ليس هناك حقيقة يعيها الإنسان على وجه البسيطة أكثر من حقيقة الموت وأنه آتٍ لا محالة، لكن الغريب أن الموت لشخص عزيز إذا وقع يصاب من حوله بالذهول والصدمة وعدم التصديق، ثم بعد ذلك تبدأ مرحلة التيقن بأن الوفاة قد تمت فعلاً، عندها يبدأ الإنسان بالبكاء أو يبقى البكاء غصة في الحلق وتغرورق العيون بالدموع، ويأخذ الحزن بتلابيب الجميع، وأخيراً يبدأ من حوله بتذكر مآثره وأعماله، فيدعون له بالرحمة والغفران. أمس عندما أذيع خبر وفاة خادم الحرمين الشريفين الملك فهد بن عبدالعزيز، كان من الصعوبة استيعاب الحدث الجلل، وأصبحت بين مصدق وراجٍ أن يكون غير صحيح، ولكن للأسف إرادة الله لا ترد ولئن قال الشاعر:
حتى إذا لم يدع لي صدفة من أمل شرقت بالدمع حتى كاد أن يشرق بي |
فقد كان صادقاً ومعبراً، حقاً لقد بدأ الحزن يجثم على الصدور، وخرجت الدموع دون شعور، ووجدتني أمسح الدمع ثم تعود العيون ثانية مملوءة. إن المصاب بموت الملك فهد بن عبدالعزيز - طيب الله ثراه وأسكنه فسيح جناته - ليس مصاباً عادياً، وهذا القول ليس من باب المبالغة أو إعطاء الموضوع أكثر من حجمه، ولكنها حقيقة يصعب نكرانها أو إخفاؤها، لقد كان - رحمه الله - ملء السمع والبصر، ولقد عرف بمواقفه من التعليم والأمن قبل أن يصل إلى الحكم، عُين وزيراً للمعارف منذ ثلاث وخمسين سنة كأول وزير للوزارة الوليدة، وبذلك عرفه كل طلاب العلم والمعلمين، وله أعمال في مجال التعليم الحديث يعرفها الجميع، كما أن جهوده وطموحاته بإنشاء جامعة في المملكة قد جعلها بتوفيق الله حقيقة عندما أُنشئت الجامعة - جامعة الملك سعود - عام 1377هـ بإمكانات وطاقات بشرية فنية محدودة، ولكن مسيرة التعليم لم تقف عند هذا الحد، ففي عهده الميمون افتتحت آلاف المدارس والمعاهد والكليات يدرس بها ملايين الطلاب والطالبات في مختلف المراحل والتخصصات، ويعجز الخيال عند مقارنة بدايات التعليم بحاضره الآن كماً ونوعاً، ويحتاج الأمر إلى إحصاءات لا تنتهي عن تطور التعليم وما وصل إليه، والفضل في ذلك يعود بعد الله لما تبذله حكومة المملكة منذ عهد الملك عبد العزيز مروراً بعهد الملك سعود وفيصل وخالد وفهد أبناؤه البررة رحمهم الله جميعاً وجزاهم عن أبناء البلاد وأبناء الأمة العربية والإسلامية خير الجزاء. الملك فهد بن عبدالعزيز - رحمه الله - كان حاضراً وشامخاً في مواقفه، ليست التعليمية فقط بل إن القطاع الأمني عندما كان وزيراً للداخلية شهد تطوراً كبيراً، واهتم بتأهيل الكوادر الأمنية وأصبح رجال الأمن يتخرجون بمستويات علمية عالية بعد إنشاء كلية الملك فهد الأمنية وغيرها. أما بعد أن تولى الحكم ملكاً للبلاد خلفاً للمغفور له - بإذن الله - الملك خالد بن عبدالعزيز فقد استمر التطور وبمعدلات عالية في كافة المجالات، وأذكر أنني في بداية السبعينات الميلادية أُتيحت لي فرصة السفر إلى الولايات المتحدة الأمريكية للدراسات العليا وشاهدت الطرق الفسيحة والسريعة التي كانت محل انبهار لي، وتمنيت لو أن عندنا في المملكة مثلها، والآن لم تعد طرق أمريكا السريعة تبهرني لأن عندنا في المملكة الآن مثلها وما هو أفضل منها. رجل التطور والبناء رحمه الله لم يتوقف عند مرفق بعينه بل شمل المرافق كلها من تعليم وصحة وصناعة وتجارة، إن إنشاء الهيئة الملكية للجبيل وينبع تعد خطوة رائدة لتطوير الصناعة وتعزيز القدرة الاقتصادية وتقليل الاعتماد على النفط كمصدر وحيد للدخل، إن المنتجات الصناعية الآن تزاحم منتجات الدول الصناعية وبالأخص في مجال البتروكيماويات والحديد والبلاستيك وغيرها. لقد مرت المملكة العربية السعودية خلال حكم الملك فهد بن عبدالعزيز - رحمه الله - بمواقف راهن كثير من أعداء الأمة على زعزعت أمن واستقرار البلاد، غير مدركين أن الصرح الذي بناه الملك عبدالعزيز قد غاصت جذوره في الأعماق ومن الصعب بل من المستحيل - بإذن الله - اقتلاعه. إن العواصف التي كان للملك فهد - رحمه الله - دور في مرورها بسلام وبانحناءة ذكية منه، فحرب الخليج الأولى واحتلال دولة الكويت، وموقفه الذي لا يُنسى للتصدي للعدوان وإحقاق الحق وعودة الكويت لأهلها لا ينكره إلا جاحد أعمى الله بصره وبصيرته، لقد كانت عودة الكويت بالقوة الدولية الشرعية دعماً للاستقرار والأمن في المملكة، رأى رحمه الله ببصيرته الثاقبة وبعد نظره ضرورة اتخاذ القرار رغم خطورته ومعارضة الداخل والخارج له، وقد أثبتت الأيام أنه كان على حق وأن للضرورة أحكاماً، ولولا فضل الله وتوفيقه، ثم موقف الملك فهد رحمه الله لكان للمنطقة وضع مختلف، إنها الحكمة الإلهية التي ألهمت الملك فهد لاتخاذ القرار المناسب في الوقت المناسب. وتتعدد مواقفه يرحمه الله الداخلية والخارجية، فحرصه على عودة السلام إلى الأشقاء في لبنان واجتماع الطائف يعتبر مرجعية يقدرها رجال لبنان حيث النية الصادقة جعلت الأطراف المختلفة المتباينة في مواقفها تؤيد توجهه، واجتمعت الأطراف المعنية واتفقت على صيغة للسلام ينعم اللبنانيون بثمراتها الآن، ونرجو الله لهم الاستمرار في ذلك. وسياسة المملكة منذ عهد الملك عبدالعزيز في الوفاق والصلح للإخوة الأشقاء في العالم العربي والإسلامي معروفة في كل العهود، وفي عهد الملك فهد بن عبدالعزيز - رحمه الله - زادت المملكة في اهتمامها بالعالم الخارجي واستقراره، والمبادرة لتضميد جراحه، فلا تجد أمة تتعرض لكوارث طبيعية من أعاصير أو زلازل وغيرها أو حروب أو قحط واحتباس المطر إلا وتجد المملكة أول المبادرين بإرسال الإسعافات الطبية والغذائية وغيرها بغض النظر عن الانتماء العرقي أو الديني، بل كانت المساعدات لجميع من نزلت فيه كارثة من شعوب العالم. كما أن مواقف المملكة المتسامحة حتى مع من أخطأ بحقها معروفة ليس ضعفاً ولكن هي شهامة ومروءة، منها على سبيل المثال التوسط في إنهاء المقاطعة الدولية لليبيا وإنهاء موضوع طائرة لوكربي، وإن كان ذلك لم يقابل بالإحسان - وحسبنا الله ونعم الوكيل -. رحيل الملك فهد يرحمه الله سيترك في قلوبنا فراغاً وحزناً عميقاً قد لا تستطيع الأيام تجاوزه، وعزاؤنا أن الملك عبدالله بن عبدالعزيز خير خلف لخير سلف، وإدارة دفة الحكم ليست بغريبة عليه، وخبراته العظيمة التي تراكمت خلال العقود الماضية تجعله مؤهلاً تأهيلاً عالياً لاستمرار مسيرة البناء والتطوير وترسيخ دعائم المملكة والحرص على العلاقات الأخوية والتعاون البناء مع الدول الشقيقة والصديقة. المملكة العربية السعودية دولة عريقة وهي بيت خبرة سياسية واقتصادية وإدارية، وكل من يتولى قيادة المملكة العزيزة لديه التأهيل والخبرة ليقود المسيرة والاستمرار على السياسة الحكيمة للمملكة. أحسن الله عزاءنا بالملك فهد بن عبدالعزيز، وأحسن الله عزاء إخوانه وأبنائه وبناته وعزاء الجميع وأسكنه فسيح جناته وجزاه عنا وعن المسلمين خير الجزاء، فله - غفر الله له - أعمال جليلة في توسعة وعمارة الحرمين الشريفين وإنشاء مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف - الذي جعل كتاب الله في متناول الجميع في الداخل والخارج - أعماله الجليلة تحسب على الله أن تمحص ذنوبه وتدخله جناته مع أولياء الله الصالحين وحسن أولئك رفيقاً. {إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ }.
(*)وكيل جامعة الملك سعود للدراسات العليا والبحث العلمي |