اطلعت على مقال لأيمن النفجان، تناول فيه بالشتم بحثاً لي بعنوان (السبعان والأجفر وزرود وديار يربوع) وما أن قرأت المقال حتى ذكرت حكاية ذلك الغلام الذي ذهب الأعداء بالإبل من عنده، فلما سأله أهل الإبل عنها قال: ذهبوا بها وأوسعتهم شتماً. شحن صاحب المقال مقاله بألفاظ التجهيل والاستهزاء والازدراء وكان من المتوقع بعد تلك الكلمات الرديئة وأسلوب بضاعة الإفلاس أن يرد رواية من روايات كثيرة أتيت بها بدليل علمي أو يضع نصاً من نصوص بحثي تحت مجهر النقد المنهجي أو يضيف أو يضعف أو يستدرك بموضوعية علمية، لكن شيئاً من هذا كله لم يحدث. لقد خدمت بحثي بمادة علمية واسعة، ووثقته بالمصادر القديمة مع الاستئناس بالمراجع الحديثة، وزاوجت بين البلدانيات والتاريخ والأدب وقرنت كل نص بمصدره جرياً على عادة أهل البحث الجاد الرصين، وجاء صاحب المقال لا لينقد البحث وإنما ليوسعه شتماً ومنقصة كحكاية ذلك الغلام. لم يكلف النفجان نفسه بعد التجهيل والازدراء النظر في روايات عن أيام العرب وعن الفتوحات الإسلامية أوردتها، وما درى أن التاريخ نظر وتحقيق واستقراء واستنتاج ومقارنة وتعليل وتدليل، بل هو غض الطرف عن جملة المصادر والمراجع التي استندت عليها؛ لأن النقد عنده هو الحكم على البحث بالبطلان برأي مسبق وكيل التهم والتجهيل ولا شيء غير ذلك. لقد أشرت إلى زرود في سياق ما أرمي إليه من تتبع أخبار أيام العرب والفتوحات الإسلامية، وقلت: إن زرود مجاشعية في الجاهلية نسبة إلى بني مجاشع من حنظلة وخزيمية في الإسلام نسبة إلى خزيمة بن حازم الدارمي الحنظلي، الذي استنبط بها عدداً من الآبار وأقام فيها الدور والمباني وأن أياماً للعرب قد حدثت بها من بينها يوم بين بكر بن وائل وتميم، ويوم بين يربوع من تميم وتغلب. وكان على يربوع آنذاك فارس العرادة وأن له في ذلك شعراً أوردت أبياتاً منه واتبعت ذلك بما ورد في مصادر السيرة النبوية والفتوحات الإسلامية، من أن سعد بن أبي وقاص نزل بجيش القادسية وهو سائر إلى العراق بزرود ثلاثة أشهر بضيافة بني حنظلة، الذين قروا الضيوف شتوة كاملة ووزعوا عليهم من إبلهم، وأنه اجتمع لسعد في ذلك المكان أربعة آلاف من حنظلة وعمرو وسعد والرباب، وأن عمر -رضي الله عنه- قال لما بلغه ذلك: والله لقد رميت ملوك الفرس بوجوه العرب. أوردت هذا واعتمدت فيه على عدد من المصادر القديمة والمراجع الحديثة ولم يكن في وسع صاحب المقال أن يناقشها أو يقرب منها.. وأنَّى له ذلك وحيلته الهروب من زرود إلى جبلي أجأ وسلمى ليشطح بالموضوع إلى ما يهواه من إثارة البلبلة، متغافلاً عن أن بين زرود وديار يربوع الحي المصرم النَّكِد، وبين أجأ وسلمى قرابة 180 كيلاً. تحدثت عن زرود ثم حَزْن يربوع أجل مرابع العرب، فذكرت عدداً من مناهله وأوديته مع وقفات عند أيام فيه لبكر بن وائل وتميم وأسد وحددته وحددت بعض مواضعه وبعض محطات الطريق من الكوفة إلى مكة وأعقبت ذلك بنقولات من المصادر عن المواقع والوقائع وتحديد المسافات، فلم يكن بوسع صاحب المقال أن يقترب منها أو يحاول تطبيقها على الأرض بلدانياً ويستنتج منها تاريخاً وأدباً كما هو صنيع الباحثين. تحدثت عن حزن يربوع وعن الأجفر والأجيفر ووادي السبعان الذي يفضي سيله إليهما، وأن مدافع الوادي هي منطقة الملا بين بقعاء والأجفر وإلى شري، واعتمدت في ذلك على صاحب كتاب بلاد العرب، ثم على الشيخ حمد الجاسر في معجمه، وأضفت فيما يتعلق بالسبعان من أنه على وزن فُعلان وأنه لم يرد في صرف العربية على هذا الوزن غيره كما قال ابن مالك صاحب الألفية. ومع أنني لم أذكر عن السبعان أن الملك فيصل رحمه الله نزل بأرضها لحربها كما أشار إلى ذلك ابن بليهد في كتابه صحيح الأخبار، ولم أذكر أن للشيخ أبو عبدالرحمن بن عقيل الظاهري بحث لم ير النور اسمه (الأصمعيات في السبعان) فإنني قد أشرت إلى بحث له نشره في جريدة (الجزيرة) بعنوان (من أجل خُفاف) كتبه حين كان في جولة علمية في أرض حائل للإعداد لمشروعه الثقافي الكبير الموسوم باسم القبائل العربية القديمة في بلاد الجبلين (تميم وأسد وطيىء) والذي سيرى النور قريباً، وقد استنتج الظاهري أن خفافاً الوارد في قصيدة الشاعر:
لما بدت جلدية من أمامنا وفتك وجاوزنا بلاد تميم |
استنتج أن خفافاً هو جبل جانين إلى الشمال من بلدة السبعان، وأشار في بحثه إلى بلاد يربوع الواقعة في الشمال الشرقي من منطقة حائل وأوفاها بحثاً ودراسة لموسوعته المرتقبة، ووقف عليها ميدانياً والتقى هناك بالرواة وفى الأجفر تحديداً ليتجاوز أيام العرب قديماً في أرض يربوع وأخبار الفتوحات الإسلامية إلى الرحلات المتأخرة إلى هذه الأرض من الجنوب وأهمها رحلة الضياغم وانخزال عشيرة عبدة من عبيدة ونظر من أجل ذلك في عدد من الأخبار والأشعار وظفر بمخطوطة عند أهل الأجفر تتحدث عن هذه الرحلة وهي رحلة مليئة ببغية الباحث في الشعر العامي والتاريخ وقد تناولها بعض الباحثين بالنقد والدراسة. لقد أفدت من معلومات الظاهري في المنطقة حين كنت أجمع مادة كتابي قفار الذي صدر في عام 1423هـ وكتب مقدمته الشيخ الظاهري نفسه، ولن أقف عند قفار طويلاً، وأكتفي بالإشارة إلى كتاب فضائل بني تميم في السنة النبوية وكتاب بنو تميم ومكانتهم في الأدب والتاريخ للأزهري، وكتاب البادية للشرعبي ففيها ما يغني عن قفار، أما ما ذكرته من أن بطوناً من تميم كانت تسكن بعض الأماكن التي استوطنتها أسد في حائل قديماً فإن هذا النص موجود في معجم شمال المملكة للجاسر في صفحات 8 و 9 و11 وورد في الجمهرة للجاسر أيضاً الإشارة إلى خروج بني تميم من قفار إلى الحوطة وسدير في مادة التاء، وقبل ذلك ورد ذلك عند ابن لعبون ثم عند ابن صقيه في كتابه بنو تميم في بلاد الجبلين الذي أصدرته دار اليمامة للبحث والترجمة والنشر. حاول صاحب المقال رد أقوال فالين الفنلندي عن اختصاص العدنانيين ببلاد الجبلين قبل الهجرة اليمانية إلى نجد لا بمنطق ولا حجة ولا مقارنة وإنما لأنها لا توافق هواه، غاضاً النظر عن أن فالين إنما قال: إن الكتب العربية لا تشير أية إشارة إلى منطقة حائل في الزمان الذي سبق الميلاد، حتى بدأ العدنانيون بالهجرة من الحجاز إلى نجد. وبحسب كوسفال دي بريسفال فإن جدهم عدنان ولد حوالي سنة 130ق.م وفالين لم يأت برأي منه استقلالاً وابتداءً وإنما استند على ما في المصادر العربية. ومما يؤسف له أن صاحب المقال حمل على فالين لأنه غير مسلم، وأخبار التاريخ لا بد أن تؤخذ عن عربي مسلم في نظره، ومع ما في هذه النظرة من ضيق الأفق والتقوقع والانكفاء فقد فاته أن فالين مسلم اسمه عبدالولي وهو رائد مدرسة الاستشراق ومكتشف الجزيرة للغربيين، وصاحب أهم وأول كرسي للدراسات الشرقية في أوروبا، وأستاذ للعربية في جامعة هلسنكي، وقد جعل العربية فرعاً مستقلاً في هذه الجامعة. قال فالين: إن الكتاب العرب يقولون إن جميع العدنانيين باستثناء قريش عاشوا عيش بداوة وظلوا وحدهم يملكون نجداً إلى أن بدأت الهجرة من اليمن إلى هذه الديار. ولقد تميز فالين الذي ألف في اللغة العربية واللهجات وكتب عن رحلته في البلاد العربية مجلدات عديدة بأن كتابه عن شمال المملكة لم يكن مجرد انطباعات وتسجيل ملاحظات كعادة كثير من المستشرقين، بل جاء مبنياً على أساس من الاطلاع الواسع على الكتب العربية القديمة ومدعماً بالإحصائيات والأرقام. قال فالين عن قفار: إنها ذات خمسمائة أسرة من تميم وحدهم وإن في الغزالة مائتي أسرة تليهما حائل، ومضى في إحصائياته ومقارنة ما يراه على الطبيعة بما كتب عن المنطقة قديماً وقال: إن تميز تميم قفار بصفات جسمانية إنما يعود إلى ما في القاموس من أن تميماً في الأصل هو الشديد الكامل الخلق وأردف ذلك بالحديث عن الزهو والخيلاء في قفار والأرستقراطية والتميز في الشجاعة واستخدام السلاح والحج إلى مكة في جماعات غفيرة في سبيل الدين لا في سبيل الكسب، وإن هذه البلدة هي الأكبر والأغنى في المنطقة. ونقل عن ابن رشيد خبر هجرة أجداده من جنوب الجزيرة وأفاض في ذكر القبائل القديمة وأخبار هجراتها. لم يكن من غرض بحثي الحديث عن جبلي أجأ وسلمى غير أن صاحب المقال أقحم ذلك إقحاماً وإذا كان لا بد من القول فهذان الجبلان غنيان بأخبار التاريخ والأدب، ومن ذلك أن الشريف محمد بن الحارث غزا وأنزل الفضول من جبل سلمى كما ذكر ابن بشر في عنوان المجد والفضول قبيلة عرفت بآخرة فلم تكن معدودة بهذا الاسم عند العرب في الجاهلية ولا عصور الإسلام المتقدمة وقد رد ابن خلدون مسألة آل فضل والبرامكة وأنكرها، وفي سلمى قال الفرزدق:
على حدث لو إن سلمي أصابها بمثل بنيَّ أرفضَّ منها هضابها |
وعُرف في بني أسد وهم من أهل الجبلين القدماء بطن يقال له بني سلمى قال الشاعر:
إن بني سلمى قوم جلة شم الأنوف لم يذوقوا الذلة |
وبعد قدوم طيئ من اليمن إثر خراب سد مأرب وحلفها لأسد حلت بغوثها وجديلتها في أجأ وسلمى ويعرف جبل أجأ بمناع، وقد يقال المناعان وهما جبلان ومناع بوزن نزال وفي القاموس مناع كقطام أي منع معدول عنه أنشد أبو عبيدة معمر بن المثنّى في كتابه أيام العرب لرجل من تميم:
مناعها من ابل مناعها أما ترى الموت لدى أرباعها |
ونقل حمد الجاسر ما أورده البكري عن مناع كما نقل عن موزل قوله: إن جبال أجأ كانت ملجأ لطيئ من الهجمات. وقال العريفي في كتابه حائل إن طيئاً حالفت بني أسد ثم حالفت غطفان فكانت في مأمن من أن يغزوها أحد من قبل أراضي هذين القبيلين. فالحليفان إذاً هما أسد وطيئ وإذا عدت معهما غطفان قيل لهذه الثلاث مجتمعة الأحلاف أو الأحاليف قال أوس بن حجر:
كأننا والأحلاف هؤلاء في حقبه أظفارها لم تقلم |
وقاد حصن بن حذيفة الفزاري الأحاليف وهو غطفاني لحرب تميم وعامر في النِّسار، وفي ذات الشقوق بحزن يربوع أوقع ضمره النهشلي الحنظلي بالأحاليف هؤلاء. ذكرت المصادر حلف طيئ لأسد وأشار إلى ذلك حمد الجاسر في مقدمة معجم شمال المملكة وفي المعاجم ورد أن أجأ في الأصل إنما هو اسم فتى من العماليق كان يهوى فتاة اسمها سلمى وأنهما هربا ومعهما عجوز حاضنة يقال لها العوجاء فصلبوا الفتى على الجبل الذي عرف باسم أجأ وصلبوا سلمى على الجبل الذي عرف باسم سلمى. ذكرت ذلك المعاجم نقلاً عن ابن الكلبي ونقله عنه من أتى بعده كياقوت الحموي في معجم البلدان، ونقل الرواية حمد الجاسر في معجم شمال المملكة وعلق عليها، وأورد الأصمعي في الأصمعيات لأوس بن غلفاء التميمي قوله:
جلبنا الجياد من جنبي أريك إلى أجأ إلى ضلع الرجام فإنك من هجاء بني تميم كمزاد الغرام إلى الغرام |
وخبر ابن الكلبي عن أجأ وسلمى لا يطمئن إليه؛ فابن الكلبي من وضّاعي اليمانية ومن الذين أسدوا للشعوبية خدمة في التنبيش عن مثالب العرب. والمهم في هذا هو أن أسداً أصبحت سهلية بعد هجرة طيئ من اليمن وأصبحت طيئ جبلية ودارت بعض مفاخر طيئ حول ذلك غير أن نزول الجبال والاحتماء بها إنما كان بعض العرب يراه أمراً غير محمود. ولما كانت العرب تسمي الجبال حجازاً فقد قال أحد بني عكل من الرباب من تميم:
ونحن أناس لا حجاز بأرضنا نلوذ به إلا السيوف الصوارم |
والعرب ترى أن الحصون إنما هي الخيل وكان من وصايا أكثم بن صيفي التميمي حكيم العرب لطيئ قوله: عليكم بالخيل فإنها حصون العرب. على أن الذي يجدر التنبه له هو أن ما كان يعرف بجبل طيئ قديماً ليس هو ما يعرف الآن بمنطقة حائل فهذه المنطقة تضم أراضي واسعة كان يقطنها عدد من القبائل، ولغطفان نصيب الأسد من ذلك فأرضها تمتد من جنوب جبل رمّان ووادي الثلبوت (الشعبة) وهو وادي بني حجاش من ذبيان إلى أطراف وادي الرمة والحرار الواقعة في جنوب وجنوب غرب المنطقة، حتى أن فزارة من ذبيان وحدها وهي فرع غطفاني تحل أرضاً توازي أراضي طيئ بأكملها. وإذا كانت تميم تحل أوسع رقعة في جزيرة العرب مع مطلع الإسلام على حد تعبير حمد الجاسر في الجمهرة فإن جزءاً من هذه الرقعة الواسعة تمتد من أراضي يربوع في البعوضة والأجفر وزرود جنوباً إلى أرض السواد شمالاً. وكان ليربوع ردافة أمراء الحيرة لبلوغها تلك الأراضي وكثرة غاراتها على السواد. إن من العجب انتقاد صاحب المقال لاعتماد الباحثين على أيام العرب في الدراسة، مع أن شعر العرب صدى للأيام والأيام تعين على تصوير حياة الأمة العربية في جزيرتها، ومن الأيام يمكن معرفة التفريعات العربية والتحولات والهجرات وكل هذا لازم للدراسات التاريخية والأدبية والبلدانية والأيام مصدر خصيب من مصادر التاريخ وينبوع من ينابيع الأدب الصافية ونوع من أنواع القصص، بما اشتملت عليه من الوقائع والأحداث وما روي في أثنائها من نثر وشعر وما تدسَّى خلالها من مأثور الحكم وبارع الحيل ومصطفى القول ورائع الكلام. قال الدكتور البياتي بعد أن تحدث عن يوم الصفقة بين تميم والفرس وأيام أخرى مثل يوم الفرات ويوم سفوان: إن هذا بالنسبة للأيام المتصلة بشرق الجزيرة فإذا انحرفنا -يقول البياتي- نحو جهات الشام حيث أعلام الجيش الإمبراطوري الروماني ترفرف فوق الأراضي العربية أطلت أيام أخرى ترتبط ببعضها وبما سبق وتشترك في نفس النسيج الداخلي لتكوين الأيام، ويمكن حصر هذه الأيام في يوم البردان ويوم أُضم ويوم بزاخة ويوم الترويح. يشير البياتي هنا إلى وقائع تميم مع الغساسنة اعتماداً على مصادر الأيام في أُضم والترويح وبزاخة وقد سبقها يوم كنهل وهو يوم غول الثاني وفي كنهل هذا فتك صيّاد الفوارس بالهرماس الغساني، ويأتي بعده يوم بزاخة وهو من أشهر أيام العرب وأبعدها ذكراً، وبزاخة مورد في سفح جبل أجأ، ومن خبر الوقعة فيه أن زيد الفوارس هزم الغساسنة وبذلك اليوم كان جلاء بني غسان عن جزيرة العرب قال الفرزدق:
ملكين يوم بزاخة قتلوهما وكلاهما تاجٌ عليه مكللُ |
د. عبدالرحمن الفريح |