Thursday 7th July,200511970العددالخميس 1 ,جمادى الآخر 1426

     أول صحيفة سعودية تصدرعلى شبكة الانترنت

 

انت في "مقـالات"

لا إكراه في.. (الوطنية)!لا إكراه في.. (الوطنية)!
زياد بن عبدالله الدريس

الحديث حول (الوطنية) وعنها وفيها لا يخلو في الغالب من الوقوع في شَرَك إحدى تهمتين: التدجين أو المعارضة.. التزلف أو الثورية.. الخنوع أو التمرد!
هذه الوطنية فوبيا هي ما دفعت كثيراً من المثقفين للانسحاب من هذه الساحة إلى ساحات أخرى أقل أهمية وأقل جدوى في تنمية المجتمع وتذويب إشكالاته، ولكنها أقل إزعاجاً وتهديداً لصورة المثقف الذي لا يريد أن يقال عنه: إنه.. هذا أو ذاك!
أقتحم اليوم هذه الفوبيا -وليست المرة الأولى التي أفعل- وأنا أحمل في يدي شعاراً مفاده: لا أزعم أني أكثر الناس وطنية، لكني أزعم أيضاً أني لست أقلهم وطنية، إن لم أكن أكثرهم.
سؤال تحية العَلَم
أجزم أن الجميع يدرك أن اختيار الحديث عن (تحية العلم) ليس إلا توظيفاً لرمز ودلالة من دلالات الوطنية، وليس حديثاً عن الوطنية كلها؛ إذ ندرك جميعاً أنه ليس كل من أدى تحية العلم هو وطني بالضرورة، كما أن العكس صحيح.
لكن هذا لا يعفي من مساءلة الذين لا يؤدون تحية العلم: لماذا هم يفعلون ذلك؟ هل هو ضعف في وطنيتهم وانتمائهم، أم أن مبررهم شيء مختلف؟!
الإجابة التي نعرفها ولا نريد أن نواجهها بوضوح هي أن عدداً من العلماء وطلبة العلم والمعلمين لا يؤدون تحية العلم، ليس من منطلق موقف معارض للوطن أو مناف للوطنية، ولكنه من منطلق شرعي يستند إلى فتوى من الجهة الرسمية المخولة بالفتيا في البلاد، وليس إلى فتاوى فردية فقط. فمفتي الديار السعودية الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ -رحمه الله-، ومن بعده رئيس هيئة كبار العلماء الشيخ عبد العزيز بن باز -رحمه الله-، والشيخ محمد بن عثيمين -رحمه الله- وعدد آخر من كبار علماء المملكة يفتون بعدم جواز الوقوف تعظيماً لأي سلام وطني أو علم وطني. وإذ يكون الوضع كذلك فإن المسألة لم تعد حديثاً في الوطنية والانتماء، بل هو حديث في خلافات فقهية!
وإذا كنا نطالب دوماً باتخاذ علماء البلاد المعتمدين مرجعية دينية للشباب؛ حماية لهم من فتاوى التفجير أو التتجير، فإننا لن نستطيع أن نجعل هؤلاء العلماء مرة مرجعية يلتجأ إليها، وأخرى هامشاً ومأزقاً يلتجأ منه!
هل أدعو بهذا إلى إقفال باب الاجتهاد في هذه المسائل المدنية، وتفعيل فقه المعاصرة والواقع فيها؟ لا.. ليست دعوتي كذلك، لكنها دعوة إلى مساءلة ومناقشة ومحاورة منبع وأصل وأساس الإشكال، أي العلماء لا المعلمين، حتى لا نصبح كالذي يتساءل عن أسباب ملوحة كأس ماء غرف من البحر!!
الوطنية والمواطنة
تكاثر التنظير في أدبيات الوطنية ومعانيها، حتى انبجس هذا التكاثر عن انشطار المفهوم الأصلي إلى مفهومين اثنين: الوطنية والمواطنة.
حيث أصبحت الوطنية تعني المشاعر العاطفية والوجدانية التي تتكون عند الفرد تجاه الوطن أو الأرض التي يحبها. أما المواطنة فهي الممارسات والسلوكيات والأفعال التي ينتظر من الفرد أداؤها بصورة منسجمة مع قوانين وأنظمة وأمن وسلامة وحماية الوطن، وهو ما يعني أنه ليس بالضرورة أن كل وطني محب لوطنه هو مواطن صالح إيجابي مفيد لوطنه.
وإذا كان الأمر كذلك، فإن الوطنية من حيث هي نبتة وجدانية مشاعرية، لا يمكن استزراعها بالإكراه ولا قطف ثمارها بالقوة، بل هي تنبت عندما تتوفر لها التربة الخصبة والسقيا العذبة، وعندما يتم حمايتها من الآفات والتلوثات.
وإذا كان الله -عز وجل- لم يجعل الدين نفسه بالإكراه {لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ..} فإن من باب أولى أن لا يكون ما سواه بالإكراه. لكننا أيضاً إذ نستحضر أن اللاإكراه في الدين هنا هو في مسألة العقيدة من حيث هي عمل وجداني، أما الشريعة من حيث هي عمل وسلوك فهي ملزمة لكل من سكن في ديار الإسلام. فبالمثل يمكننا القول إنه لا إكراه في الوطنية من حيث هي شعور وجداني، أما المواطنة من حيث هي سلوك وممارسة وعمل ومساهمة وتنمية وفعالية فهي ملزمة لكل من سكن هذا الوطن.
ولا يغيب عن الذهن نماذج من دول وشعوب مجاورة أو غير مجاورة، ممن اشتهر شعبها بوطنيتهم المشتعلة، ومواطنتهم المنطفئة، فيم اشتهر آخر بمواطنة فعالة ومنتجة إزاء وطنية خامدة!
وعليه: فقد يكون حقاً لا إكراه في الوطنية.. لكن لا خير في المواطنة.
والسؤال: هل نحن الآن في حاجة إلى الوطني المحب أم إلى المواطن المنتج أكثر؟
المؤكد أننا نتمنى ونحلم بوجود الاثنين معاً في آن وإناء واحد.
المواطن العالمي
كما كثرت تعريفات الوطن ومعانيه، فقد كثرت تعريفات المواطن ومفاهيمه ومحدداته، واجبات وحقوقاً، طوال القرون القليلة الماضية التي تأسست فيها مكونات الدولة الحديثة، بحدودها الإقليمية وشعاراتها ورموزها.
لكن العولمة الآن توشك أن تحدث مفهوماً جديداً للمواطن، يتجاوز المفهوم التقليدي المؤطر إلى مفهوم ينسجم مع (الإنسان الجديد) الذي تريد العولمة أن تصنعه على نظرها، تأتي العولمة الآن لتكسر الحدود الثقافية والاقتصادية بين الشعوب، ولتحقق حلم أرسطو القديم بنشوء وارتقاء الرابطة الاجتماعية من العائلة إلى القبيلة إلى الدولة إلى الاتحادات الحضارية (على شاكلة الاتحاد الأوروبي) وصولاً إلى النموذج الطوباوي: الدولة الكونية!
هذه الخطى العولمية -التي نراها أضغاث أحلام- بدأت تظهر بعض أعراضها على أجيال الشباب الذين تحولوا إلى مواطنين انترنتيين، يلتقون ويتحادثون ويتسامرون ويتبايعون وجوازات سفرهم هي (www) وهوياتهم هي com و net وorg.
هذا الانفتاح المعلوماتي والثقافي والاقتصادي يطرح سؤالاً مشكلاً في العالم الآن وليس في بلادنا فقط: كيف تحافظ فلسفة التربية على الاستقلال الوطني، في ظل الاعتماد المتبادل اقتصادياً ومعلوماتياً وثقافياً؟
فهل طرحنا هذا السؤال على أنفسنا؟ أو.. هل بدأنا نفكر في كيفية طرحه، قبل التفكير في الإجابة عليه حتى تستمر وتنجح جهودنا في بناء وطنية إيجابية متينة تقاوم عواصف العولمة؟!
حمى الله بلادنا ووطننا من كل مكروه.. وجعل رايته معتزة دوماً.
ورزقنا عشق الوطني وإخلاص المواطن.

 


[للاتصال بنا] [الإعلانات] [الاشتراكات] [الأرشيف] [الجزيرة]
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت
Copyright, 1997 - 2002 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved