|
|
انت في
|
لست ممن يحبون البكاء على الأطلال، والماضي في عُرف سواد الناس لون من الأطلال، التي ينبغي المرور عليها، فالجديد أفضل وأجمل، وكل ذلك صحيح، لكن الصحيح أيضاً أن للماضي عبقاً ورائحة، يلاحظهما من عاشه، وعندي من الأشياء القديمة الكثير، أسترجعها وأقرأ عنها، وأكتب عنها، وعندما أكتب الآن وغروب شمس الخريف الجميل يلملم رداءه، لا يسعني سوى أن أتذكَّر (المدفع) ففي مثل هذا الوقت الرمضاني، يكون الناس في المدينة المنورة بانتظار انطلاقه، وهي انطلاقة تدفع الجميع لتناول الإفطار، وعادة ما تكون انطلاقة المدفع متزامنة مع أذان المغرب، لكن جمال المدفع في المدينة، وربما في غيرها من مدن الحجاز (كبيرها وصغيرها) كان أكبر وأوسع، وهو يصل واضحاً وقوياً، ولا تكاد تمضي ثانية على انطلاقه، إلا وتكون الأزقة والشوارع، قد خلت تماماً من الناس، سوى قلة تقتضي أعمالهم البقاء في محلاتهم، وعادة ما يتميز أصحاب المحلات، في هذا الشهر الفضيل بيقظة عالية، قد تجعلهم يتركون إفطارهم، لإجبار أي عابر للطريق في ذلك الوقت ليشاركهم إفطارهم كله أو شيئاً منه، المهم لا يتركونه سائراً بعد المدفع، دون أن يسعفوه بثمرة أو كأس ماء.. وكان مدفع رمضان ينطلق من موقعين، أحدهما في جبل سلع (غرب المسجد النبوي) والآخر في قلعة قباء (طريق قباء الطالع) والمكانان مرتفعان عن سطح الأرض، بما يعطي مجالاً لوصول صوت المدفع إلى أقصى مداه، ولا أدري ما هو موقف سكان المناطق التي ينصب عليها المدفع، ما هو موقفهم من صوت المدفع، ورائحة البارود الحادة، التي تنطلق من فوهته، فقلعة قباء التي ما زالت بقاياها ماثلة للعيان حتى الآن (نرجو أن لا يعمد أحد إلى القضاء عليها في مقبل الأيام).. هذه القلعة كانت تشرف على عشرات المزارع ومنازل الفلاحين، لكنها الآن تشرف على غابة من بنايات الاسمنت، وشوارع الاسفلت، بما يتبعها من ضجيج العربات والمكيفات، وهي غير بعيدة عن مسجد قباء، أما منطلق المدفع الثاني فهو قمة جبل سلع، وهو جبل يقع قريباً من المسجد النبوي، وكان أيضاً يشرف على عشرات المنازل والعشش وأسواق الأغنام، ثم صار يشرف على مستشفى فاروق، الذي تحوَّل اسمه إلى مستشفى الولادة والأطفال، وخلف هذا الجبل تقع منطقة (البرابيخ) التي يعبر منها سيل (بطحان) قادماً من جنوب المدينة متجهاً إلى شمالها.. الآن ضاع مسار السيل، أو جرى سده من منبعه، وأصبح مساره طريقاً مسفلتاً وعمائر ومحلات وأسواقاً. |
![]()
[للاتصال بنا] [الإعلانات] [الاشتراكات] [الأرشيف] [الجزيرة] |