وعزة من يأخذ نفسه بها في كل حال.
وهذا الشيخ ابن التلمساني، أحد كبار علماء شمال إفريقيا سأله السلطان عن مسألة فقال: إن تلميذي فلانا يحسن الجواب عنها، فوجه السلطان السؤال إلى تلميذ ابن التلمساني، فأحسن الجواب، فأجازه وأحسن منزلته، وكان ابن التلمساني أعلم من تلميذه فيما سأله عنه السلطان، لكنه، لاعتباره تلميذه بمنزلة ولده أراد أن ينوه به في حضرة السلطان كما لو كان ولده حقا.
والطلبة في دستور الإسلام عرفوا كيف يقابلون هذا العطف الأبوي من أساتذتهم بما يكافئه من حرمة ومحبة وإجلال، ومن أقدم الأمثلة على ذلك ما رواه الشعبي، أن زيد بن ثابت - رضي الله عنه - صلى على جنازة، ثم قربت إليه بغلته ليركبها، فبادر إليه عبد الله بن عباس، فأخذ بزمام البغلة، ليساعده على الركوب، فقال له زيد: خل عنه يا ابن عم رسول الله، فأجابه ابن عباس - رضي الله عنهما -: هكذا أمرنا أن نفعل بالعلماء.
وقد حافظت ذرية ابن عباس على هذا الأدب من التلاميذ نحو أساتذتهم بعد أن صار بنو العباس ملوك الدنيا، فقد نقل برهان الإسلام الزرنوجي، في كتاب تعليم المتعلم طرق التعلم: (أن أمير المؤمنين هارون الرشيد بعث ابنه إلى الأصمعي، ليعلمه العلم والأدب، فرآه يوما يتوضأ ويغسل رجله، وابن الخليفة يصب الماء على رجله، فعاتب الخليفة الأصمعي بقول: إنما بعثته إليك لتعلمه وتؤدبه، فلماذا لم تأمره بأن يصب الماء بإحدى يديه، ويغسل بالأخرى رجلك؟
فانظر كيف رأى أن تقصير ابنه في ذلك تقصير في أدب التلميذ مع أستاذه.
وقد علمنا من سيرة ابن خلدون انه لما رزئ بوفاة كبار شيوخه وكان منهم القاضي محمد بن عبد السلام، والرئيس أبو محمد الحضرمي، والعلامة محمد بن إبراهيم الأبلي، ضاق به وطنه، فترك مقامه الوجيه الذي وصل إليه في قصر الإمارة، ورحل عن تونس إلى الجزائر والمغرب الأقصى، لأن مقام أساتذته كان في نفسه فوق كل مقام.
وهذه المحبة الصحيحة التي يكنها التلميذ لأستاذه هي التي حملت العالم أحمد بن القاضي على أن يقول في شيخه المنجوري: (وصارت الدنيا تصغر بين عيني، كلما ذكرت أكل التراب للسانه، والدود لبنانه).


ومن ذلك قول ابن عرفة:
إذا لم يكن في مجلس الدرس
وإيضاح إشكال بأحسن صورة

إلى آخره من الأبيات، فيجيبه تلميذه الأبي بقوله:


يميناً بمن أولاك في العلم رتبة
وزان بك الدنيا بأحسن زينة
لمجلسك الأعلى كفيل بكلها
على حينما عنه المجالس ولت

وهذه مقطوعة بعنوان (رفقاً بها)، وقد قالها الشيخ محمد الخضر حسين في تونس مداعباً أستاذه الشيخ سالم أبو حاجب بعد درس تعرض فيه إلى حكم التضحية بالظباء:


مدَّ في وجرة الحِبَالة يبغي
قَنصاً والظّباء ترتع مرحى
صادها ظبيةً وهمَّ بأن يص
رعَها كالخروف في عيد أضحى
قلت: رفقاً بها ولا تُرهِقنْها
وهي ترنو إليك صرعاً وذبحا
ما أظن السكين ترضى وفيها
حِدَّةٌ أن تخط في الجيد جرحا
خلِّ عنها فعيْنُها أذكرتنا
عينَ أسماءَ وهي بالبشر طفحى

إن هذا الأدب الإسلامي الذي جعل من الطلبة أبناء للأساتذة كفلذات أكبادهم، وجعل من الأساتذة آباء لتلاميذهم يعطفون عليهم أكثر من عطف الآباء على أبنائهم، هو الأدب اللائق بنا أن نرجع إليه لنجدد في تاريخنا عهداً سعيداً، فننعم به ونسعد بنعمته، والطلبة الذين يكتسبون من دراستهم مثل هذا الأدب ينالون به من السعادة أضعاف ما ينالون به من دراسة العلم مهما تقدموا فيه.
ALHAMAD@TOISLAM.NET

 


[للاتصال بنا] [الإعلانات] [الاشتراكات] [الأرشيف] [الجزيرة]
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت
Copyright, 1997 - 2002 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved