Monday 1st August,200511995العددالأثنين 26 ,جمادى الآخر 1426

     أول صحيفة سعودية تصدرعلى شبكة الانترنت

 

انت في "مقـالات"

التعبير عن حبِّ الوطن ( 1)التعبير عن حبِّ الوطن ( 1)
عبدالله الصالح العثيمين

هذا الحديث معتمد جزئيّاً على محاضرة ألقاها كاتب هذه السطور في مدينة أبها قبل أحد عشر يوماً؛ وذلك بناءً على دعوة كريمة من سمو الأميرة العنود بنت عبدالله، حرم صاحب السمو الملكي الأمير خالد الفيصل أمير عسير، رئيسة قطاع النشاط النسائي والطفولة. وكان عنوان المحاضرة: (خواطر حول الوطن والمواطنة).
وقد بدأ الحديث في موضوع تلك المحاضرة عن المعنى اللغوي لكلمة (وطن) في التراث العربي وتطوُّر مدلولها ليكتسب - مع مرور الأيام - معنى لم يكن له من قبل.
والحديث، هنا، مركَّز على ما ورد من تعبير عن حب الوطن. وكثيراً ما تردَّدت على الألسنة عبارة: (حب الوطن من الإيمان). وربما ظنّ بعض من قالوها، أو سمعوها، أنّها حديث نبوي شريف. وهي ليست كذلك؛ مثلها مثل عبارات أخرى تقال ويظنُّها قائلوها، أو سامعوها، أنّها من الحديث من الحديث الشريف. على أنّ من الممكن القول: حب الوطن فطرة فطر الله الإنسان عليها. ولأنّه كذلك قرن، سبحانه، كره الناس الخروج من ديارهم؛ أي أوطانهم، بكرههم قتل أنفسهم، فقال تعالى: {وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُواْ مِن دِيَارِكُم مَّا فَعَلُوهُ إِلاَّ قَلِيلٌ مِّنْهُمْ}وجعل الله النفي من الأرض؛ أي الوطن، عقوبة من العقوبات المقررة جزاءً لمن حارب الله ورسوله وسعى في الأرض فساداً، كما جعله الشارع الحكيم عقوبة من عقوبات المتَّهمين بارتكاب الزنا، بل إنّ الحكومات المختلفة؛ وبخاصة الاستعمارية، استعملت النفي من الأوطان إجراءً سياسياً عقابياً، وإن كان ظالماً في أغلب الأحيان.
ومن أساليب التعبير عن حب الوطن إظهار الحنين إليه عندما يكون المرء بعيداً عنه. وللمفكر العربي الموسوعي العظيم أبي عثمان الجاحظ رسالة لطيفة عنوانها: الحنين إلى الأوطان. وقد ذكر فيها أنّ الحنين إلى الأوطان أمر تشترك فيه جميع الأُمم والشعوب. فقد قال الفرس: من علامة الرُّشد أن تكون النفس إلى مولدها مشتاقة، وإلى مسقط رأسها توَّاقة. وقال الهنود: حرمة بلدك عليك كحرمة أبويك لأنّ غذاءك منهما وأنت جنين، وغذاءهما منه.
وقال جالينوس، الطبيب اليوناني المشهور يتروَّح العليل بنسيم أرضه كما تتروَّح الأرض المجدبة ببلل القطر.
أما العرب فحدِّث ولا حرج عن كثرة ما قاله أوائلهم وحسنه عن حب الوطن والتعلُّق به. ومن ذلك ما قاله أحدهم: إذا كان الطائر يحنُّ إلى أوكاره فالإنسان أحق بالحنين إلى أوطانه. ومع ما كان في ربوع جزيرتهم من شظف العيش فولعهم بها كان شديداً، وحنينهم إليها كان عظيماً. قيل لأعرابي: كيف تصنع في البادية إذا اشتد القيظ، وانتعل كلُّ شيء ظلَّه؟ قال: وهل العيش إلاّ ذاك؟ يمشي أحدنا ميلاً، فيرفضُّ عرقاً، ثم ينصب عصاه ويلقي عليها كساءه، ويجلس في فيئه يكتال الريح، فكأنه في إيوان كسرى.
وقيل: إنّ الوليد بن عبد الملك استظرف أعرابياً لأجوبة سمعها منه، فأبقاه عنده، فمرض ذلك الأعرابي، وبعث إليه الوليد بالأطباء، فقال الأعرابي أبياتاً منها:


قال الأطباء ما يشفيك؟ قلت لهم
دخان رمثٍ من التَّسرير يشفيني

فأمر الوليد أن تُحمل إليه سليخة من رمث، فوافوه بها، لكن المنيَّة كانت أسرع إليه منهم.
ورُوي أنّ عبدالله الجعفري قال: أمرت بصهريج لي في بستان عليه نخل أن يُملأ، فذهبت بأم حسَّانة المُرِّية وابنتها زوجتي. فلما نظرت أم حسَّانة إلى الصهريج قعدت عليه، وأرسلت رجليها في الماء، فقلت لها: ألا تطوفين معنا على هذا النخل لنجني ما طاب من ثمره؟ فقالت: ههنا أعجب إليَّ، فدرنا ساعة ، ثم انصرفنا وهي تخضخض رجليها في الماء، وتحرّك شفتيها.
فقلت: يا أم حسَّانة .. لا أحسبك إلاّ وقد قلت شعراً، قالت: أجل. ثم أنشدتني:


أقول لأدنى صَاحبيَّ أسرُّه
وللعين دَمعٌ يحدر الكُحْلَ ساكبُه
لَعَمْري لنَهيٌ باللّوى نازح القذى
نقي النواحي غير طَرْقٍ مشاربُه(1)
أحبُّ إلينا من صهاريج ملِّئت
لِلُعْبٍ فلم تملُح لديَّ ملاعبُه
فَيَا حبَّذا نجدٌ وطِيْبُ تُرَابه
إذا هضبته بالعشيِّ هواضبُه(2)
وريح صبا نجدٍ إذا ما تنسَّمت
ضُحى أو سرت جنح الظلام جنائبُه(3)
فأقسم لا أنساه ما دمت حيَّة
ومادام ليلٌ عن نهار يعاقبُه

وحكاية ميسون الكلبية، زوجة معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه، من أشهر الحكايات في هذا الموضوع. ومن الأبيات التي قالتها متوجِّدة حانَّة إلى البادية، مفضِّلة إيّاها على حياة الرفاه والترف في قصر الخلافة:


لبيتٌ تخفق الأرواح فيه
أحبُّ إليَّ من قصر مُنِيفِ
ولُبْس عباءة وتقرّ عيني
أحبُّ إليَّ من لُبْس الشُّغوفِ(4)

وحبُّ الأوطان، أو الديار، من أسبابه القوية - في بعض الأحيان أو في أكثرها - حبٌّ لأهلها بمن فيهم، بطبيعة الحال، الحبيب والحبيبة. بل إنّ مصدر الحب لها عند بعض العاشقين هو حب الحبيبة. فأحد الشعراء القدامى الذين تيَّمهم الحب يقول:


أحبُّ الأرض تسكنها سُلَيْمى
وإن كانت بواديها الجُدُوبُ
وما عهدي بحبِّ تراب أرضٍ
ولكن من يحلُّ بها حبيب
وها هو الشاعر ذو الرّمة يقول:
إذا هبَّت الأرواح من نحو جانبٍ
به أهل ميّ هاج قلبي هَبُوبُها
هوى تذرف العينان منه وإنما
هوى كلِّ نفس حيث حلَّ حبيبها

أما مجنون ليلى فما أوضح تعبيره عندما قال:


أمرُّ على الديار ديار ليلى
أقبِّل ذا الجدار وذا الجدارا
وما حبُّ الديار شغفن قلبي
ولكن حبُّ من سكن الديارا

وأمام التعبير العاطفي الجميل لأولئك العاشقين، الذين أحبُّوا الديار لحبِّهم من هم عليها - لعلَّ من المستحسن أن تختتم هذه الحلقة من الحديث بالدعاء مع ذلك الشاعر الذي قال:


سقى الله أرض العاشقين بغيثه
وردَّ إلى الأوطان كلَّ غريب
وأعطى ذوي الهيئات فوق مناهُمُ
ومتَّع محبوباً بقرب حبيب(5)

هوامش:
1- النهي: الغدير. الطَّرْق: مستنقع الماء الذي تبول فيه الإبل. اللِّوى: ما التوى من الرمل.
2- هواضبه: الأمطار الشديدة.
3- جنائبه: جمع جنوب؛ أي الريح الجنوبية.
4- الشفوف: الثياب الرقيقة الناعمة.
5- المراد بذوي الهيئات: الذين لا يُعرفون بالشر.

 


[للاتصال بنا] [الإعلانات] [الاشتراكات] [الأرشيف] [الجزيرة]
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت
Copyright, 1997 - 2002 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved