*حوار: حسن محني الشهري: لم أكن أفطر.. كنت حمالاً لأغراض الناس.. وأنتظر الثوب الوحيد حتى يجف لألبسه.. كلمات تلخص بداية حياة كفاح رجل رسم نجاحاته على تراب الوطن، ترويها تجاعيد الزمن التي خُطَّت في وجه باسم مفعم بالتواضع والوقار. قصة نستلهم منها عبق التاريخ وأياماً من الجهد والكفاح والمرارة عنوانها الصدق مع الله. خطوات في مسيرة تركت أثراً تجاوز موضع القدم بآلامها نحو مجد مازال يضع بصماته لخطوات تسير فيها الأجيال القادمة. أريحية وتلقائية فاجأنا بها هذا الرجل في حوارنا معه، رغم قساوة الحياة التي عاشها في طيبة وتواضع لم تفاجئنا، فقد سبقتنا بالتعريف بها ملامح وجهه وتصرفاته.. وهو يتحدث إلينا عن سيرته الذاتية أرجعنا فيها إلى زمن العفوية والصراحة، تركت فينا شوقاً للاستماع رغم استطراده والاستلهام رغم استباقه.. لم نكن ونحن معه نعلم أن الماضي يمكن أن يمر أمامنا، أو أن التاريخ يمكن أن يسابقنا لولا كلمات من نحن ضيوف في مجلس حياته.. الشيخ سليمان بن عبد العزيز الراجحي. ****** التعريف * عرفنا بنفسك؟ ومن والدك؟ - أنا اسمي سليمان بن عبد العزيز الراجحي، رجل أعمال ومعروف خاصة في تجارة الصيرفة، والدي هو عبد العزيز الراجحي رجل بسيط من أهل زمان، كانت له محاولات في التجارة ولكنه لم يستمر فيها وكذلك في الزراعة ولم يستمر، واستقر بعد أن فتح له دكانا صغيرا، ثم تطورت الأمور في نهاية التسعينيات الهجرية، فصار تاجراً.. وقصتي في هذا المجال طويلة ومليئة بالصعاب، ولم تكن مفروشة بالورود كما يتوقع البعض، وقد سردت أجزاء من هذا المشوار الطويل في قصة حياتي التي وثقها الدكتور سليمان العلي في مجموعة أشرطة صوتية، وأتمنى أن ينفع الله بهذا التوثيق التاريخي أبنائي من الأجيال الذين سيكونون شباب الغد وأعمدة المستقبل. البكيرية * وأين كانت الولادة والنشأة ؟ - أنا من مواليد مدينة البكيرية، وهي تعتبر مسقط رأسي وهي إحدى مدن منطقة القصيم المعروفة بأهل العلم والتقوى، و(البكيرية) مدينة صغيرة في ذاك الوقت لم تكن بها تجارة واسعة أو زراعة معروفة أو خدمات حج أو عمرة، ولذا انتقلنا منها بعد ذلك. التنقل * ما البلاد التي تنقلت إليها أو كان لكم شبه استقرار جزئي فيها طوال رحلتكم الحياتية؟ - أنا بعد البكيرية انتقلت إلى مدينة الرياض مع أبي وعملت فيها أعمالا كثيرة وأنا ما زلت صغيراً، حيث تنقلت في مهن كثيرة بداية من طباخ إلى حداد إلى حمَّال إلى جامع للحطب وروث الجمال، وكان عمري وقتها فيما بين السابعة والعشرين أي فترة المراهقة كما يقولون. بعد ذلك انتقلت إلى منطقة القصيم حيث كان يوجد بعض الأهل كأعمامي، وعملت هناك لعدة شهور وكان ذلك وأنا صغير وكنت أذهب للقصيم وبريدة أثناء سكني في مدينة الرياض، بعد ذلك عشت أكثر من عشرين سنة في مدينة جدة على البحر، وهي فترة العمل الشاق وتكوين النفس والاستقرار المادي والنفسي والعائلي، حيث ثبت في عملي على عمل الصيرفة كأهم الأعمال التي أقوم بها، ومن خلال جدة بدأت تكوين الشركة وصارت معروفة وعملت خلال ذلك في مجالات جديدة علي مثل أعمال الحج والعمرة وما يخص شؤون البيت الحرام، وكذلك الدخول في عالم الصيرفة بشكله الواسع، وبعد ذلك عدت إلى مدينة الرياض. المقارنة * هل من الممكن أن تقارن لنا بين تلك المدن التي ارتبطت بها مهنيا وحياتيا ونفسيا؟ - أولاً مدينة البكيرية هي مسقط الرأس وهي مدينة صغيرة ووقت ولادتي بها كانت بلدة فقيرة، ولكن رغم ذلك فما زالت لها في نفسي ذكريات عزيزة عليّ، ففيها تعلمت الحب والولاء العائلي حيث وجدت احترام الزوج واحترام الأم والأب، وكيف أن الكبير كبير والصغير صغير. كما تعلمت فيها معنى الإخلاص والتعاون، نعم الإخلاص لأنه لابد من العمل والتعب حتى تحصل على لقمة عيشك، والتعاون لأن كل فرد من أفراد الأسرة له دور كبير في بناء المنزل فليس معنى أن الولد صغير ألا يعمل، بل كلنا أنا واخوتي خرجنا للعمل ونحن أطفال، ولكن طفولتنا تختلف عن طفولة اليوم، فطفولتنا لم تتعد عدة أعوام ثم دخلنا في مجال العمل والحياة، أما أطفال اليوم فيظلون أطفالا لما بعد العشرين. أما مدن بريدة والقصيم فهي مدن أكبر من البكيرية، ولكن تحمل الطبائع والعادات نفسها.. وكانت مدينة القصيم تتميز فعلا بكثرة المساجد والعلماء والدروس الدينية، وأنا من نشأتي أحب الدين وأهله رغم أنني كنت طفلا شقيا في صغري وكنت مختلفا عن إخواني، ولكن كلمة شقي هنا معناها شقي بأدب واحترام ولكنني كنت طفلا صاحب حركات وخفة وسرعة، وهو أمر خف مني سريعا وأثر عليّ في تعليمي. أما مدينة جدة فهي مدينة كالعروس الجميلة تعيش فيها أجواء مختلفة، ففيها البحر الذي يلطف من كل شيء بداية من الجو إلى أخلاق الناس وطبائعهم وملابسهم، فمدينة جدة في رأيي تختلف عن مدن كثيرة في المملكة فهي لها طابعها الخاص حتى أهلها وتجارها مختلفون، الناس في جدة منفتحون أكثر ومنبسطون أكثر والحياة عندهم تشعر أنها سهلة، والذي يعرف جدة لابد أن يتأثر بها ولا يغادرها بسهولة. أما مدينة الرياض فهي المدينة الأم كما يقولون هي الصدر الحنون، فأنا أذهب وأعود إليها، أتيتها طفلا صغيراً وعملت فيها معظم المهن، وتركتها أكثر من عشرين سنة وعدت إليها. وأنا عشت في الرياض وهي مدينة صغيرة ثم كبرت، ورأيتها وهي تكبر، أي أنني كنت أكبر معها، فتخيل مدينة تكبر معك كلما كبرت عاما، تزداد هي في الناس والمباني والأرزاق إلى أن وصلت أنت وهي الى مرحلة الاستقرار، ورغم ذلك فإن لها طموحات كبيرة، وهي مدينة بها مقومات المدن العالمية الآن. الحياة قديماً * أنت عشت مراحل تطور المملكة قبل وبعد الطفرة، حدثنا عن الحياة قديما؟ - والله الحياة قديماً كانت سهلة وبسيطة من ناحية الشكل، ومن الناحية الاقتصادية كان الكثيرون يعيشون في فقر، ولكن حين تذكر كلمة فقر لا يدور في الذهن الفقر القريب من حياتنا الآن لا يقاس أبدا، فالفقر قديما كان شديداً وقاسياً لكثير من الناس، فمثلا فقير اليوم يعتبر ثريا بالنسبة لفقير الأمس، فقير اليوم يشتكي ويقول أنا فقير ورغم ذلك عنده دخل ثابت وثلاجته مليانة وعنده سيارة حتى ولو كانت قديمة، وعنده بدل الثوب عشرة، وقد يقول: أنا فقير وفي منزله شغالة. البساطة * ماذا تقصد بكلمة البساطة؟ - أقصد أن الحياة كانت سهلة وبسيطة، فمثلا الأكل لم يكن يتعدى عدة أصناف بسيطة ولا يعرف غيرها فكان هناك الكبسة واللحم والمرقوق والهريسة، ولم يكن اللحم يؤكل بكثرة مثل هذه الأيام بل كنا نعتمد على الدهن أو لحم الرأس، وفي الفطور والعشاء لم يكن سوى خبز وجبن وحلاوة طحينية أو زيتون في أوقات الرخاء. كذلك لم يكن معروفا من المشروبات إلا القهوة والشاهي وبعض المشروبات ذات العلاقة بالعطارين مثل الينسون والحلبة والسحلب والزنجبيل والتمر هندي، ولم نكن نعرف وقتها ما يسمى بالعصائر التي ظهرت فيما بعد الاحتكاك بالثقافات الأخرى، وكان الطبخ وقتها على أدوات بسيطة من مواقد وأوانٍ، وكانت المشكلة الكبرى في الماء حيث كان يخرج من الآبار وتوصي عليه، وله أماكن خاصة في المنزل وبالنسبة لدورة المياه فكان لكل منزل دورة واحدة مبنية بطريقة بدائية. الملابس * والملابس قديماً؟ - هذه قصة أخرى، فنحن في زماننا لم يكن الإنسان يلبس أكثر من ثوب وغترة، ولم نكن نعرف في كثير من الأحيان السراويل أو الفلاين أو الطواقي والكثير لم يكن يلبس حتى الحذيان، وكان الثوب الواحد يظل على الإنسان من أول ما يشتريه في العيد إلى أن ينقطع أو يأتي ثوب جديد في عيد جديد, وكنا نغسل الثوب وننتظر حتى يجف ونلبسه مرة ثانية. المواصلات قديماً * بالنسبة للمواصلات قديماً هل تتذكرها؟ - كيف لا أتذكرها وأنا عملت حمالاً أو شيالاً أي جزء من المواصلات، كان الاعتماد الأساسي في المواصلات على الحيوانات، حيث كان الجمل الوسيلة الرئيسية وكانت توجد السيارات ولكنها لم تكن منتشرة كوسائل مواصلات عامة بل كانت للخاصة ولبعض الوظائف، وكان الكثير يركب البغال والحمير في التنقل من بلد إلى بلد، وأنا شخصيا كنت أحب السير ومشيت كثيراً في التنقل من بلد لبلد.. وبهذه المناسبة أتذكر رحلة لي مع والدي وأخي حين انتقلنا من البكيرية إلى الرياض ومررنا بالقصيم وبريدة، كان معنا بغل واحد عادة كان يركبه الأب ونحن نسير وفي بعض الأحيان نتبادل الركوب، وكانت رحلة مرهقة وكنت حينها صائما وصغيرا في السن، ورغم أن والدي عرض علي الافطار لأننا على سفر ولصغر سني الذي لم يتعد سنوات، إلا أنني صبرت ولم أفطر إلا في الموعد المحدد رغم تعبي، وبالفعل تعبت تعباً شديداً ولذا وقت الافطار أعطوني أكلا بسيطا هو دهن وتمر ثم ماء قليل وبعد وقت تناولت أكلي الطبيعي. الترفيه قديماً * ألم يكن هناك قديماً من وسائل ترفيه؟ - كما كانت الحياة بسيطة فإن وسائل الترفيه أيضا كانت بسيطة، حيث كانت بعض الألعاب الشعبية للأطفال وكذلك الفتيات، أما الرجال فكان لهم بعض السمر الخفيف بعد العشاء، حيث يسمعون القصص أو يغنون على بعض الفنون الشعبية وقتها، وكان الترفيه الكبير حين يسافر إنسان من مكانه لبلد آخر فهذه كانت سعادة كبيرة. الآباء والأبناء * كيف كان شكل العلاقة بين الآباء والأبناء في ذلك الوقت؟ - كانت علاقة مثالية، وغالباً ما كان الآباء شديدين في تعاملهم مع الأبناء، فالأب كان حين يقول كلمة لا ترد، وسماع كلمة الأب واجب كبير لأن عدم سماعها هو في ذلك الوقت خسارة الدنيا الآخرة، أما الآن فيقولون لكل فرد حرية واختيار، ولذا فإن الأبناء في هذه الأيام خرج منهم الفساد كثيراً لعدم سماع كلام الآباء، فمثلا كانت خدمة الوالد واجبا كبيرا فأنا حين كنت صغيراً كنت أذهب لعملي من بعد الفجر إلى صلاة الظهر، وبعد ذلك أظل في خدمة الوالد في المنزل هو وضيوفه من العصر لما بعد العشاء، فكنت أصب له القهوة والشاهي وأحضر الطعام وكان هذا يسبب لي سعادة كبيرة، وحين عشنا أنا والوالد معا فترة أثناء رحلة لنا في مدينة حائل، حيث كان لي عم توفي وذهب والدي لمعالجة أمر الميراث وسكنا معا فكنت أقوم بخدمته كلها من طبخ وغسل وتحضير مشروبات، وكان كل همي هو كيف أجعله لا يحتاج إلى شيء أبدا، وغالبا في تلك الأيام ما يخرج الأولاد في مهنة أبيهم، فمن كان أبوه نجاراً خرج نجاراً أو مزارعاً خرج مزارعاً وهكذا، وإذا لم يخرج جميع الأولاد هكذا فعلى الأقل ولد أو اثنين. وأنا والدي عودنا على الجدية والصرامة مثل كثير من آباء العصر القديم، ولذا تخرجنا نتحمل المسؤولية فأنا تحملت المسؤولية في المنزل من حيث المصاريف وأنا عندي اثنا عشر عاما، وكان والدي يقول كل واحد منكم يتحمل مسؤوليته فكان جميع اخوتي يعملون في أعمال حرة أثناء دراستهم. * إذن هل تعتقد أن تربية زمان أفضل؟ - نعم تربية زمان أكثر فاعلية من تربية هذه الأيام، فالطفل عائلته تستفيد منه حين يتحمل المسؤولية من بدري وكذلك وطنه، فأنا مثلا كان عندي تجارة ورأسمال ومحلات وتزوجت وأنا عندي خمسة عشر عاما، لو حسبت هذه الأيام لوجدتها قبل طالب في أول الثانوية العامة، هل هناك طالب في الثانوية الآن متزوج وعنده محلات وأموال ؟، بالطبع لا والظروف لا تسمح الآن بالزواج المبكر، ولكن المقصد هنا هو تحمل المسؤولية، فأنا أقرأ الآن عن الشباب العاطل الذي ليس له وظيفة وينتظر خطابا من الحكومة للتعيين في أي وظيفة، وأتعجب انه ينتظر الخطاب سنوات ولا يعمل حتى يقارب الثلاثين ويعتمد على أهله في تلك الفترة، أنا عقلي لا يقبل ذلك.. كيف ينتظر شاب خطاب التعيين ؟ عليه بالبحث عن عمل في المقام الأول، عليه أن يتعلم أي شيء جديد إذا لم يجد وظيفة فيما يعرفه، المهم ألا يقف عاجزاً أو يمر يوم دون عمل هذه كارثة، من المفروض ألا يوجد ما يسمى شباب عاطل، وإلا لماذا يأتي إلينا شباب من الخارج ليعملوا ؟ فلنعمل مثلهم، الذي يريد أن يبحث عن عمل سيجد، ثم بعد ذلك فلتأت الوظيفة أو لا تأتي فتلك مسألة أخرى. التعليم * حدثنا عن التعليم في وقتها وعن تعليمك أنت؟ - كان يوجد تعليم في المملكة ولكن المدارس قليلة وفي كل قرية كانت توجد مدارس ابتدائية علاوة على حلقات ودروس تحفيظ القرآن الكريم، أما المدارس الثانوية فكانت في المدن الكبرى، وكان يدخل المدارس الابتدائية الكثير ولكن لم يكن يكمل إلا القليل من الطلبة نظراً للثقافة العامة وقتها وللظروف الاقتصادية في أحيان كثيرة، ومن كان يدخل المدرسة الثانوية كان يعتبر هذا شيئا كبيرا، وأنا اخوتي كلهم اهتموا بالتعليم ونجحوا فيه ولكنني كنت طفلا شقيا - كما سبق وقلت - فكنت أتغيب عن المدرسة وأتعارك مع الطلاب ولا أنتبه للدروس وصار المعلمون يشتكون مني كثيراً، ولم تكن لي رغبة في إكمال التعليم لأنني كنت منشغلا بحب العمل خارج المدرسة، فكنت مشدوداً للتجارة منذ طفولتي ولذا لم أكمل تعليمي، ولكنني في المقابل اهتممت بالتجارة وأكملت تعليمي بطرق أخرى. بدايات التجارة * حدثنا عن أول بداياتك التجارية؟ - أنا أول ما بدأت في التجارة بدأت بشراء (الجاز)، حيث لم يكن هناك كهرباء ولا بنزين حيث كان يأتي من خارج المملكة ولم تكن هناك مصاف.. والجاز كان يأتي في تنكات ثم تعبأ في قوارير، وكان عمري في ذاك الوقت حوالي عشر سنين، وكنت أربح خلال يومين قرشا أو قرشا ونصف، وكذلك تنكة أبيعها بثلاثة أو أربعة قروش وكان ذلك تقريبا حوالي عام 1356هـ، واستمر الحال هكذا فترة في التجارة، ثم تطورت الأمور في التجارة. التحميل * ما المهنة التجارية بعد ذلك؟ - بدأت أحمل للناس أغراضهم أي أشيلها، وإذا أذَّن الظهر أقوم برصد أغراض الناس وأراقبها، وكان ذلك مقابل نصف قرش، وكان الريال حوالي 22 قرشا في ذلك الزمن، وكنت أحمل الأغراض في زمبيل وكانت المسافة حوالي كيلو متر في الحملة من حي إلى حي، وكان سور في الرياض يغلق في الساعة الرابعة عصراً ولا يدخل أحد ولا يخرج أحد بعدها وكنت أكافح في ذلك. * ماذا فعلت بثمن الحمالة وقتها؟ - أشتري بما معي من قروش طحيناً وأردت أن نعمل مرقوقاً لنغير طعم الأكل، أو أشتري لحماً بسيطاً للمنزل. وكان هذا شيء كبير وقتها. بعد ذلك عملت طباخاً لإحدى الشركات التي تعمل في مشاريع الدولة. صاحب محل عملت طباخاً فترة ثم تركتها.. لماذا؟ وماذا فعلت بعد ذلك؟ - كان يوجد معي في أثناء عملي طباخاً، رجلٌ يأخذ أكثر مني، فقلتُ لهم زيدوني أو أستقيلُ وبالفعل استقلتُ واخترتُ محلاً صغيراً وبدأتُ أبيعُ سكراً وشاهياً وقهوةً وهيلاً وكان هذا عام 1365هجرية وعمري وقتها خمسة عشر عاماً. وكانت ثروتي وقتها حوالي (400 ريال) فقررت أنْ أستفيدَ منها في المواد الغذائية. وكانت المؤن تأتي من سيارة تأتي من البحرين وكانت تأتي بالحلاوة والمواد الغذائية.. وبعد فترة بسيطة كان معي حوالي سبعمائة ريال كرأس مال وكنت أسكن مع أمي وقتها. العصامية * وكيف كنت تأكل وقتها؟ وبالتأكيد كنت عصامياً حتى تبني نفسك بنفسك؟ - نعم لم أكن أفطر وكنت أؤخر الغداء.. وكان المطعم الذي أمامنا يبيع الخبز بقرش ونصف وفي آخر النهار يخفض من الثمن فكنت أنتظر حتى يأتي هذا التخفيض واشتري بدل الرغيف رغيفين ويعتبر لي أكلة واحدة كبيرة.. وطوال النهار كنت أشرب الشاهي. وفي يوم الجمعة كنت آكل مع العائلة لحمة رأس وكرشة ومرقة حيث لم يكن هناك فلوس للإتيان باللحم.. واستمررت على هذه الحالة (4) أشهر. الصراف * في عام 1376هجرية بدأت الاستقلال بنفسك؟ - نعم فتحت دكاناً في عام 1376هـ باسم أخي صالح وقلت له بعد فترة: إما نتشارك، أو أن تأخذه وحدك، أو آخذه وحدي. قال لي: نتشارك. قلتُ: كلٌ منَّا يدفع مائة ألف ريال. وكانت الفلوس بدأت تكبر وكنا نفكر في ماذا نضعها؟ وقد هدانا تفكيرنا إلى وضعها في حديقة ندفنها فيها وبعد طلوع الفجر كنا نبحث عن أي راكب ذاهب للرياض ونعطيه الفلوس ليوصلها من دون أن نسأله عن اسمه ونتصل بالتليفون ونصف الرجل وحين يصل الرجل يقابله الناس في الرياض. العملات * ما هي العملات السائدة وقتعها وقيمتها؟ - كان الريال بحوالي (22) قرشاً وكان التاجر هو من يملك ألف ريال وقتها وكان يعتبر وقتها أكبر تاجر. وكانت العملة بالريال الفرنسي ثم صارت بالروبية ثم صارت بالريال السعودي الكبير. ثم جاء الريال العربي السعودي الصغير مثل ربع الريال ونصف الريال والريال. بداية التجارة الكبيرة * في ذلك الوقت رغم بدايتك التجارية الكبيرة كيف كانت حالتك وقتها؟ - كنت مستأجراً منزلاً وعندي زوجتان وصار لي أولاد وكان يعمل بجانبي ويسكن معي أيضا بن عمي لي وكانت مصاريف المنزل في الشهر حوالي عشرة ريالات فآتي منها باللحم. وفي عام 1384هـ اشتريتُ فيلا في حي الكندرة وفي عام 1388هـ اشتريتُ أرضاً في جنوب جدة وبنيتُ فيها وسكنت الدار عام 1390هـ وظللت فيها فترة حتى عدت بعد عدة سنوات إلى الرياض. وأنا أتذكر أنني عشت في جدة 22 سنة وفي خلال هذه المدة لم يفت يوم دون أن يكون عندي ضيوف.. كل يوم ضيوف.. وكانت زوجاتي صالحات يقومون بالواجب ويخدمون الصغير والكبير حتى وأنا غائب خارج جدة. وعمل الصرافة كان يستدعي مني أن اذهب يومياً ما بين مكة وجدة.. ووقتها كنت أذهب لبيروت في يوم واحد وأعود في نفس اليوم حيث لم أكن أبيت أو آكل فيها بل آكل في الطيارة. وكنت أرسل طرود الصرافة مثلاً لنيجيريا ووصل الطرد بعد 40 يوماً وكنت متأكد أنه لا يضيع. وفي ذات مرة سرقت الأموال في فرنسا ولكنها عادت بفضل الله وتقواه وكنت متأكداً من عودتها. رحلة الزواج * كيف تزوجت.. أحكي لنا ذلك؟ وكيف استقامت الحياة معك بعد الزواج؟ خاصة أنك كنت صغير السن؟ - كان عمري وقتها خمسة عشر عاماً.. والدي كان يعيش مع الزوجة الثانية له وأعيش أنا مع أمي وذات يوم وأنا عائد من العمل طلبت مني أمي أن أطبخ لها وفعلاً طبخت لها لحماً ومرقوقاً وكنت سعيداً جداً في هذا اليوم لأن أمي طلبت مني شيئاً وفعلته لها.. وأنا طوال عمري لم أرد لأمي وأبي أي شيء.. ولم أقل لا أبداً لهما. وبعدها بيومين وجدت أمي زعلانة.. وكان في وقتها أخي صالح يتزوج.. ولكن أمي قالت لي لا بد الآن أن تتزوج وكان عمري وقتها خمسة عشر عاماً.. وكنت متملكاً على ابنة عمي ولكن كان الاتفاق على الزواج بعد عامين أي عام 1367هـ أي باقي سنتين. وذهبت وبعت الدكان وكان صافي ما معي حوالي ألف وخمسمائة ريال وتزوجت.. ورجعت للقصيم بعد الزواج ولم يتبقَ معي من الريالات إلا ثلاثةٌ وفي الطريق للقصيم كنا في وقت عيد وقال الجماعة الذين في السيارة نبغى نعيّد واشترينا ذبيحةً كاملةً بالرز وكانت بتسعة ريالات وقُسِمت على سليمان النملة وعبدالله الخريطي ووالدي وأنا وأعطيت آخر ثلاثة ريالات كانت معي. وحين وصلت كان أخي صالح يفتح محلاً للصرافة أي محل صغير وقال لي أكلك وشربك على حسابي ومعاشك 30 ريالاً في الشهر وعملت معه فترة في الصرافة. وفي عام 1367هـ تزوجت ابنة عمي التي كنت خطبتها أولاً أي تزوجت الزوجة الثانية. ومن عام 1370هـ كنت أسافر وحججت في مكة وبدأت أعمل في الصرافة مع الحجاج اشتري وأبيع عملة للحجاج.. وكان يساعدني آل السبيعي حيث لم يكن عندي محل ولا مكان وكنت أحط أموالي عند محمد علي السبيعي وأنام عنده وآكل عنده وأشرب رغم أنني كنت منافساً له في شغله. وكان آل سبيعي محمد وعبدالله يعاملونني بالحسنى وأنا لا أستطيع أن أغطي جميلهم ولن أغطيه لأن الذي يعمل المعروف في الأول له الحق الأكبر ولا تستطيع الرد أبداً وأنا الواجب عليّ الآن ادعو لهم. وبعد فترة من عملي تزوجت مرة ثالثة ورابعة حسب الشرع وأنا سعيد في زواجي وبيتي والحمد لله. مهنة التجارة * ماذا تقول عن مهنة التجارة بعد تلك الرحلة الناجحة؟ - أقول إن الله كتب على البعض مهنة التجارة.. والبعض تأتيه مهنة التجارة ولا يعرف كيف يستفيد منها لأن الله كتبها على البعض رغم أن كل الناس يسعون ويريدون أن يكونوا أغنياء ويبعدون عن الفقر. رؤيتي * ما هي رؤيتك كتاجر؟ - أنا رؤيتي دائماً أن لا يضع التاجر كل ما عنده في سلة واحدة فأنا أضع في كذا اتجاه.. فأنا أنصح كل إنسان بتوزيع أشيائه وأنا أفعل ذلك منذ خمسين سنة. العمل قديماً والآن * كيف تفرق بين شكل العمل في البداية وشكله الآن؟ - الحمد لله الدنيا الآن تطورت وقد كنا نعمل كثيراً ونجتهد ومثلاً كان البريد عبارة عن الذي يصله البرق أولاً هو الذي يكسب. الآن الدنيا تطورات والوسائل تغيرت ويستطيع الواحد بمجهود صغير أن يفعل أشياء كثيرة. وكنا نؤمن بأشياء مثل أن الله يكتب عليك الخسارة إذا خسرت ويكتب عليك الربح إذا ربحت وكنا نتعامل بالفن الإداري. دور الدولة * ما هو دور الدولة في الاقتصاد؟ - الحمد لله دور الدولة هو تنشيط العملية الاقتصادية والمملكة عندنا بفضل الله ترعى الاقتصاد والمواطن وتعمل لصالح الناس وهذه نعمة كبيرة. شخصيات مؤثرة * ما هي الشخصيات التي أثرت فيكم ولها الفضل بعد الله في الوصول إلى هذه المرحلة؟ - لي إخواني كثيرون وزملاء من عهد الدراسة والأخ صالح هو أول من بدأ بالأعمال الصالحة وأخي كان موظفاً ونحن تعلمنا الحكمة واطلبوا العلم ولو في الصين. كما أننا تعلمنا من أخطائنا وتعلمنا من الناس والناس علمتنا ونحن تعلمنا منهم وأهم علم هو علم التجارب. الأسهم لا تعليق.. * ما رأيك في الأسهم.. خاصة في ظل ارتفاع أسعار البترول؟ - أنا لا أعلق على الأسهم حتى لا يزعل البعض مني أولا يرضى.. وأنا لا أحب أن أغضب أحداً. المحطات الصعبة * ما هي المحطات الصعبة التي واجهتها في حياتك؟ - الحياة كلها صعبة ولا يوجد شيء اسمه صعب وآخر غير صعب.. والله جعل في هذه الحياة كيف نكافح بصعوبة والإنسان الناجح هو الذي يكافح في هذه الحياة. الأولاد والعمل * هل توجه أو تجبر أولادك على التوجه نحو الأعمال؟ - لا بد أن يحب الشخص العمل ونعرف ماذا يريد لأنه إذا كان هذا الشخص يحب عمله سنساعده، هذا جانب.. أما الجانب الثاني أن الإنتاج يرتبط بحب العمل. صفات العمل * ماهي أبرز صفاتك في العمل؟ - أنني أحب عملي كثيراً وأبدأه من الساعة السادسة والنصف صباحاً.. وإذا التزمت بموعد لا بد أن أكون قبل هذا الموعد.. وذات مرة في سويسرا واعدتُ رجلاً الساعة تسعة وبنشرت السيارة وتأخرت حوالي أربع دقائق.. ورفض هذا الرجل أن يستقبلني وشرحت له الوضع فقال هذه عادات. وبعد ثلاثة أشهر طلب مني موعداً.. وجاء متأخراً عن موعده عشر دقائق ورفضت أن أستقبله وشرح وضعه ورغم ذلك لم أقابله.. وأنا لا أحب أن أتأخر على أحد ولا أحد يتأخر عليّ. احفظ الله يحفظك * ماذا تقول عن الأمانة بالنسبة للتاجر؟ - أقول احفظ الله يحفظك ويجب على الإنسان أن يرتبط بالله في عمله الدنيوي.. وعندي عقيدة أنني لم أصل إلى ما وصلت إليه إلا لأنني كنت صادقاً مع الله وكنت صادقاً مع الناس ومع نفسي. الأساس التقوى * اعتمدتم في حياتكم على التقوى كسبيل للنجاة هل تذكرون أمثلة أخرى تدل على هذا المفهوم؟ - الخوف من الله والاعتماد على الله بأنه المتصرف في كل شيء.. كل هذا يعطي للإنسان أشياء عظيمة وينمي عقل الإنسان وتنزل محبة الناس نتيجة ذلك.. والله إذا أحب العبد جعل الناس يحبونه. وأنا لا أزكي نفسي على الله رغم تقصيري في حقه.. وأنا كنت أزكي عن صحتي وأموالي. وكانت العلاقة مع الله هي التي تخرجني من أزمات عائلية أو أزمات مالية. وفي ذات مرة كانت معي شنطة بها ثلاثة ملايين ريال وكنت في بيروت وفي التاكسي لاحظت معي في التاكسي اثنين يشيران لبعضهما.. وفكرتُ في خطة أحاول بها النجاة من ذلك.. فقلت للرجل الذي بجواري أنت من أهل البلد فقال نعم.. فقلت له إنني رجل مسكين وغريب وجئت للعلاج في بلادكم ولكن وجدت الفندق غالياً وكان السكن وقتها بليرة وعليّ العودة الآن. وبالفعل غيروا اتجاه السيارة ولم يلاحظوا أنني فهمت وأعدت عليهم الخطة التي نجاني بها الله. وقصة أخرى.. كنتُ في رحلة لجنيف وكان منظري أو ملابسي عادية لا تلفت النظر.. وحين جاء وقت الصلاة قالوا في أنفسهم إنه رجل صادق؛ وقالوا أملي شروطك وتعاقدت معهم على شروطي، وأنا لم أترك صلاتي في حياتي وكذلك لم أشرب السجائر وفي وسط أهم الاجتماعات الكبيرة والدولية كنت أقيم الصلاة ولا أحب أي مجلس فيه خمر أبداً. التوفيق * كيف وفقت في عملك وبيتك رغم كثرة شركاتك وزوجاتك الأربع أولادك ومشاغلك؟ - أعتقد أن الإنسان يجب عليه التنظيم في وقته فلا ينام النهار ويسهر الليل أو يسهر في اجتماعات ليس لها فائدة ويجب وضع نظام وبرامج. وعندي عائلة طيبة تحترمني واحترمهم ونتعامل بود وحب وكرامة وتقدير. والعائلة حين تعرف أنك إنسان ملتزم يتقبلون تأخرك وتقدمك أي يستقبلون منك حين تكون صادقاً معهم وتعطي الثقة بينك وبينهم وكانت الزوجات في حياتهن عوناً لنا حيث لم يكن هناك شغالات أو طباخات ويرعين الأولاد بأنفسهن فائدة التجربة * ماذا تشعر وأنت تقدم تجربتك للآخرين؟ - هذه التجربة التي وثقها الدكتور سليمان العلي من خلال عمل استمر عامين أتمنى أن يستفيد منها المجتمع وأن يستفيد منها الشباب من أصحاب الخبرات ومجتمعنا متعطش للفوائد التي قام بها الآباء وخاصة في عهد المملكة في بدايتها النهضوية وتطورها يجب نقل الحياة الاجتماعية الصادقة للشباب حتى يستفيدوا من مثل هذا التعليم مثل الفائدة من تعليم المدارس. فيجب على الشباب أن يتعلموا ماذا واجه الآباء من متاعب حياتية وفكرية وغذائية وتربوية. ولن يدرك هذا إلا من مر عليه والذي مرّ عليه هذه التجارب عليه نقلها إلى الشباب لعل الله أن يفتح على قلوب الشباب النور وأن يحذوا مثل حذو آبائهم وأن يكونوا في خدمة بلادهم لأنها تستحق منهم الجهد وتقدم لهم الكثير. يوم في حياتي * نريد لمحة عن يومك؟ - يومي.. في الرياض قبل ظهور التلفزيون كنت أصلي العشاء ثم أنام وبعد ظهور التلفزيون صرت أتأخر شوي في النوم. أما في المنطقة الغربية صار الوضع يختلف كنت أدخل البيت الساعة العاشرة وآكل وأجلس وأنام الساعة الثانية عشرة. وبعد العودة للرياض حين تأسست شركة الراجحي كنت أركز في العمل وأصلي الفجر أذهب للعمل وأفطر هناك. وبعد ذلك صرت أحب النوم مبكراً والاستيقاظ مبكراً وذلك إلى يومنا هذا لا أحب السهر إلا في مناسبات خاصة وأنا لا أحب النوم. الاستفادة * أنت عملت في مهن كثيرة طوال رحلة حياتك ماذا استفدت؟ - يجب على الإنسان أن يعتمد على الله أولاً ثم على نفسه.. وكذلك على الإنسان أن يعمل في أكثر من مهنة حتى إذا فشل في إحداها وجد الأخرى حتى يجد مهنة يحبها وتحبه ويبدع فيها, وحتى في الوظيفة يجب أن يحبها الإنسان حتى يستطيع أن يطور فيها ويعلّم نفسه. الرضا * هل أنت راضٍ عن حياتك وإدارة وقتك؟ - من ناحية العمل فأنا راضٍ والحمد لله أما من ناحية العائلة أنا قايم ولكنني مقصر في حقهن لكنني أرجو أن يكونوا راضين ويعذرونني ومن ناحية علاقتي بالله فأنا مقصر مع الله وأتمنى منه المغفرة والتوبة. والحمد لله زوجاتي متدينات ويدعون لي في قيام الليل.
|