أنت الحاضر والماضي والمستقبل، خذ هذه الحقيقة وسوف ترتاح، ولن تنظر خلفك في غضب، كلّما تقدم بك العمر، وتذكر أنّ الغضب على الماضي ومن أجل الماضي، سمة و محطة مررنا بها جميعاً، وسيمرُّ بها أبناؤنا وأحفادنا، لكننا ننسى، ننسى أنّنا قبل خمسين عاماً، عندما كنا شباباً، كنا ننظر لكلِّ قديم باحتقار، ولكلِّ حاضر ببرود، وعيننا دائماً على الصرعات الجديدة. ومن يلعن هذا الجيل ويصب جام غضبه على أبنائه، ينسى أنّه كان مثلهم، الفرق في الأدوات فقط فما كان جديداً في وقتك، هو الآن قطعة من الماضي، لكننا ننسى أنفسنا ونتذكّر أبناءنا وأبناء أصدقائنا، وهو نفس ما كان يفعله آباؤنا معنا، نفس القلق، ونفس الغضب، ونفس الرعونة، في التأديب والثأر، وكأنّ أبناءنا وأبناء أصدقائنا يذكِّروننا بطيشنا ونزقنا وانفلاتنا .. ولأننا نريد أن نستر ماضينا، أو نضع بيننا وبينه حاجزاً، لا نجد ما نصبُّ عليه الغضب، غير هؤلاء الذين أنجبناهم، وتعبنا، وسهرنا، وصرفنا عليهم من مالنا وأعصابنا وصحتنا، لكي يستووا أمامنا زرعاً كامل النمو والنضارة، لكنّنا لا نرى كلَّ ذلك، نرى فقط نزواتهم، وضياعهم وضيقهم، بنا وبأنفسهم، وكلُّ هذا مؤقت، فسوف تنتهي الشحنة العالية، يمتصّها العمل والزوجة وهؤلاء الأبناء، وسوف يأخذون بعد ذلك كراسينا وآلامنا وزهقنا، منهم أو من ماضينا!! أنّ أيّ واحد منا لو فرد شريط حياته، فسوف يرى فيه العجب العجاب، لكن أحداً لا يفعل ذلك، بل إنّ هناك من يدفن ماضيه أو يمسحه، فيحرص في مجالسه وبين أصدقائه على تسجيل سيرة ذاتية جديدة، أمام كلِّ شخص يجلس معه أو يقابله، وينسى أنّ هناك دائماً من يعرف الحقيقة، وفي الوقت المناسب سوف يقولها، مثل هذا الشخص صحته النفسية متردِّية، وهو يزيدها رداءة، مع كلِّ سطر كاذب يضيفه عليها، فالمجد لا يصنعه أبناء الأغنياء، والتفوُّق لا يزور أبناء المدن فقط، هناك العديد من المواطنين وأرباب المال والأعمال، قضوا سنوات من عمرهم لا يعرفون شكل السرير، وبعضهم لا يعرف شكل السقف أصلاً، السقف الذي يظلِّل ويحمي ويشيع الدفء في الجسد، هؤلاء دافعهم للتفوُّق والنجاح أكبر وأكبر، ومع ذلك سوف نجد من هؤلاء من يكذب، ويمسح تاريخه، وكأنّه لم يصنعه بنفسه ولنفسه أولاً، وللعالم أو لبلاده بعد ذلك. من صنع أم كلثوم وعبد الوهاب وعبد الحليم حافظ وبودلير وكافكا وشتاينيك .. كلُّ هؤلاء لم يُولدوا وفي أفواههم ملاعق من ذهب، بل إنّ أحداً منهم لم يدخل الجامعة، ومع ذلك فقد أغنوا قلوبنا وعيوننا وآذاننا، بما أدوه وما كتبوه، وما زلنا بعد رحيلهم وقبله أسرى ما قدّموه .. هؤلاء كان ماضيهم الذي لم يصنعوه صعباً، وحاضرهم كان جيداً، ومستقبلهم نحن نعيش فيه، وكلّما قابلنا أعمالهم ذكرناهم، لنعطيهم تأشيرة جديدة لمستقبل جديد، وكلّما اختفوا من حياتنا سوف يعودون من جديد، مثل خطوط الموضة والموسيقى والعمارة لها حركة دائرية، يدركها من يُعطَى طول العمر، أو طول الثقافة أو المعرفة، أما قصيرو النظر فإنّهم غالباً لا يدركون ذلك. هذه ليست دعوة للتصالح مع الماضي، وليست دعوة للرُّكون للحاضر، ولكنّها دعوة للمستقبل، لندخل إليه بخطوة صلبة، ومعنا ماضينا، فمن يرجم الماضي سيرجمه الحاضر بشراسة أكثر .. ومن يأخذ الماضي، مثلما يأخذ شكسبير ودانتي وتشيكوف واللوفر والاهرامات وحدائق بابل والمسارح الرومانية، سوف يبني لحاضره ومستقبله، كائنات أجمل وأكبر وأرسخ، فالعبق حلاوته في المرور على كافة الأركان والزوايا والأبراج. احذر أن تنظر إلى ماضيك بغضب، كما فعل الكثيرون وسيفعل الكثيرون بعدك، وسوف يكون جزاؤهم بحجم سخطهم وغضبهم والتاريخ لا يكذب .. فلا تكذبوا عليه. ولنتذكر أنّ أسماءنا - مجرّد أسمائنا - تضم كافة العصور: الحاضر والماضي والماضي البعيد والأبعد.
فاكس 014533173 |